الفصل العاشر
كانت رسالة خالد إلى ندى، غريبة بالنسبة لها، ترددت في قرأتها، وارتبكت متسائلة: ماذا يريد مني؟!
وبعد وقت من الحيرة والتردد فتحت الرسالة لتجده يطلب منها أن تكون مشرفة لمجموعة الدفعة، ورسالة أخرى يستشيرها في مشكلة شاب أحب خطيبته السابقة وانتظرها عشرون عاما، وعندما وجدها لم تتعرف عليه فحزن بشدة، خاصة عندما علم أنها تزوجت غيره! وهو من عاش متوهما بأنها تنتظره، وظل يبحث عنها تلك السنوات، وكلماتها تتردد على مسمعه ( لن يمسني غيرك، لن أتزوج غيرك!)، لكنها تزوجت وأنجبت وعاشت حياتها دون أن تستأذنه، أو تهتم لأمره، لقد ضاع عمره في وهم كبير اسمه الحب الأول والوفاء، انتظرها وبحث عنها، ولم يعش حياته، عشرون عام وهو وحيد، يرفض أي ارتباط، يحلم بها ويزداد حبه وتعلقه بها! ولكن عندما وجدها لم تعرفه، فعانى مرارة الفقد والخذلان، وتألم كثيرا.
تقول له أنها تعاني مع زوجها، لتعدد علاقاته النسائية، وأنها لم تشعر معه بالحب والأمان! لكنها سافرت إلى ألمانيا معه واستقرت هناك! وتريد صداقة خطيبها السابق! ولكنه رفض رغم احتياجه لها وحبه لها، هو لا يريد أن يتتبع خطوات الشيطان ويفتنها ويُفتن بها!
طلب رأيها في الأمر وطلب ردا يرسله للسائل، كيف يتغلب على معانته وينسى الألم؟.
لكنها أحست أنه هو صاحب المشكلة، فبكت لا تدري عليه أم على نفسها وحبها له عمرا دون أن يشعر بها.
منذ ظهر خالد وهي لا تكف عن البكاء، خوفا عليه وخوفا منه!
فتحت مدونتها وكتبت:
هي أحبته، وهو أحب غيرها، كلاهما يتعذب، لكن عذابها مضاعف، في حين تخفف عنه وتواسيه فقده لها، يتمزق قلبها، أه لو يعلم! لو طلب روحها لمنحته، لو طلب عمرها لأعطته إياه راضية، لو وضع كل حب العالم له في كفة، ووضع حبها له في كفة لرجحت كفتها دون شك بجدارة! مسكينة، تتحكم فيها مشاعرها ويقودها قلبها لهلاك حتمي، ما زالت تضحي من أجل من تحب، رغم كل ما عانت!.
كان يتابع صفحتها دون علمها، ولا يفهم ماذا تقصد! هو مشغول بزوجته وبتعبه، يريد السفر للعلاج، لكن يؤجل من أجل زوجته ووالدته، تعرض لحادث منذ عام ومن وقتها فقد القدرة على السير، ما علمته ندى أنه يتألم كثيرا نفسيا وصحيا، ضحى من أجل من يحب وخذلته، عانى الكثير وعندما بدأ يعود للحياة، صار الحادث فأعاده للألم والعزلة، تخاف عليه أن يعود لعزلته، بدأت تسمع منه وتود مساعدته بأي شيء، رغم أن ذلك ضغط شديد على أعصابها، كلما تحدثا تبكي، تود لو تحمل عنه كل حزن وألم، تتمنى أن يتعافى ويعود كما كان، تتمنى أن تمنحه سعادة الدنيا، رغم حزنها وألمها.
بعد عدة أسابيع تقابلت سلمى مع ناريمان في كافتيريا الجامعة، فقد التحقت ناريمان بالجامعة الخاصة، وتدرس بكلية الصيدلة، لتحقيق رغبة والدها، رغم أنها كانت تود الالتحاق بمعهد التمثيل، لكن تراجعت بعد ما حدث معها، وحرصت على إرضاء والدها حتى لا يغضب عليها. جلستا وتبادلتا الأحاديث.
وأثناء خروجهما فجأة ظهرت فتاة بصوتها الصاخب ولبسها الملفت، لتصطدم بسلمى، هي نفسها فتاة الشاطئ التي اصطدمت بها، كادت تصفع سلمى علي وجهها لكن جاء شاب ومنعها، هو نفسه الشاب الذي قابلته سلمى على الشاطئ، تعجبت سلمى من تلك المصادفة الغريبة.
بينما وقفت ناريمان تدافع عن صديقتها، تجمع الكثير والكثيرات حولهن، وصلت ندى وحاولت تهدأت ناريمان وسلمى وتكونت منذ تلك اللحظة صداقات بين سلمى وعائشة وجاكلين وندى وناريمان. بعضهن التحق بالكلية انتساب لضعف درجاته، والبعض اضطر للالتحاق بها، لكن جمعهما حبهما للقراءة واجتمعن في مكتبة الجامعة.
وبدأت حكاية كل واحدة داخل أسوار الجامعة، وندى تستمع إلى الجميع وتتألم معهن، تود لو احتضنت الجميع ومحت كل حزن وألم بداخلهن، كانت أكثرهن ألما وحزنا لكنها تخفي ذلك خلف ابتسامتها الدائمة.
في مكان آخر جلس خالد يحمل دفتر مذكراته، اعتاد أن يكتب ويسجل كل ما يمر به، خاصة بعد الحادث واليوم كتب:
ويمضي بنا العمر، ولا ندري هل حقاً عشنا الحياة، أم أننا فقط كُنا على قيدِها مجرد أحياء!
لا اعلم لمّ عندما رأيت ندى تذكرت أيام الطفولة والمراهقة، عاد شريط الذكريات، يمر أمام عيني، أجدني في الشارع مع باقي الأطفال نلعب كرة القدم، لا أحد يغلبني، هكذا كنت المهاجم الأول في الفريق دائما، وليس ذلك فقط، بل كنت الأول في الدراسة، وفي الكونغو فو والكاراتيه، حصلت على ميداليات كثيرة، كنت الأول في العائلة وفي قلب أمي، اعتدت التميز والتدليل، واتهمني الجميع بالغرور، كنت لا أكف عن السير في شوارع مدينتي، لطالما عشقت كل شارع ومكان، النادي للمباريات، الحدائق للتنزه والمرح مع الأصدقاء، المدرسة للعلم والدراسة، المكتبة للقراءة والاطلاع، بيت جدتي الذي كان مليء بالدفء والحنان والحب للجميع، كنت سعيدا جدا، سعادة لا يضاهيها شيء، عشت طفولتي ومراهقتي ما بين اللهو والمرح وحب الجميع.
نعمتُ بحياة تمناها الجميع وغبطني عليها أقراني، كنت اعلم أنني فتى أحلام الكثيرات، فزاد اعتزازي وثقتي بنفسي، شاب مراهق يري نظرات الحب والإعجاب من الجميع، أخذتني الحياة بلهوها ومتاعها، لكنني رفضت الاقتراب من أي فتاة، كان كل زميل يتمتع بعبير فتاة وعطر غيرها ويتطلع في عيون تلك، ويسامرها ثم يفكر في غيرها أيام أخر، لكنني تنزهت عن كل ذلك، رغم محاولات الفتيات معي، بإرسال الرسائل والمكالمات الهاتفية، كنت أصون قلبي للحب الحلال، لم تتعدى مشاعري سوى لحظات إعجاب وبدأت معاناتي مع دخول الثانوية العامة، بدأ التعب نفسيا وصحيا، لا اتذكر عام مر كهذا، محاليل معلقة وحقن وأدوية، أذاكر دروسي في الفراش، أمي تدثرني بآيات الرقية الشرعية وتخاف عليّ من الحسد ودت لو أخفتني عن عيون القريب والغريب، ومرت أيام الامتحانات بتعبها وألمها، مرت ومر معها ذكريات أساتذة كانوا الأقرب إلى قلبي، الكل كان يراني عبقريا ومتميزا ومنفردا، ويتوقع حصولي على ترتيب على مستوى الجمهورية، ويرددوا لولا تعبه لفعلها!
وظهرت النتيجة أشعر جيدا بمشاعر طلاب اليوم، ما بين قلق وخوف ورجاء، وبعد النتيجة حيرة الاختيار، والحمد لله التحقت بأحدى كليات القمة، لأحصل على لقب (طبيب العائلة)، ومحط أنظار الجميع مما زاد خوف أمي عليّ.
الحسد .. الحسد، الآفة التي ترعرعت داخلي، معاناة الخوف والحرص، انتقل قلق أمي لقلبي، حاولت أن اتحرر من مخاوفي، قرأت الكثير من الكتب عن السحر والحسد فزاد قلقي، فلم يكن لدي من العقيدة ما يشدد قلبي ويقوي عزيمتي، ويجعلني أوقن أن الأمر لله وحده، اليقين الذي كنت احتاج إليه للتعافي من القلق والخوف.
كبرت وتمنيت لو كانوا اهتموا بتحفيظي القرأن قبل تلقيني الدروس،
ليتني كنت الأول في حفظ القرأن قبل التفوق في الدراسة، تمنيت لو عاد بي الزمان لاخترت طريقا آخر غير الشهرة في الحياة، لاخترت الشهرة في السماء.
بعد انتهاء التخرج قابلت فتاة في العشرينات تدرس في نفس جامعتي، مرحة، رقيقة، ينسدل شعرها الناعم على كتفها، فيزيدها جمالا، تبتسم فيدق قلبي بحب لم أشعر به من قبل، عشقتها حد الجنون وتعلق بها قلبي وعقلي، تحدثت إلى أمي فأحبتها على قدر حبي لها، في البداية أخفيت عنها أني من عائلة ميسورة الحال، كنت أريد حبا حقيقيا، أريد أن تحب خالد لشخصه لا لثروته ومركزه، كنت أخشى الارتباط بأي فتاة من مدينتي، لشعوري بأنها تريد خالد الثري، تريد السيارة والشقة والعائلة، أردت أن تريدني أنا! خالد الإنسان البسيط الذي يحبها، وتمت الخطبة باكرا، كنت في بداية مشوار حياتي، لكن ظروفها دعتنا إلى الارتباط سريعا، كان ابن عمها يريد الارتباط بها، فأسرعت في طلب الزواج. خوفا من أن أفقد زهرتي، ويقطفها غيري! عشت معها أجمل أيام العمر، قلت لها أحبك آلاف المرات. كنت أشعر كأنها أنا، ذابت أرواحنا معا ولم يعد هناك مجال للأنا والأنانية.
زاد حبنا مع الوقت أضعافا، وسافرت إلى خارج مصر للعمل، كنت أريد تأمين حياتها وتوفير كل ما تستحقه،
عملت في أكبر المستشفيات، اشتريت شقة وصممت مكتبة كبيرة، وحلمت أن نقرأ معا ونعيش معا في راحة وسعادة، وما زال التواصل والحب يزداد داخلنا.
لكن القدر كان له رأي أخر، رحل والدها وأصبحت السلطة في يد والدتها، وهي منذ الوهلة الأولى لم تتقبلني، ووافقت على ارتباطنا على مضض، نفس شعورها سرى بداخلي وزاد تخوفي منها، خاصة وقد ظهر لي مدى سيطرتها وقوة شخصيتها على الجميع. مرت الأيام وحدثت مشاكل كثيرة، حاولت التحمل وعدم الغضب، لكن تفاقم الأمر وجرحت والدتها كرامتي، ولم أرد عليها حرصا على حبيبتي واحتراما لكبر سنها، لكن فاق الأمر كل الحدود فهي تريد السيطرة عليّ، كدمية تحركها بخيوط، وأنا رجل شرقي لا يليق بي ذلك.
حاولت التحمل من أجل حبيبتي، ولكن سلبيتها ووقوفها دائما في جانب والدتها، جعلني أتألم كثيرا، وفي النهاية تدمرت العلاقة وانهيت الخطبة ثأرا لكرامتي، ومن وقتها لم أنعم بقلب هاديء ولا شغف ولا معنى للحياة، الحب بقلبي نيران متأججة والذكريات لا ترحمني، صورتها تراودني وحبها لا يقل بل يزيد.
في هذا الوقت قابلت أحد الشباب الملتزم وبدأ معي، يدعو لي ولا يمل من دعوتي لله، بدأت أقرأ في العقيدة والفقه، احضر الدروس، احفظ القرأن، ولكن قلبي عالقا في ذكريات الحب الضائع.
مر عام في الغربة بعيدا عن وطني وأهلي، و بعد إلحاح من والدتي؛ خطبت مرة أخرى، ذهبت أمي وطلبت الفتاة، كانت طبيبة أيضا، المهم أن تكون مناسبة اجتماعيا وماديا لم اهتم كثيرا، رأيت صورتها خلال رسائل الهاتف، لم يدق قلبي مرة أخرى، زاد التزامي ودعواتي بأن يعافي الله قلبي من حب الدنيا وملذاتها المؤقتة، مرت شهور ولم تتحرك مشاعري نحوها فأنهيت الخطبة للمرة الثانية، فلم استطع ظلمها معي، كيف أكون معها وقلبي هناك في مكان آخر!؟
مرض أبي مرضا شديدا، عدت إلى مدينتي إنسان أخر بعقل شارد ومشاعر متخبطة وقلب مهترئ، بكيت لبكاء أمي وجلست إلى جوار أبي، لا اعلم هل كنت أداويه أم أداوي قلبي العليل، مشاعر متناقضة ودموع أمي التي تحرق فؤادي، ووقعت الفاجعة ورحل أبي، قبل أن أرد له بعض من فضله وتعبه معي، مات الرجل الذي منحني الحب والحرية المطلقة للاختيار.
مرت أيام عصيبة تنهمر فيها دموعي ولا تتوقف، لا اعلم هل أبكي أبي أم أبكي حالي!
مرت سنوات ومر العمر معها ورفضت السفر؛ فمن سافرت من أجلها ذهبت، فلمْ اعافر ومن أجل من؟! تركت الشقة والمكتبة وعملي هناك وكل شيء.
بحثت عن حبيبتي كثيرا فلم أجدها، وعندما وجدتها بعد عشرون عاما لم تتعرف عليّ!
فقد تزوجت ابن عمها المهاجر إلى ألمانيا، وتأتي إلى مصر زيارات فقط، كدت أجن مما يحدث؛ كيف وهي التي قالت لي: لن أتزوج غيرك أبدا! وظلت عبارتها تتردد على مسامعي سنوات عجاف! وأنا أبحث عنها دون ملل وانتظر لقائها.
زاد ألمي، وظل البكاء رفيق ليلي في سجودي ودعائي.
وفي النهار اخفي البكاء في داخلي حتى لا يرتفع ليملأ أسماع العالم! شعرت بضعف ويأس وكأنني ورقة خريف سقطت من أعلى شجرتها! واشتعلت فيها نيران الحزن، أحزان مبهمة تنمو في صمت، ويزداد احساسي القاتم نحو الحياة.
تأملت حياتي فجأة وجدت نفسي تخطيت الأربعين بقليل، لا اعلم كيف مر العمر بي، فجأة وجدت أخي الأصغر متزوج، الجميع أصبح له حياته الخاصة، بارك الله لهم وحفظهم. لكنني وجدتني وحيدا، تائها، والكل مشغول بحياته.
افتقد الحب والأسرة ولا يحق لي العتاب على قلة الاهتمام، بعدما كنا لا نفترق ونتجمع كل عدة أيام في بيت أمي، أصبحنا لا نتقابل إلا في المناسبات. سالت دموعي لما آل له حالنا، ولو تكلمت الكل يقول أنه نهج الحياة، الجميع منهمك في صراعها، الكل ركب قطار الحياة السريع ولا يستطيع النزول منه، التكنولوجيا والماديات التي قتلت الإنسانية والرحمة والمودة.
اقتنعت أخيرا بأن لا حاجة لي بعتاب أحد لكنني اتمزق من حزن أمي عليّ، عشرون عاما مرت وأنا أحاول التعافي من حب يسمونه مراهقة، أحاول أن أظل أنسانا في زمن انعدمت فيه الإنسانية.
تذكرت نعم الله فلولا تلك السنوات والانتظار لما أكملت رسالتي الماجستير والدكتوراه، ولما التحقت
بكادر التدريس في الجامعة كما حلمت. لك الحمد يارب، إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم.
وأخيرا بعد استخارة الله قررت الزواج من أجل إرضاء أمي وإدخال السرور عليها.
ولكن قضاء الله نافذ لا محالة، بعد الزواج بشهر انقلبت سيارتي ومعي زوجتي، ودخلت العناية لأجد الموت حولي يطاردني كل يوم وليلة، انخفض الأكسجين جدا، كدت أفارق الحياة لولا رعاية الله وحفظه، وظلّت شهور في فراش المرض، وكعادة أمي تُرجي كل أمر يحدث معي للعين والحسد!
خذلني الأصدقاء والأهل، اتألم من خيانة وخذلان أقرب الناس لي!
في فترة مرضي، فقدت صحتي وفقدت طفلي فقد كانت زوجتي حامل، لكنني تعلمت الكثير.
بدأت رحلة العلاج والتشافي مرة أخرى، كنت العليل والطبيب في آن واحد!
هنا تعب خالد من الألم ومن الحزن والدموع لتذكره كل ذلك؛ اغلق دفتره وأجل الكتابة لوقت أخر.









































