“إذا لم يكن أمامنا ملاذ من الموت، فليكن الحب خلاصنا في الحياة.” بهذه الكلمات الخالدة للشاعر بابلو نيرودا، يفتتح المخرج نات إدواردز أول أفلامه الروائية الطويلة “هي علمت الحب” يعتمد الفيلم على الحبكة التقليدية — قصة “شاب يلتقي بفتاة” — إلا أن هذا النوع من القصص لا يفقد بريقه أبداً لدى المشاهد الذي اعتاد رؤية شخصين ينتصر حبهما رغم اختلافاتهما. ومع ذلك، من النادر في أيامنا هذه أن نجد فيلماً يفيض بدفء الرومانسية، حيث نرتبط عاطفياً بأبطاله، ونتابع مصائرهم بقلوبنا، ونتمنى لهم، ولأنفسنا ضمناً، السعادة. وكل ذلك دون أن يقع الفيلم في فخ الابتذال أو المبالغة أو الرتابة
“يستكشف الفيلم مقولة نيرودا عبر اختيارات المخرج الإبداعية، مُقسمًا السرد إلى ثلاثة فصول تحمل عناوين من كلماته الثلاثة التي تشكل عنوان الفيلم. يبدأ القسم الأول بعنوان هي، وفيه يؤسس الحكاية وصراعها الدرامي. نتعرف على فرانك (داريل بريت جيبسون)، ممثل صاعد يطمح إلى فرصة عمل، لكنه يجد في المخدرات مهربًا ومصدرًا للمتعة. يتقاطع طريقه أحيانًا مع مالي (أرسيما توماس)، الشابة الجميلة والطموحة، التي تملك مستقبلاً واعداً في إدارة أعمال الرياضيين، لكنها في ذات الوقت تخوض معركة شجاعة ضد مرض عضال يقترب بها من الموت يوماً بعد يوم. في البداية، لا تعيره مالي اهتمامًا، لكن تتغير الأمور عندما تدعوه أخيرًا لحضور حفل معها، ومن هنا تبدأ رحلتهما المشتركة.”
قد تبدو حكاية الفيلم مشابهة لأفلام مثل
The Fault in Our Stars وFive Feet Apart،
لكنها تتميز في قدرتها على تحقيق توازن بين العاطفة والمآسي،فلا يقع هذا العمل في فخ الميلودراما ولا يسعى لاستدرار المشاعر. عندما ينتقل المخرج إلى الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان علّمت، نرى ملائمة استخدام صيغة الفعل كعنوان مع طبيعة هذا الفصل من السيناريو التقليدي ذو الفصول الثلاثة، ويركز فيه على التحديات والعقبات التي تهدد علاقتهما. يتفاقم المرض على مالي مع رفضها لتلقي العلاج الكيميائي في البداية، تضطر للكذب على والديها بأنها في طور التعافي، بل تطلب من فرانك مشاركتها في الكذب حتى لا يقلقا بشأنها. في المقابل، تعود إلى حياة فرانك علاقة عابرة سابقة، مما يعكر صفو علاقته بمالي، إلى جانب تأثير المخدرات السلبي على عمله وعلاقته، ووعيه المتزايد أيضاً باقتراب الموت من حبيبته. في ظل هذه التحديات، يفترقان لفترة، لكن سرعان ما يعودان معاً لتبدأ رحلة علاجها
“في الفصل الأخير من الفيلم، وعنوانه الحب، نشهد تدهور حالة مالي الصحية، بينما يظل فرانك بجانبها، مرافقًا لها خلال هذه الرحلة الشاقة، محاولًا التخفيف عنها بقدر ما يستطيع. هنا يتجلى المعدن الحقيقي لكل منهما، ويتبلور معنى الحب في أبسط وأصدق أشكاله. يظهر هذا الفصل بوضوح أن الحب، كما وصفه نيرودا، كان الخلاص لكليهما. ليس مجرد وسيلة للتخفيف من آلام الحياة، بل كقوة تنقذهما، وتمنحهما معنى للحياة رغم قرب النهاية. هذا الفصل يضع كلمات نيرودا في سياق حي، إذ يصبح الحب هنا ليس فقط أداة للبقاء، بل خلاصًا مشتركًا
استغل المخرج بشكل جمالي مقياس الشاشة كعلامة بصرية ترافق الشخصيات منذ بداية الفيلم، لتصبح رمزًا لتطور علاقتهما ويضفى معنى لعنوان الفيلم. في الفصل التمهيدي الأول، استخدم المخرج المقاس المربع الكلاسيكي، لهدفين رئيسيين: الأول لتمييز عالم فرانك، وطبيعة حياته المضطربة، والصعوبات التي يواجهها مثل المخدرات والبطالة.
وبانتقال السرد إلى مالي، يتسع الإطار لتصبح الشاشة عريضة، ليصور رفاهية حياتها، وقوة شخصيتها، وإصرارها على مواجهة المرض بشجاعة. أما في الفصل الثاني من القصة، اختار المخرج مقاسًا متوسطًا بين المقياسين السابقين، وكأن هذا التحول البصري يعبر عن حالة التنازلات التي يقوم بها الحبيبان للحفاظ على علاقتهما. يظل هذا المقاس مستمرًا حتى نهاية الأحداث، مما يعكس توازن العلاقة وتطورها رغم كل العقبات
تمكن مدير التصوير المبدع جاستين ديري من إضفاء حالة من الرومانسية والدفء على الصورة بفضل التكوينات الدقيقة للإطارات، والاهتمام بتفاصيل الأماكن التي تتحرك فيها الشخصيات. كما أبدع في خلق مزاج عام مفعم بالحياة حتى في أحلك اللحظات التي تواجهها الشخصيات. نجحت الكاميرا في جعل المشاهد يشعر وكأنه يتلصص على حبيبين في بداية علاقتهما، يراقب عن قرب معاناتهما ومحاولاتهما المستمرة للتغلب على التحديات التي تواجههما.
يعتمد هذا النوع من الحبكات على وجود التناغم بين بطلي العمل، وهو ما كان واضحًا بين داريل بريت جيبسون وأرسيما توماس. خفة الظل والتلقائية في الأداء كانتا مفتاح نجاح هذا التوافق. تمكنت أرسيما توماس من تجسيد شخصية مالي بإتقان، من خلال نظراتها الحادة التي تعكس كبرياءها وطموحها، وثقتها الظاهرة في نبرة صوتها وأناقتها التي تتماشى مع وضعها الاجتماعي. في المقابل، أظهر جيبسون ببراعة الجانب الضعيف من شخصية فرانك، الذي رغم ضياعه واستهتاره، لم يخفِ طيبة قلبه. هذا التوازن في الأداء بين الشخصيتين ساهم في جعل العلاقة بينهما أكثر واقعية وجاذبية
جدير بالذكر أن المخرج وبطلي العمل من أصحاب البشرة السمراء، مما يضع الفيلم ضمن إطار السينما السوداء. كنت أتطلع إلى رؤية ما يشغل هذا المخرج الأمريكي من أصول أفريقية حول مجتمعه وطريقة تمثيلهم. وجدت أن المخرج قد قدم حكاية تقليدية لكن بأبطال يشبهونه مثلما قامت به بطلته في الفيلم ؛ فهي من محبي سلسلة أفلام حرب النجوم، وكانت ترى نفسها كطفلة في شخصية الأميرة ليا. ومع ذلك، لا تشبه ليا بأي شكل من الأشكال، فهي ليست فتاة سمراء. ورغم ذلك، تغلبت على هذا الأمر، ونسجت برفقة والدها ملحمة أسطورية تضعها في مركز البطولة كفتاة سمراء متوجة على عرش مجرتها
لا يمكننا بالطبع الحكم على مستوى المخرج من خلال عمله الأول، ولكن يمكنني التعبير عن مدى استمتاعي بما قدمه في هذا الفيلم. هذه هي مشاهدتي الثانية له، ورغبت في الكتابة عنه لأنني أرى أنه يعرف كيف يتناول موضوعًا تقليديًا بأسلوب احترافي، مما يعكس جمالية فريدة. بالإضافة إلى ذلك، كانت اختياراته الموسيقية مستوحاة من تجارب مستقلة تشبه تجربته، مما أضفى عمقًا على العمل وجعلني أستمتع بها وأعيد الاستماع إليها مرارًا
وأذكر هنا فيلمًا آخر لمخرج من أصول أفريقية، ليس بقصد المقارنة، ولكن لأن كلاهما اختار في أول أعماله حكاية تقليدية وقدماها بشكل استثنائي. أتحدث عن فيلم ترياق للحزن، أول أفلام المخرج باري جينكينز، الذي يستعرض قصة شاب وفتاة غرباء تجمع بينهما علاقة عابرة لليلة واحدة بعد لقائهما في إحدى الحفلات. يتضح من الفيلم هموم المخرج تجاه عرقه الأصلي بشكل يتجاوز كونه مجرد فيلم عن شخصين التقيا في خضم الحياة، بل إنه يتناول أيضًا المدينة التي تجمعهما. لدى وعي بهويته التي يحددها لون بشرته، بينما الفتاة، التي تشترك معه في العرق، تحاول جاهدة الاندماج مع المدينة والأعراق الأخرى، لكنها لا تستطيع رؤية الأمور من نفس منظور البطل، مما يدفعها أكثر نحو جذورها
ربما لهذا السبب، اختار جينكينز منح فيلمه مظهرًا باهتًا، غير مشبع بالألوان، حتى في أكثر لحظات الحب والدفء بين البطلين. هذه الخيارات البصرية تعكس عمق التوترات العرقية والوجودية التي تعيشها الشخصيات، مما يضفي على تقليدية الحكاية بُعدًا إضافيًا
لم يخضع جينكينز لمعايير السينما التجارية لتقديم نهاية سعيدة لفيلمه، بل جعل الألوان تغمر الفيلم كما لو كانت تعكس ألمًا حقيقيًا يوجعنا بعد أن عشنا الحب بين شخصياته. في المقابل، اختار نات إدواردز نهجًا أكثر تقليدية، يتماشى مع طبيعة القصة ومتطلبات السينما الرائجة.
بالنهاية، يمثل هذان الفيلمَان إعادة تصوير للعاطفة بعيدا عن الابتذال، مما يدل على أن هذا النوع من الحبكات سيظل أرضًا خصبة يستغلها صانعو الأعمال في أي مرحلة من مراحل حياتهم الفنية