الفصل السابع
في مكان أخر جلست ألاء حزينة وخائفة، تنتظر ظهور النتيجة، الأعصاب مشدودة، الكل متوتر، تحتاج من يدعمها، من يشعر بها، جلال لم يقصر في وقوفه إلى جوارها، لكن تخاف أن تحدثه كل ثانية فيمل منها ومن قلقها، تذكرت صديقتها مريم فدمعت عيناها، مريم كانت من أوائل المدرسة دائما، كان الجميع يتوقع دخولها كلية الطب بجدارة، هي رفيقة آلاء المقربة، حلمتا معا بالجامعة والتميز، ولكن شاء القدر أن تمرض مرضا شديدا، حتى آلاء لا تعلم ما هو مرضها، الكل توقع أنها إيجابي كورونا، لذلك اعتذرت عن دخول الامتحانات هذا العام، رغم أنها اجتهدت من بداية العام ودرست، صغيرة هي على مثل هذا الكسر والحرمان من نجاحها وفرحتها، لا تعرف هل لسوء حظها؟! أم أن عدم دخولها الامتحانات خيرا لها؟! فكل شيء بقدر!
حاولت آلاء التواصل مع مريم، لكنها في عزلة تامة، هاتفها مغلق والزيارة ممنوعة، تحدثت إلى والدتها فطمأنتها عليها وطلبت منها الدعاء لها، كانت مريم رقيقة وحساسة عندما تغضب يصيبها هبوط وتعب في القلب وضيق تنفس شديد! هل أصابها مرض بالقلب؟! بعض الفتيات قلن أنها تتمارض، والبعض اشفقن عليها، والبعض قال أنه حسد أو سحر!
كيف لمريم المتفوقة ألا تدخل الامتحان؟! ليت الجميع ينشغل بنفسه ويدع الخلق للخالق، كل شخص لديه سره وظروفه التي يعلمها الله وحده! احتارت آلاء، وهاجمتها الأفكار والخوف على صديقتها من ناحية، والخوف من النتيجة من ناحية أخرى، كتبت ألاء على حائط صفحتها بالفيس بوك:
(أُشفق على جيلنا هذا، الذي أمضى طفولته في التنقل بين مواقع التواصل الاجتماعي، يحلم فقط ولا يعمل، تُدهشه السيارات الفخمة والماركات المشهورة والهواتف الذكية الفخمة وجلسات التصوير وانشغالهم بالقصص الرومانتيكية على مواقع التواصل بل والاهتمام بقراءة الروايات من هذا النوع، حتى أصبح مصطلح "صديقي" سائدًا وذهب الحياء من وجوه البنات والأولاد. انشغالهم بالمواضيع التافهة، كيف ترعرع الجهل فينا إلى حد إننا جعلنا الثانوية العامة أهم من كل شيء وأنها تحديد مصير! مصير ماذا بالله عليكم؟! أمصير الآخرة؟ إن هذا المكان الذي نعيش فيه الآن ليس مكاننا ولن نقيم فيه طويلًا مهما ظننا وخططنا له من أحلام، هنا نحن على جسر والاستقرار في الآخرة فقط، هي مقرنا الأساسي، جنة أم نار، هذا هو المصير، هذه هي الغاية، ملعونة هذه الدنيا!. ملعونة من كل شيء إلا عبادة وعلم نسير به إلى معرفة الله ودخول الجنة بأمان، علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا في الحياة من جديد، ونقدر كل شيء حجمه الحقيقي، أتساءل أيضا كيف ستكون صلاتنا وعبادتنا لله إذا أعطيناها نفس حجم الثانوية العامة؟!.
بالنسبة لي، فأنا أرى إنّ مُستقبلي لا يتوقف على كُلية مُعينة أو مجموع مُحدد، لأن ذلك كان عادة قديمة وانتهت. أرى مُستقبلي مبني على نجاحي في حياتي، نجاحي فقط! أنا دخلت الامتحانات وبذلت ما بوسعي، ونحن مُطالبون بالسّعي لا بالنتيجة! المكان الذي اختاره الله لي، لا يهم ما هو، المُهم آلاء ماذا ستفعل فيه! المكان لا يصنع الإنسان، بل الإنسان يصنع نفسه أينما حلَّ وارتحلَ).
ظلت آلاء على مدار ساعة تتلقى التعليقات على منشورها وترد على هذه وتلك حتى تعبت.
سمعت قرآن الفجر؛ فأغلقت هاتفها وقررت أن تصلى وتدعو الله لها وللجميع بالرضا بقضاء الله، فالخير دائما فيما يختاره الله. صلت ودعت وجلست تقرأ القرآن حتى طلوع الشمس. ورغم قلقها أرادت أن تبث الأمل في قلب صديقاتها فنشرت على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي:
(يصعد ماء البحر المالح إلى السماء بخاراً فيكون غماماً ثم يعود إلى الأرض غيثاً عذباً نقياً؛ اصعد بقلبك إلى السماء وانظر كيف يعود!)
كانت ألاء ذات صيت واسع في عالم الكتابة، جذبت خواطرها البنات خاصة بنات الثانوية العامة من جميع أنحاء مصر، مما جعلها تنشئ مجموعة خاصة للفتيات فقط، تتناقش معهن في أمور الدين والدنيا وتنشر خواطرها وقصصها وتستمع إلى أرائهم بها، اعتبرتها الكثيرات قدوة لهن في التزامها وعزيمتها. وذلك وطد علاقتها بالكثيرات منهن وصارت معهن صداقات قوية ومحادثات خاصة.
في مكان آخر كانت عائشة في غرفتها ترقص وسط صخب أغاني المهرجانات، تحاول نسيان النتيجة ومنشورات شبكات التواصل الاجتماعي عن التوقعات، وبكاء الصديقات وصياحهم، تعالت رنات هاتفها، كان أحمد، تأففت ولم ترد عليه فعاود الاتصال، هنا أغلقت الموسيقى وهمت بالرد:
- مرحبا أحمد، كيف حالك؟
وقبل أن يرد ويشرح عن المباراة والفوز والفرحة العارمة ككل مرة قاطعته:
- أعتذر أحمد، لقد انتهت علاقتنا ولن أحدثك مرة أخرى.
تعالت ضحكاته، ثم رد بسخرية:
- ماذا تقولي يا عائشة؟! هذه المرة العاشرة بعد المئة اسمع منكِ نفس الكلام! وعاد للضحك .. لكنها غضبت وأغلقت الهاتف بل من شدة غضبها ألقت به أرضا وحطمته! ثم نزلت على ركبتيها باكية، وتعالى نشيج بكائها. لم تجد من يحتوي حزنها، أو يضمها، مسحت دموعها بيدها، واعتدلت في جلستها، ومالت برأسها تستند على حائط الغرفة، لتذهب في رحلاتها القصيرة التي تعيش فيها، دون أن تغادر مكانها، تسافر بلا أمتعة، ولا تذكرة سفر، تحلق في السماء دون أجنحة، بحثا عن السعادة والأمل، في أحلام بعيدة عن الواقع. أحلام اليقظة التي أصبحت مدمنة عليها، تعيش فيها ليلا ونهارا، وهي لا تدري أنها تغرق، فهروبها من الواقع وتماديها في الغوص في الخيال، والأحلام جعلها ترفض الواقع ولا تواجه مشكلاتها، فها هو أحمد الذي أحبته طوال سنوات، تعبت من التعامل معه، لم تتقبل كونه مختلف عن الصورة الخيالية التي رسمتها له، لم تحاول أن تعيش الواقع بل هربت إلى الخيار الأسهل والأمتع لها، وهو أحلام اليقظة!
في مرسى مطروح وعلى موعد الغداء، ذهب خالد زين الدين ، ومعه تلك المذكرات التي يخفيها، القى التحية على الجميع، وجلس إلى جوار سلمى.
تناولوا الغداء وتبادلوا أطراف الحديث، وبينما الكل مشغول أخرج خالد الدفتر ووضعه في يد سلمى؛ تعجبت ونظرت له بدهشة، ليومأ هو برأسه محاولا تهدئتها، وضعته في حقيبتها بسرعة واخفضت رأسها خجلا منه، بينما هو بصوت حان وابتسامة حيّة يهمس:
- لا تخافي لم أقرأ أسراركِ، فقط للأمانة عندما انسكب الشاي وأنا اجفف الورق، وقعت عيني على كلامك عن الثانوية العامة وصديقتكِ فرح، صبّرك الله على فراقها وبالتوفيق للجميع.
تعالت رنات الهاتف، تبشر بظهور النتيجة، وتعالت معها صرخات ما بين فرح وحزن، أصوات زغاريد على الشاطيء من هذا الاتجاه، مرح وفرح وتبادل التهاني بين الأهالي. وصراخ وعويل وبكاء من هناك!






































