الفصل الأخير
احتضنت زهرة نور مرددة:- أتّمنى ألّا أسمع منكِ هذا الكلام يا نور، يجب أن تتفائلي يا حبيبتي، لقد مررنا بأيّام صعبة، حادثة فقدان حنين، وألمنا من قبل على فقدان أمّهاتنا ولكن الحياة تستمر، لا تستسلمي للحزن، كريم إنسان محترم جدَّا ويحبّك وقد أخبرني برغبته في الارتباط بكِ وطلب مني أن أفاتحكِ في الأمر، أرجو أن تفكري جديًّا بالأمر، وتنسي الماضي بكل ما به من حزن و ألم، و تبدئين صفحةً جديدةً، المستقبل أمامكِ والحياة يجب أن تُعاش فلن تتوقف عند موقف أليم أو جرح، فكلّ مُّرٍ سيمرُّ وكلّ ليلٍ ينتهي بنهارٍ، والسعادة قراركِ أنتِ، اذهبي أنتِ للسّعادة ولا تنتظريها أن تأتي إليكِ. ترد نور باكية: - كم أتّمنى أن أفرح وأعيش الحب يا زهرة، فأنا لا أعشق الألم والتّعاسة، لكن قدري أن أظّل بعذاب وحزن، ليتني أستطيع أن أحكي لكِ لأرتاح من عبء كبير. ربتت زهرة على كتفها مرددة: - وإن لم تحكي لي لمن ستحكي إذا؟! أنا زهرة أختكِ وصديقتكِ أليس كذلك؟. تنهار نور باكية ويزداد قلق زهرة، وتحت إلحاح زهرة عليها تحكي نور وهي تبكي :- ألمي كبير جدا ولا يوصف، بعد وفاة أمّي تعبت وتألمت وشعرت بالغربة والوحدة، ودُمرت نفسيتي وفقدت الأمان والاهتمام والحب، نعم أنتِ لم تتركيني وفتحتِ لي قلبكِ وبيتكِ لكنّني لا استحق ذلك أنا سيئة جدا يا زهرة، سامحيني لقد تعلقّت بوالدكِ، تمنيّت أن يكون لي أبًا مثله، وعندما رأيته تحركت مشاعري نحوه، تغيّر تفكيري وحلمت به فارسا ينقذني من عناء غربتي ووحدتي، وبدأت أفكر فيه كرجل تصّورت أنّه حب، أعتذر منكِ يا صديقتي فقد اختلط عليَّ الأمر، فقداني لأبي وموت أمّي سبَبَ لي تشتت وتيه كبير، لكن والدكِ جعلني أفهم خطئي وصحَّحَ لي ما اختلط عليَ، وبدأت أنسى مع الوقت رغم جوعي للاهتمام والحب، تمنّيت أن أجد من يهتم بي، من يعتبرني الأهم بحياته. بعد فترة انبهرت بدكتور(جمال) كان رجلًا كبيرًا قارب السّبعين عامًا،اهتم بي وأصبحنا نتحدث كثيرًا، كانت سعادتي كبيرة كلما اتصل يسأل عني، ونسيت مشاعري ناحية والدكِ، ومع الوقت أصبحنا نتكلم بالساعات وحكيت له كل شيء عن حياتي، عن أحزاني وآلامي وأحلامي وطموحاتي، كان لا يمل ويسمعني بإنصات شديد، شعرت معه بالأمان والاحتواء و تعودت على وجوده وعلى سؤاله عني، الاهتمام والعطف منه كان بالنسّبة لي طوق نجاة، أنا أحببته كأبٍ وأستاذٍ وصديقٍ، لكن صدمتي كانت كبيرة عندما اعترف لي بحبّه، من صدمتي أغلقت الهاتف ولم أرد عليه وبكيت بشّدةٍ . كانت زهرة تنصت مصدومة من كلام نور، وحزينة لما تسمعه منها. بينما جففت نور دموعها واستطردت حديثها:- الأبشع ما حدث بعد ذلك، لقد طلب إقامة علاقة معي وقرر تهديده لي! بكيت على نفسي وانهرت، أستاذ جامعي ومسّن يفكر في طالبة أصغر من ابنته بهذه الطّريقة وقتها صارت حادثة موت حنين، فقدت الثّقة في الجميع وكانت فرصة لأحزن من غير قيود، كان الجميع حزينًا على حنين بينما أنا أعلنت الحداد على نفسي وعليها، من وقتها لم أحدثه لكن أخاف من تهديداته لدرجة أنّني قررت ألّا أكمل الجامعة، لا أريد رؤيته أبدًا. بكت زهرة ممّا سمعت وتعجبت ممّا يحدث واحتضنت نور وظلّتا تبكيان معا هنا دخل أحمد وسأل عن سبب بكائهما، فأخبرته زهرة أنّهما تذكرتا حنين، ودّت زهرة لو أخبرته ليحمي نور من خوفها، ويكون سندا لها ضد هذا الظّالم، ويخلع عن نور رداء الألم والخوف، لكن نور رفضت ووعدتها زهرة ألّا تخبر أحدًا بما حدث، فهي لا تريد مشاكل ومتاعب فقد اكتفت طوال حياتها من الألم، وتريد راحة بالها والابتعاد عن كل شيء. ورغم ذلك قررت زهرة بعد تفكير أن تخبر أبيها بالأمر، فهو ليس أمر هين لتخفيه وهي اعتادت أن تحكي كل شيء لأبيها، فهي تعتبره صديق وأخ قبل أن يكون والدها. وعدها والدها ألّا يخبر أحد بما أخبرته وأن يبحث عن حل لحماية زهرة، اتّصل أحمد بعميد الجامعة كان صديقًا قديمًا له، وأخبره بأمر الدّكتور جمال وتهديده للفتيات، واتّضح أنّه على علم بما يحدث فليست أوّل شكوى منه، وأنّه تحت المراقبة للتّأكد من الشّكاوى المقّدمة ضده. في صّباح يوم عيد ميلاد زهرة، اجتمع الجميع على مائدة الإفطار بحب وسكينة وحوارات مرحة، وبينما كانت نور تتّصفح أحد الجرائد على النت فجأة تقف مصدومة ممّا رأت، تسألها زهرة فلا تجيب تجذب زهرة منها الهاتف لتفزع هي الأخرى ممّا تُشاهد. الكلّ يتابعهما بترقبٍ وشغفٍ لمعرفة ما جذب انتباههما، يمسك أحمد الهاتف من زهرة ويتابع الأمر، ليُصدم هو الآخر ثمّ يقول:- دائمًا الجزاء من جنس العمل ( وما ربّك بغافل عمّا يعمل الظّالمون ) صدق الله العظيم. هذه نهاية كلّ ظالم كان الخبر بالجّريدة مع صورة الدكتور جمال: (دكتور جامعي يستغل منصبه ويهدد طالباته ويطالبهم بممارسة الرّذيلة معه، والمواقع على النت تنشر فيديو له يدينه بالجرم المنشود، بينما العالم يستنكر فعلته ويطالبون بفصله وسحب الدكتوراه منه، تتدخل العدالة الإلهية بعد انتشار الخبر بساعات على شبكات النت يأتي قضاء الله لإنصاف الحقّ، حيث تنقلبُ السّيارة بالدّكتور جمال على الطّريق ويلفظ أنفاسه الأخيرة قبل وصوله للمستشفى). يردد أحمد:- سبحان الله (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين) صدق الله العظيم . اللّهم لا شماتة اللّهم عافنا وأعف عنا وارزقنا حسن الخاتمة. تتساقط الدموع من عيون نور وهي بين حزن وحيرة، فمن شّدة الصدمة أصبحت لا تعلم هل تفرح بانتقام الله منه أم تحزن لفضيحته وموته ففي يوم ما اعتبرته أبا لها، لكنّه الآن بين يد الرّحمن ليتولاه الله برحمته.في المسّاء تقام حفلة كبيرة، الأضواء والزّينة والبهجة تعمّ القريّة السّياحية بأكملها، احتفالًا بعيد ميلاد زهرة قلب وحياة أحمد الّتي تفتحت وبثت السّعادة والأمل له، لكن اليوم ستكون الفرحة والاحتفالات كبيرة، فقبل إطفاء الشّموع يطلُب أحمد من الجميع الانتباه، تقف زهرة وبجوارها نور، يأتي طارق وكريم يفتح كل منهما علبة بها خاتم جميل يقدمه لحبيبته معلنا حبّه لها، ويطلب منها الزّواج. تنظر نور و زهرة لأحمد؛ يهزّ رأسه بالموافقة فتهزان رأسيهما أيضا بخجل وفرحة؛ تتساقط الورود فوق رؤوسهم، وتتعالى الزغاريد وتنطلق الألعاب النّارية بالسّماء ويصفق الجميع بسعادة. يرقصُ كل حبيبان معًا تحت سماء الحب وأضواء قلبيهما الّتي تبث فرحًا وسعادةً. يعلن أحمد موعد الزّفاف العام القادم بإذن الله ويتّمنى لهما السّعادة والبركة. يمرّ العام سريعًا ما بين الدراسة والتجهيز للزفاف، تنجح زهرة بامتياز كعادتها ويتم تعينها معيدة بالجامعة، بينما نور تحصل على جيّد جدًّا وستكمل ماجستير بألمانيا كما وعدها كريم، بعد أيام تتزين القاعة للحفل، يتّم الزّفاف الأسطوري الجميل ويستقر كل حبيبين في عش الزّوجية بسعادةٍ وحبٍ. يقف أحمد يفكر يمررّ شريط ذكرياته مع سمر، لقد تركت له ثروة من الذكريّات تعود إليه كالأمواج ما بين مد وجزر تغتاله من بين الجميع، فكأنّها معه تحدثه وتشاركه فرحته بزهرة، يبتسم لها وكأنّه يعلن وفاءه بعهده، فقد رعى زهرته حتّى سلمها لحبيب قلبها وزوجها، كلّ تلك السّنوات مرّت كأيّام وكأنّه فقد سمر أمس وكأنّها معه لم تغب أبدًا، كما لن تغيب زهرة عنه فبعد رحلة شهر العسل ستعود مع زوجها للفيلا حيث قرّرا العيش مع أحمد. بعد زواج زهرة تمّر شهور قليلة، يتعب أحمد وكل يوم يزداد تعبه ولا سبب عضّوي لتّعبه وكأنّه زهد الحياة، وأراد أن يلحق بسمر حبيبة عمره، فقد تصّور بزواج زهرة أن مهمته تمت هنا ومسئوليته انتقلت لزوجها. جلس ووضع ألبوميْ صور أمامه أحدهما لسمر يضم صورها من طفولتها حتّى قبل موتها بأيّام وهي تضم زهرة، والآخر ألبوم زهرة يحتوي كل صورها من يوم مولدها وبعد تأمله وضع أخر صورة به كانت صورة زفافها، ظنا منه أنّه أتمَّ رسالته في الحياة ولم يعد هناك ما يفعله، لا يدري لقد أصابه الحزن وغلب عليه فجأة، أهو زهد أم يأس؟ لكنّه استسلم لهواجسه واستعداده للرّحيل رغم وجود زهرة معه ومحاولاتها المستمرة لإخراجه من حزنه، ومن تلك الصومعة الّتي صممها لنفسه وعزلته الّتي عاد إليها. ذات ليلة نام أحمد ودموعه تنهمر، ليجد سمر تمسح دموعه وتنظر له بحزن كأنّها غاضبة منه، يحاول التّحدث معها فترفض وقبل أن ترحل مبتعدة تعطيه بنتا صغيرة وتوصيه برعايتها. يستيقظ أحمد على آذان الفجر، يذهب ليصّلي بالمسجد كعادته وعند عودته يجد زهرة تصرخ من الألم، لقد تذكر الآن سفر طارق لعدّة أيّام للعمل، ونسيّ أمر حمل زهرة وحاجتها للرّعاية، ظلّ يؤنب نفسه بينما يتّصل بالطّبيب كانت زهرة حاملا في شهرها السّابع وأصابها التّعب، قلق أحمد وأسرع للاطمئنان على زهرة محاولا طمئنتها، يصّل الطّبيب الّذي يقرّر سرعة نقلها للمستشفى للولادة حالا، تحتاج زهرة لنقل دم يزداد قلق أحمد ويلوم نفسه لقد أهمل زهرة، ظّنا منه أن دوره قد انتهى بزواجها. أخيرا تلد زهرة طفلة جميلة، يحملها أحمد ويُقبلها ويسميها سمر، ويتّذكر الحلم الآن وواجب رعايتها هي وزهرة، فلم تكتمل رسالته بعد فليس دور الأب أن يربي ويرعى حتّى زواج ابنته ينتهي دوره ويرحل تاركا إياها لزوجها، فالأب هو الأمان والسند والوطن لابنته طوال حياتها، ولادة سمر كانت بمثابة نور لأحمد ليبصر الحقيقة وكأنّها الأمل الّذي سيحييه من جديد ليكمل مسيرة وفائه، يتعهد أن يرعى سمر الصّغيرة مثلما اهتم بزهرة وزوجته سمر من قبل. تنهمر دموعه، يتمنى لو كانت سمر هنا لتشهد ولادة حفيدتها الجميلة، فكم تمنت أن يمتليء البيت؛ لتهتم برعايتهم بحب وسعادة. يتّذكر أحمد عهدًا قد قطعه على نفسه ووفاء قلما ت