كانت سلمى تهرول خائفة، قلبها يدق كأنه ناقوس يؤذن بالخلاص ويصارع الخوف، فجأة اصطدمت بفتاة شبه عارية، على قدر لا بأس به من الجمال، سمراء البشرة، ترتدي نظارة شمسية، وملابس بحر صارخة، أفرغت غيظها في السباب والصراخ عليها. وسلمى ترتجف كالمحمومة، لا تقوى على الصراخ أو الكلام، تجمّع عدد كبير من الناس حولهما، كادت سلمى تفقد وعيها، أنها تتوه في الزحام، تختنق من الأصوات الصاخبة، بكاء وصمت وعجز، قلبها يدق بشدة، ورأسها تدور، فجأة ظهر خالد زين الدين، وبصرامة نهّر الفتاة وأبعدها عن سلمى، التي اختبأت خلفه مرعوبة .
قال وهو ينفخ ويغمغم في ثورة:
- ما بكِ؟!، كانت تسير بسرعة فاصطدمت بكِ، ما كل هذه الضجة والصراخ، ما الداعي لكل ذلك؟!
تبعته سلمي وابتعدا عن الضجيج، سحب لها كرسي وجلست، ثم أجهشت في بكاء حاد ووضعت يدها على وجهها. رفع يده، أراد أن يربت على كتفها، لكنه تراجع، وصمت قليلا، ثم تنحنح قائلا بصوته الواهن:
- هوني على نفسكِ يا سلمى، الأمر بسيط ولا يستحق كل ذلك، اهدئي. ثم استدار وطلب لها عصير وطلب لنفسه شاي ..
بدأت سلمى تهدأ، وتمسح ما تبقى من دموع على خديها، محاولة التظاهر بالقوة وتمالك نفسها.
التقط خالد كوب الشاي ليرتشف منه رشفة قائلا في مرح:
- هيا اشربي العصير، قبل أن يقلق والديّكِ، ويذيع الميكرفون اسمك الآن!
ابتسمت عندما سمعت الميكروفون يتعالى باسم طفلة صغيرة تائهة، وشربت العصير بسرعة.
وبينما تهمّ بالمغادرة، استوقفها قائلا:
- لا تهربي مرة أخرى، تعلمي المواجهة، وتغلبي على خوفكِ، وأنا هنا دائما لأي مساعدة.
هزت سلمى رأسها في خجل، وغادرت بحثا عن هناء وحازم! وعندما وجدتها عنفتها، وجذبتها بشدة، وهي تصرخ فيها، ما هذه الوقاحة؟! تقفي وتتمايلي وتضعين يدكِ في يده، فمن يكون؟! هل هو خطيبكِ أم زوجكِ؟! من ضمن لكِ أنه سيكون نصيبكِ؟ لن أداري عليكِ وأخفي على أمي وأبي ما تفعلين من الآن، وأسرعت وخلفها هناء تلهث خوفا، أن تبوح سلمى بسرها لوالديّها. ولا تعرف ما سر عصبيتها وعنفها معها؟!، ما الذي حدث؟! كانت غارقة في دهشتها.
وجد خالد دفتر مذكرات سلمى بعد ما غادرت، امسكه وذهب للبحث عنها، ليجد أنهم غادروا الشاطيء،
تردد في الاتصال بوالد سلمى، فهذه مذكرات تخص فتاة، لا يعلم ماذا كتبت؟!، فلا يحق لوالدها أو هو قراءة أسرارها دون علمها، ظل يفكر طوال الليل، حتى غلبه النوم من شدة التعب. في الصباح قرر التوجه إلى الشاطيء بحثا عن سلمى، وأثناء انتظارهم، كان الشباب يلعبون الكرة حوله، فامتلأت عيونه بالدموع على حاله، الكرة كانت هوايته المفضلة، فكم برع في اللعب وشارك في مسابقات ودورات عدة، وحصل على عشرات الجوائز، شهادات تقدير وميداليات وكئؤس، وحاز على تشجيع الجميع، وحلم بأن يكون لاعب مشهور، لكن التعليم والعمل سرقا حلمه، فأصبحت مجرد هواية لوقت الفراغ! ولكن الآن لا يستطيع ممارسة هوايته المفضلة ولا ممارسة أي عمل. لقد مكث سنوات في عزلة تامة حتى أصابه الاكتئاب واليوم قرر الخروج للحياة ومحاربة الظروف والتغلب على كل عائق وعقبة تواجهه، قرر ألا يستسلم لليأس والمرض.
شرد قليلا فلم ينتبه إلا عندما سقطت الكرة على فنجان الشاي ووقع على المذكرات، غضب بشدة وكاد يصرخ في الشباب، لولا اعتذارهم له فتمالك نفسه، حمل المذكرات وغادر بعد أن تأكد من عدم حضور سلمى والعائلة اليوم، فتح المذكرات وبدأ يجفف ورقها، لتقع عينه على كلمات سلمي:
(أتذكر ذلك اليوم الذي بدأنا فيه حجز دروس الثانوية العامة، كان في شهر يوليو، الحجز ذاته مُرهِق! نحجز درسًا تلو الآخر في الحر الشديد والازدحام والخوف من الإصابة بكورونا حتى بدأ العام، والكل يتحدث بسخرية إذا كان هكذا حال الحجز فقط فما حالنا طوال العام! البداية كانت صعبة؛ استمرينا شهورًا لا نستطيع أن نحضر في مقر قاعات الدروس؛ فالشرطة تُلاحق مراكز الدروس الخصوصية والضحية الطالب، وعندما وجد الكثيرون هذا الحال قرروا ألا يقتصروا على معلمين بلدتهم فقط بل الاشتراك في المنصات الإلكترونية، وكانت بداية اللعنة، نعم هناك الكثير من المعلمين الكفء والجيدين ولكن أغلب تلك المنصات تسعى للربح والتجارة، لا يوجد متابعة ولا وقت للأسئلة، يُعرض فيديو مسجل بمبلغ وقدره، لا يوجد تفاعل ولا مشاركة ولا علم حقيقًة، إلا قلة من المعلمين أصحاب الضمير الحي. كل معلم يسأل طلابه الاجتهاد ويُحملهم عبء واجبات وأعداد صفحات بالعشرات ولا يُراعي حق راحتهم ولا أن لديهم مواد أخرى يدرسونها، غير كلمات الإحباط أحيانًا من بعض المعلمين.
بدأت الدروس تعود في مقر القاعات في أواخر شهور العام، واستمر الطلاب يذهبون إلى هذا الدرس وذاك والكل يدعي أنه أعلم بأسئلة الامتحانات والنظام الجديد حتى جاءت امتحانات الشهادة الثانوية وكانت الصدمة، والبداية امتحان اللغة العربية، دخل الطلاب الامتحان متأخرين ما يقارب النصف ساعة بسبب مراقبي اللجان والتفتيش أول يوم، تبقى لهم ساعتان ونصف ساعة لأداء امتحان مكون من قطع كبيرة بحجم صفحة ويتضمن أسئلة إجاباتها في الخيارات تعادل خمسة أسطر! وكل سؤال يحتاج إلى تفكير عميق وإجابات متشابهة وأقرب أن تكون إجاباتها وجهات نظر لا أن يُلتزم فيها بنموذج محدد، كان النحو أسهل ما في الامتحان على عكس الاعتقاد السائد في النظام القديم، أنهى الطلاب الامتحان، استطاع البعض إنهاء الإجابة على الأسئلة وبعضهم لم يُسعفه ضيق الوقت.
انتهى الامتحان وذهب الجميع إلى منازلهم وهم لا يعرفون هل ما قاموا بحله صحيح أم لا، حتى إن المعلمين لم يستطيعوا نشر إجاباتهم الشخصية على الامتحان لعلمهم بكم التخبطات به! كما علمهم أنه لن يغفر أحد أخطائهم فثقافة أننا بشر نخطئ ونصيب ليست موجودة بين الناس للأسف!
بعدها جاء امتحان اللغة الفرنسية وهي اللغة الثانية الأكثر شيوعا بين طلاب مصر، جاء الامتحان بردًا وسلامًا على قلوب الطلاب ولكن على الجهة الأخرى أشعل امتحان اللغة الألمانية نارًا في قلوب طلابه لعدم تكافؤ الفرص ولشيوع الأخطاء الكثيرة فيه بجانب علو مستواه عن معايير امتحان اللغة الثانية في مصر؛ فأُحبط الطلاب، امتحانان كاملان لم يكونا على ما يرام وأيضا عدم تكافؤ فرص في اللغة الثانية! ماذا تُخبئ لهم الأيام في الامتحانات القادمة؟! هل ضاع حلمهم؟! هل يغلقون كتبهم؟! فخوفهم من المستقبل يسيطر عليهم! استمرت الأيام وهم يُهدأون من روع بعضهم البعض، الكل يُواسي الأخر وهو من يحتاج لمن يُواسيه! صراحًة رأيت من هذه الدفعة ما لم أره في دفعة غيرها، كان زملائي متعاونين، يساعدون بعضهم البعض، ينشرون روابط لمراجعات وملخصات واقتباسات لتهويل حدة الامتحانات عليهم! كانت دفعة رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ولكن حدث ما لم يتوقعه أحد؛ جاءت الفاجعة بعد امتحان الجغرافيا قامت إحدى الطالبات في مدينتي بإنهاء حياتها وهي يتيمة الأم، شعور صعب ومؤلم جدًا، كيف كان حال أهلها؟! أصدقائها؟! مُعلميها؟! رحم الله تلك الفتاة، أفكر حقيقة كيف كان شعورها؟ ماذا كان إحساسها تجاه الثانوية؟ كم خيلوا لها أنها نهاية العالم لتفعل ذلك ولم تكن الوحيدة صراحًة، خُدعنا جميعا بهذه الأكذوبة المزيفة!
وتوالت الامتحانات والكل قلق وخائف ومتحسر لِما وصل به الحال، جاء يوم امتحان الفيزياء وتجدد الحزن والفاجعة من جديد؛ قبل بدء الامتحان كان مشهد فرح ملقاة على الأرض والكل يصرخون إسعاف! إسعاف! هل من مجيب؟! ومع عدم استجابة رئيس اللجنة-عليه من الله ما يستحق- لم يرضَ أن يطلب الإسعاف إلا بعد أن عجزت الزائرة الصحية عن فعل أي شيء، وشكوا في موتها! إلى أن جاءت سيارة الإسعاف وأخذت فرح إلى المشفى ودخل الطلاب الامتحان وهم في حالة انهيار شديد مما حصل ومنهارون عصبيًا من صرخاتهم وبحة صوتهم وقلقهم هل فرح حية أم لا؟ كانت قد ماتت بين أيديهم، الله وحده أعلم كيف كان شعورنا! إلا أنني متأكدة أنه أشد ألمًا من انسكاب نيران على قلوبنا! فرح صديقة عمري، تغادر بسيارة الإسعاف دون أن أكون معها، هل كان يتوجب عليّ ترك اللجنة والذهاب معها؟! كان القرار صعبا، خوف وحزن وارتجاف، بكيت كثيرا وما زلت أبكيها.
فهذا امتحان أصعب مادة في الثانوية والاسعاف تنقل مِن حولنا صديقات، واحدة تلو الأخرى وفي اللجان طلاب منهارون ويصرخون من صعوبة الأسئلة وضيق الوقت! بالله هل هذه أجواء سوية للامتحانات وبهذه الصعوبة وبهذه الأخطاء وبكل هذه الفواجع! أكملنا الامتحانات وقد زال بريق أحلامنا في أعيننا، أصبح همنا فقط أن نخرج من هذه السنة فقط ناجحين حتى لا نخوض هذه التجربة اللعينة مرةً أخرى! كان كل همنا أن نُفرح أهلنا بنتائج تعبهم!
انتهت الامتحانات وكأنها فرح حقيقي، خرج الطلاب من لجنة آخر امتحان وهم يدقون الطبول ويحتضن بعضهم البعض ويرددون كلمة" كفارة" فُرج عنا هذا السجن اللعين!
وبعد كل هذا كنت اتساءل كيف رسخ الجهل في مجتمعاتنا وأحاديث الناس الثرثارة وشماتتهم وكلام الجيران والأقارب بل وحتى الأهالي كِذبة الثانوية العامة؟! كيف صوروها لهذا الطالب الذي لا يملك من العمر إلا سبعة عشر عامًا، ليس لديه خبرة ولم يجالس أجداده يستمع إلى تجاربهم وينهل من زهور مواقفهم ونجاحاتهم وفشلهم، لم ينشأ على القراءة وكيفية بناء الأمة، لم يعرف أن النجاح مرهون باستمرار المحاولة، لم يعلم أن أغنى أغنياء العالم يعملون بالتجارة وبالتحديد في مجال التكنولوجيا، أي ليسوا أطباء أو مهندسين!)
مسح خالد دموعه، حزنا وتأثرا بما قرأ، أي حزن هذا؟! هل هذا كلام فتاة في ربيع العمر! والمفترض أنها تعيش أجمل أيام حياتها!
يرن هاتفه، ليجد على الجانب الأخر والد سلمى يسأل عن أحواله، و يشكره على موقفه مع سلمى، فقد حكت له كل ما حدث، ثم يطلب منه تناول الغداء غدا معهم على الشاطيء.






































