كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثانية صباحًا حين تحرَّك آدم بسيارته نحو "دهــب" تنفيذًا لمقترح شادي وحرصًا على رأب الصدع مع جيرمين ومن أجل عيون عمر يهون كل شيء..
عجلات السيارة تنهب الطريق نهبـًا، أراد آدم أن يفتح الصغيرعينيه على منظر بديع حين تشق الشمس حجاب الظلام معلنة عن ولادة يوم جديد على شاطئ البحر، نبَّهته جيرمين أنه قد تجاوزالسرعة المسموح بها، نبَّهته مرارًا، لا ضرر في الوصول بعد الشروق بساعة أو أكثـر، ألحَّت عليه، رجتـه اختزال السرعة لكنه زادها، كان منتشيًـا بنظرات القلق والخوف التي تشع من عينيها، تضخ رجاواتها الإدرينالين في دمه ويتعاظم مع توسلاتها إحساسه بالسيطرة على الموقف، وفجأة انفلت مقود السيارة من بين يديه وفَقَـد تحكمه بها تمامًا، وفي لحظة ارتطمت سيارته بالرصيف وقفزت بهم إلى الاتجاه المعاكس فدهستها شاحنة كبيرة جاءت مسرعة دون توقع مسبق لما جرى...
لا أحـد كان بإمكانه إنقـاذ الصغيرعمــر وجسده يطيـر في الهواء من شدة الإرتطام ثم يسقط أرضًا في براءة قتلها إهمال والـده وغروره وصلابة عنـاده، صرخات ألــم تمتزج بالخوف والرهبة انطلقت من جيرمين، راحـت تنادي "عمــر... عمــر "، فلا مجيب.
اقترب آدم منها في جزع وخوف، الوحيد الذي تمكن من التحرك بصعوبة رغم ألــم صارخ يُكبـل كتفه الأيسر إثـر ارتطامه بباب السيارة قبل خروجه منها، أنقذه حزام الأمان، وليتـه ما فعــــل!
لم يتمكن من إسكات بركة الدماء التي انفجرت من رأس جيرمين، أنفاسها متهدجة، فتحت شفتيها بصعوبة لتُخرج كلماتٍ ملعونة لم يتخيل أن يسمعها يومًـا، "ربما هي تهذي"... عبارة كرَّرها لنفسه مررًا، لكن إصرارها على ما تقول جعله يفطـن إلى واقعـه القبيــــح.
:لن أهـــرب.. لن أهـرب بعد اليـوم ولن أخجـل مما أقول، فسابقًـا لم يكن لي اختيار أما الآن فلي كل الاختيار، لقد اخترتُ أن أتطهر من ذنبي الآن أمامك فربما حينها يغفـرلي ربي جريمتي ويتقبلني عنده في الجنـة، فكل ما أريـده وأتمناه هو أن يجمعني بوحيدي عمــــــــر..
: لـم تكــن رجُلــي الأوحــد يا آدم!
لقد خانته جيرمين مع شــادي، هكذا اعترفت له وهي تُصارع الموت، أول الخيانة وقعت بعـد عــام من ولادة عمـر، كانت حينها شاردة، ضعيفة حزينة، يُهلكها حرمان عاطفي فرضه عليها زوجها بأنانيته وغروره، أجهدها شعورها بالذنب وفظاعة مسلكها إلا أن استمرار آدم في إهانتها وتعذيبها أسكت كل شعور بالذنب نما داخلها، اقترب شادي منها متوددًا مُعلنًــا تفهمه الكامل لإنسانيتها وحاجتها الماسة إلى الإحتواء والاهتمام والحـب، عاب على صديقه عزوفه عنها وحرمانه لها من كل حـق لها في قلبـه، حنان شادي وفظاظة آدم جعلا الأمور كلها تسير في ذاك الإتجاه، ليـل زوجها الحالك يقابله صباح صديقه المشرق، لقد عرف شادي لغتها وأتقن حروفها وأبجديتها، يُهدهد حرمانها ويـُدلل أنوثتها، كان من الصعب بل من المستحيل أن تنفصل عن آدم الصوَّاف، والـد وحيدها الذي تعشقه؛ لتتزوج صديق عمره وصندوق أسراره، لقد عاقبت زوجها بنفس الطريقة التي احتكرها وحرَّمها على سواه، إنه "عُهــــــر وخيانـــــة" إذا مارستها امرأة مثلها، و"شقــــاوة ونـــزوة" إذا مارسها رجل مثله، لقد طالبت جيرمين بحقها في الخطأ، حقها في اللــذة، حقها في الإنتقــام، حقها في أن تسلك سلوك آدم الذي قتلها ألمًــا ولليالٍ طويلة حين كان يقفـز بكامل وعيه وتمام رغبته إلى أحضان امرأة سواها، ولم يدرك وهو الكاتب العبقري أن شيئًا وحيـدًا جليلًا يجوع إليه الجميع النساء والرجال، شيء يتجاوز كل الأشياء ويُكسِبها إنسانيتها وألوانها، إنه الحب وباطنه الإهتمــــام..
لم تطلـب الطـلاق ولم يطالبها شـادي بـه، بل راح يزيح عنها كل شعور بالذنب راميًـا المسؤولية على صديقه واصفًـا إيـاه "بالجـــلاد"، يأخذها بين أحضانه، يمسح على شعرها، يُقبِّـل يدهـا قائلًا: معظم الرجال لا تكفيهـم امرأة واحدة، وآدم أولهــم..
سقط "آدم" في غيبوبـة إراديـة أو لا إراديـة لأيـامٍ وليـالٍ لم يعدها أو يحسبها، كان يفيق من كبوتـه على صوت جيرمين تضحك ببذاءة متسائلةً: هل جرَّبت أن تكون شاه يركبها الخراف، ها أنت قد جرَّبت...؟
كانت ثمة رسائـل واتصالات كثيرة من القراء والمعجبين وأصحاب دور النشر تسأل عن الكاتب الفــذ وتنادي بعودته وتتطلع إلى إصدارته الجديدة إلا أن رسالة وحيدة كان لها مذاق آخر، رسالة "آزاد" الأولى له جاءته في ذاك التوقيت الحرج، كانت خيطًا من الـود العميق وكأن صاحبتها تعرفه منذ مئات السنين، صارت عادة أن يتبادلا الرسائل وأن يلتقط هاتفه المحمول تفتش أصابعه بعبث بين سلسلة الرسائل المرسلة إليه عن حروفها الرشيقة وكأنها تكتبها بيدها، فالحروف آزاد نمط مختلــــف..
ستـــة أشهـرلاحقة بعد الحادث المؤلـم الذي راح ضحيته عمـــر وجيرمين، وقف آدم خارج القاعة متألمًـا باكيًـا وقد طالت لحيته وذبلت عيناه وانتشرت غيمة حزن على قسمات وجهه المجهد يتقبل العزاء في وفاة صديقه الصدوق ورفيق دربه وخزنة أسراره، "شــــادي بكيـــــر"..
لقـى مصرعه في حادث سيارة بشع على الطريق السريع، لـم تطاوعـه فرامـل سيارته، ولــم تتوصل أجهزة البحث الجنائي للجاني الذي نـزع مكابح السيارة فانقلبت عـدة مرات قبل أن تنفجر وتصعد روح شــادي إلى السمــــاء..
وقف "آدم" كتف بكتف على باب سرادق العزاء مجاورًا لسامح، شقيق شادي الوحيد الذي هاله ما رآه من حزن دفين يغلِّف ابن الصواف إثـر رحيل شادي، تعجب الرجل وظـل ويفكـر، "آدم الصوَّاف" يشعـــر، يحــس ويتألــم، يالها من معجزة، فلطالما تشاجر"سامح" مع شقيقه الأصغر ونصحه بالابتعاد عن آدم، إنه حية رقطاء لا تستحق الحياة، هكذا دون سبب يُذكر ولا أمر يُعقل، شئ داخلي جعله يرفض علاقة شقيقه بذاك المتغطرس، وبــرَّر آدم لشادي رفض سامح لعلاقتهما إنها الغيرة، فما يجمعهما لا يفهمه أحد ولا يُقدِّره أحد، وأنه إن قُــدِّر له يومًا أن يكتب وصية بكل ما يملك فستكون لشادي، أخبره أن علاقاتـه بكل البشر راحلة إلّا علاقتـه به، .. "إن كنتَ لا تدرك ولا ترى ولا تعي عمق علاقتنا فعلى الدنيا الســلام".... كلمات مرَّرها ذات مساء إلى صديق العمر حين تورَّط في الإمضاء على شيك بمبلغ كبير في بارتيتة قمار، كان الشيك بلا رصيد وكاد شادي يُسجـن، هرول إلى شقيقه سامح يطلب المساعدة إلا أنه اعتـذر متعللًا بالأقساط ذات المبالغ الضخمة التي يدفعها ثمنًـا لفيلته كما أنه غيَّـر سيارته وسيارة زوجته مؤخرًا وتتعـذر لديه السيولة، اقترح شادي على شقيقه أن يعطيه المبلغ المطلوب على سبيل القرض وسيسدده له على دفعات كلَّما أمكنه ذلك لكن سامح رفض الفكرة تمامًا، فهو يرفض السلف كمبدأ، لام شادي كثيرًا وعنَّفه على إسرافه وتبذيره فيما ورثـه عن والدهما وهو كثيـــر، فعلى شادي أن يتحمل وزره ويتعامل مع توابع هوجائيته وفرط رعونته، جاءت مكالمة آدم على جوَّال شادي لتُنهي صراعًـا لا يهدأ كاد أن ينفجر بين الشقيقين، غادر شادي مكتب شقيقه مصدومًا متوجهًا إلى حيث أخبره آدم ليجده وبكل هدوء قد سدَّد مبلغ الشيك، ... "إنها فقط مائتان وخمسون ألفًـا من الجنيهات يا صديقي، أعتقد أن حريتكَ واسمك وسمعتك تساوي أكثر من هذا المبلغ التافـه، فلا تـزد الموقف تأزمًا ولا داعي للدراما، فإنني لا أجد نفسي أفضل منك يا عزيزي وأثق أنك كنتَ ستفعل المثل إن تبادلنا الأدوار، أنا أيضًـا لـي فيك، ألسنـا إخـوة على الحلوة والمُـرة؟!".... كلمات قليلة أنهى بها آدم الموقف المُحرج لتصبح علاقته بشادي أقوى وأمتـن ممَّـا كانت عليه قبل تلك الواقعـــة..
لم يكن الأمر جميلًا أو معروفًا أسداه ابن الصواف لينقذ صديقه ولا سدادًا لفاتورة قديمة لموقف متأزم سارع فيه شادي لإنقـاذ صديقه، ليس تبادلًا للأدوار، إنما هي مشاعر حقيقية حملها قلب آدم لصديق العمر.
شعر "آدم" بألـم عميق يخترقه ووِحدة خانقة تحيط به، لقد أسِف لما آلـت إليه الأمور، أحـس غيظًـا هائلًا يجتاحه وبرغبة طفولية جامحة في مواجهة شادي ومعاتبته بل وضربه مرارًا، وهو الذي يعرفه أكثـرمن أي إنسان آخــر، كم أحبَّه حقًـا وكم آلمته تلك الطعنة النافذة التي سددها صديقه له في عمق كرامته ورجولته، طعنة خلفَت جرحـًا غائـرًا لن يندمل مادام آدم حيًــا، لم يكن بإمكانه مواجهة "المرحوم"، انتبه على تلك الكلمة التي ارتج صداها في صدره، أضحى شادي مرحومًا لقبًــا، لكن هل تراه يستحق الرحمة فعــــلًا؟
ليس حزينًـا على وفاتـه بقـدر حزنه العميق لأنه تـوهَّـم أن لا شيء يمكنه أن يُفرِّق بينهما يومًا، غاضب من خيانة شادي له، غاضب جدًا من استغفاله إيـاه وهو الذي لا يمكن لأحد كائنًـا من كان أن يستغفله أو أن يستغله، يرفض ذلك كليًـا، فلماذا فعلها شادي؟ ألم يخشى أن ينكشف الأمر؟ أم تراه أيقـن استحالة أن يواجهه آدم واستحالة أن يعاتبه أو يعاقبه أو ينال منه، فقصة "الزنجيـــة المثيـــرة" وما كان معها تَحُول دون أن يستطع آدم معه شيئًــا، لقد سجنه شادي هناك بين طيَّاتها حين دس عبوة السم الفتَّاك في قبضته وهو يبتسم قائلًا: لا عليكَ صديقي، لقد انتهت حِيرتكَ، اذهب الآن واستمتع بليلتك والصباح ربــــاح.
ولأن السعـــادة عيـــد غير ثـابــت التاريـخ، انتظرونـــي؛ فللحديــث بقيــــــــــــة!