"القصة محتمل أن تكون حقيقية"

من أخطر أنواع البشر اللي عارفين تأثيرهم وسطوتهم على غيرهم، اللي بيلمسوا التغيير والفرق في كل اللي تتلاقى خطوط حياتهم مع خطوطهم ومن النوع ده كانت "مدموزيل لاكلايرون" أشهر ممثلة في عهد الملك لويس الخامس عشر . مدموزيل لاكلايرون كانت عارفه أنها حلم لكل النبلاء والأغنياء وتقريبًا كل اللي عينه وقعت عليها وفيه اللي إدعى أن ملك فرنسا بنفسه كان مهتم ومتيم بيها وبسبب ده صابها الغرور والثقة الزايده عن اللزوم ومكنش في حد يقدر يقف قدامها وقدام طموحاتها لأنها كانت يتيمة ومعندهاش أي أقارب... 

وكتبت في مذكراتها: "أما أنني ذكية فقد تعلمت ذلك من أغبياء الرجال ، وأما أنني مغرورة فكل فنان كذلك . فإني واحدة كما أن باريس واحدة في هذه الدنيا" 

لاكلايرون عاشت عمر طويل وقبل ما تموت بفترة قليلة كتبت مذكراتها بعنوان "مذكرات إيبوليت لاكلايرون". في المذكرات إعترفت بقصص العشاق وأسمائهم وطبعًا ده سبب بلبلة كبيرة عشان فضايح النبلاء وعلية القوم . وبعد نشر المذكرات بأيام إختفت من غير أي أثر! لأن النبلاء وكل اللي أسماؤهم ذُكرت إشتروا آلاف النسخ من ضمنهم نبيل أشترى لوحده أكتر من ألف نسخة خوفًا على والدته اللي مكنش عندها أي شك في جوزها المخلص واللي طلع من عشاق إيبوليت ومسلمش منها! بس للأسف وبرغم المحاولات والمجهودات الشاقة دي ونجاح النبلاء في إخفاء النسخ إلا أن الناس كانت قرت المذكرات في الكام يوم دول ومحتواها إتنقل ما بينهم وإتعاد طبعها والناشرون طبعًا حطوا بصمتهم وزودوا قصص من عندهم وبدأوا يهددوا الأسر النبيلة عشان فلوس أو مصالح....

لاكلايرون إتولدت في مدينة كوندية سنة 1733 على الحدود ما بين فرنسا وبلجيكا ولما تمت ال13 راحت بنفسها لفرقة "الكوميدي الإيطالية" وقدمت عشان تضم ليهم. المدير لما شافها قالها: أنتي مدركة صعوبة مجالنا؟

ردت: سمعت كتير بس مظنش أني أصلح لأي حاجة تانية!

والمدير نفسه إتحرش بيها وفهمت كان يقصد إيه....

وشوية شوية بدأت تكبر كممثلة وتتعرف لحد ما اترشحت لدور البطولة في مسرحية "فيدرا" للأديب راسين وأعضاء الفرقة كانوا مترددين من إنها المثالية للدور لأن سمعتها كانت بقت صعبة ومدير الفرقة قال لهم : من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. وبعدين قدرت توصل لقمة المسرح الكوميدي مش بس بعلاقاتها وصلاتها وإستغلالها للرجال المهمين بس لأنها برده كانت موهوبة جدًا وكتير من الأدباء والممثلين قالوا عنها "أجمل مخلوقات الله وأخبثها وأقدرها على تعذيب من يستحق العقاب من كل أبناء عصرها". 

إيبوليت قدرت تقاوم الوقوع في الحب ومسمحتش لأي راجل مهما كان قدره يتخطى الحد ده ، "يعيش معاها ف قصة حب"، العشق كان خط أحمر، ضعف، عائق عن حلمها وهو أنها تبقى الممثلة الأولى بلا منازع في فرنسا. كل محتوى مذكرات "إيبوليت" عبارة عن فضايح وأسرار محدش كان يتوقعها بس في قصة معينة تقف عندها العين، مش نميمة مسلية، مش مسلية أبدًا! قصة مرعبة خارج عن إستيعابنا وعن حدود المنطق....

"إيبوليت" مالت مرة وحيدة ف حياتها لراجل وهو حبها جدًا بس رجعت في رأيها لما إكتشفت أنه زيه زي بقية الرجالة "كذاب"! إكتشفت أنه مش غني زي ما بيدعي وملوش الأصل اللي بيدعيه واللي ميعرفوش أنه لو كان صادق وقال إنه فقير كانت هتكون ليه! لاكلايرون كانت عندها عقدة من الكدب والزيف وهو خيب أملها وظنها فيه....

الشاب كان حبها وإتعلق بيها بجنون وهي لما إكتشفت كذبه وأدركت تعلقها بيه لدرجة خطورة تعطيلها عن المسرح وحلمها وصت اللي حواليها يبعدوه عنها ويمكن نجحوا ف ده بس منجحوش ينزعوا حبها من قلبه.

الشاب فضل يبعت ليها رسايل ومكنش بيزهق من عدم الرد...الرسايل إتكدست وحب الإستطلاع هو اللي خلاها تفتح مرة رسالة منهم وقرت فيها: "اللي مانعني من الإنتحار هو وإن كانت حياتي عذاب، لكني بتعذب بحبك وإن مت يمكن أتحرم من ده"....

في ليلة خبطت بابها ست كبيرة، مكنتش من ضمن المدعوين للحفلة، إستأذنت ضيوفها وإستقبلتها، الست كان معاها رسالة منه بتقول إنه مريض جدًا وأنه عايز يشوفها، هو ده مجرد أمله....

"إيبوليت" اتأثرت جدًا وقررت تزور الشاب العشيق بس ضيوفها مسمحوش ليها. الست الكبيرة رجعت خايبة حزينة للخبر اللي هتنقلوا ليه وأعتذرت له... إيبوليت رجعت تاني لغناها وإستعراضخا قدام ضيوفها ولما إنتهت الفقرة وجت تنحني عشان تحييهم سمعت صرخة رهيبة هزت جدران البيت! الضيوف إنتفضوا، وشوشهم إزرقت وفي اللي نط من الكرسي بتاعه من الذعر. الصرخة إنطلقت الساعة كانت 11 بليل...

 مسكوا المشاعل ولفوا البيت يدوروا على مصدر الصوت، وحتى منهم اللي خرج للبيوت المجاورة بس مكانش فيه أثر لصاحب الصرخة...

هي طبعًا خافت تنام وحدها وطلبت من عدد من الحضور يفضلوا في البيت يتفرقوا ما بين الأوض والصالة وفعلًا إتفرقوا وناموا على الأرض... لما الصبح جه جت الست العجوزة ونقلت لها خبر موت الشاب الولهان الساعة11 بليل!

في الليلة اللي بعدها إنطلقت نفس الصرخة تهز الجدران الساعة 11 بليل وكل اللي كانوا معاها سمعوها. الضيوف بدأوا يشكوا إنها نكتة سخيفة ، جريوا بسرعة للشارع بس ملقوش أي حد... في اليوم التالت الضيوف إتوزعوا ف كل الأوض وقدام الباب وفي الشارع ولما دقت الساعة 11 الصراخ إنطلق...

في السوم الرابع الشرطة وصلت وشهدت الصرخة من غير أي قدرة منهم يمسكوا صاحب الصوت أو يفهموا اللي بيحصل...

فهمت لاكلايرون سبب الصرخة وأكيد ندمت إنها مراحتش تودع الشاب وبدأت تتعود عليها...

في مرة اتأخرت في المسرح، لما العرض خلص ووقفت على باب المسرح في إنتظار عربة الخيول جه واحد من العشاق وقرر يودعها بأنه يقبلها على خدها... ولما ده حصل حس ببرودة جليدية بشعة على شفته والصرخة إنطلقت والعاشق وقع على الأرض من الألم والذعر وهي هربت للعربة...

ف مرة راحت "إيبوليت" لقصى فيرساي مع فرقتها وكان المفروض تقعد 3 أيام إحتفالًا بجواز ولي العهد... قعدت مع ممثلة تانية في نفس الأوضه. قبل ما تنام نبهتها وقالت: نفسي أسمع أي صوت في الجو والهدوء الخانق ده...

مكملتش الجملة والصرخة إنطلقت، وكل اللي في القصر إتذعروا حتى الملك وقع من سريره من الخوف لما سأل، بلغوه أنه واحد سكران تحت النافذة....

***************

شوية شوية الصراخ إختفى وبدل منه بقى صوت طلق ناري بيخترق النافذة بتاعتها كل يوم ف نفس الميعاد بس مفيش أثر للطلقة... 

وبعد عشرين سنة إيبوليت فعلًا بقت أشهر ممثلة زي ما حلمت بالظبط... في ليلة زاؤتها الست العجوزة اللي نقلت لها خبر مرضه زمان وحكتلها إنها كانت بتراعيه ف مرضه وعرفت أنه كان بيحبها وأنه كان ممزق بين حبه ليها ورغبته أنه يراعي أبوه وأمه المريضين، وحبه الجنوني ليها شتته عن الواجب ده...

في الليلة اللي مات فيها قاوم وحاول يقف على رجليه عشان يموت عند بابها، يشوفها للمرة الأخيرة بس مقدرش ووقع ومات....

إيبوليت سألتها: ليه كل الصراخ ده؟

-الصوت هيفضل يطارك بعدد ليالي السنين اللي إتعذب فيها بحبك، الف ليلة!

وفعلًا الصوت إختفى تمامًا بعد المدة اللي قالت عليها، أما عن أصل وهوية الست إيبوليت مقدرتش تعرفها أبدًا!

عاشت إيبوليت 4 سنين بعد الثورة الفرنسية ... بعد كتابة المذكرات وإستعدادها لكتابة الخاتمة وصفت اللي بتمر بيه في الصفحة الأخيرة: "عندي شعور غريب بأنني سوف أموت قريبًا. لا أعرف سر هذا الشعور. ولكن الصوت الذي كان الناس يسمعونه معي..هذا الصوت أصبح يهمس فس أذني ويقول: تعالي.. ومن الغريب أنني أصبحت دون شعور مني أقول له: سوف أجيء..ويقول لي الصوت: بعد شهر واحد وأقول له: لن اتأخر يومًا".

إيبولت لاكلايرون ماتت بعد التاريخ ده بشهر بالظبط....

ملحوظة: المصدر كتاب "أشباح وأرواح" لأنيس منصور وتمت معالجة القصة بأسلوبي