بسم الله الرحمن الرحيم
القصة مستوحاة من أحداث حقيقية
بقلم ياسمين رحمي
-------------------------
= صدقني أنا مش هقاوم ولا هنكر ولا هعترض على أي حكم هتحكموا بيه، أنت مخدتش بالك إني مقاومتكمش، محاولتش حتى أهرب؟ وأنتوا تعرفوا كده عننا؟ هل يعقل إننا نستسلم بسهولة؟ أو نخاف؟ أو نخسر في معركة قدام حد؟ إحنا أشباح، وأنتوا مدركين ده كويس، أشباح مادية، تقدر تطعن وتغتال بس متتلمسش، إيه بقى تحليلك للي حصل؟ إني سمحتلكم تقبضوا عليا؟
الإجابة باختصار إني كده كده مبقاش عندي رغبة إني أكمل، لو كنتوا وصلتوا بعد 10 دقايق بس كنتوا هتلاقوني جسم من غير روح، جثة مدلدلة بتتمرجح يمين وشمال من حبل ربطته بإحكام..
-أنا مش عايز النسخة المختصرة، عايز القصة كلها بتفاصيلها.
ضحكت ضحكة مكتومة بسخرية ورديت:
=القصة كلها؟ عايز تعرف قصة الأساسيين كاملة بكل عظمتها وخناديقها ومتاهاتها وأسرارها من فرد واحد منهم، مني أنا؟ أنا مجرد خلية صغيرة قد كده من ضمن خلية كبيرة، كُبر المجرات، لا تعرف أولها من آخرها ولا يمكن تعرف حجمها الحقيقي وعمق تفكير العقول المدبرة، وأكيد مش العدد أو هوية الناس المنتسبين ليهم، أصل مش كلنا كنا بنفضل في القلعة ونطلع على المهمات ونرجع، العدد الأكبر منا مزروعين وسط الزحمة، في مناصب مهمة، وتحت إيدين سلاطين وحكام مؤثرين أو طواغيت، وكمان في الحواري وسط عامة الشعوب تحت الراية الإسلامية، من سمرقند لمصر لبغداد وغيرهم.
-طب احكيلي قصتك أنت، وفهمني ليه واحد من الأساسيين ينشق عنهم وبدل ما يبقى فدائي زي الباقيين يقرر يموت نفسه.
=ياااه، غالي والطلب رخيص، ياريت، مش أنت اللي هتستفيد على قد ما أنا اللي هستفيد، هشيل الحمل اللي على صدري وأخيرًا هقدر أتنفس، أنت أكيد تعرفوا قصة المؤسس، صاحب فكرة الأساسيين، والسبب الواضح والمعروف بين الناس عن تأسيس فرقتنا، ومع ذلك هقولك سريعًا، بس للأسف، في الغالب هتتوه أكتر لما أحكي، كل ما تعرف هتكتشف إنك متعرفش، وكل ما هتفهم هتبقى جاهل أكتر، "كرم القماح" كان مؤمن بفكرة الإمامة، إن لازم يكون في إمام للمسلمين، ومينفعش نكتفي أبدًا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان شايف نموذج الإمام في خليفة معين كان في مصر، لكن الحكم راح لأخوه الصغير، "كرم" هاج وشاف إن دي خيانة عظمى ولعب في أصول وثوابت، إمام المسلمين هو الخليفة الفلاني الأخ الكبير، إزاي الخلافة ومعاها الإمامة تروح للأخ الصغير، هي فوضى؟؟ وشاف إن أمثل طريقة عشان يوضح إعتراضه وموقفه الرافض للعك ده هو إنه يجمع شوية تابعين ليه، يبقوا مع بعض ثورجية، إيه بقى هدف التجمع أو نهايته، الله أعلم، مظنش إنه في المرحلة دي هو نفسه كان عارف، أهو إرتجال وخلاص، وحصل..
بس محاولته فشلت عشان بعد ما جمع عدد من التابعين وعمل جيش صغير كده، الوزير "آرام الحكيم" شم خبر عن الحركة دي وخطة كرم اللئيمة فجمع هو كمان عدد من الفرسان والمحاربين وراح للثكنة بتاعة كرم، الجيش بتاع "آرام" وزير السلاجقة كان أكبر بكتير من جيش "كرم" وكان متدرب بشكل أكبر ومعاه أسلحة أكتر، والنتيجة إن لما جيش كرم، اللي هم شوية متمردين عديمي الخبرة شافوا جيش آرام اتلفتوا وجريوا بأقصى سرعة، هربوا من ساحة المعركة وقالوا يا فكيك، إحنا مش قد الناس دي، ولا فارق معانا مين يبقى خليفة ومين إمام، وبكده كرم لقى نفسه لوحده، وقدر يهرب بمعجزة..
بعدها استقر في الشام فترة، والفترة دي كانت كافية عشان يلملم خيبته وفشله وأفكاره الفوضوية ويبدأ ينظمها عشان يخرج بفكرة محدش غيره سبق ليها، على حد علمي يعني وعلى ما وصلنا من وثائق وقصص من التاريخ، والفكرة هي إنه مش مجرد يجمع شوية جنود مرتزقة أو حتى مؤمنين بفكره وبس، لأ إنه يربيهم على إيده، يخلق ما بينه وبينهم وبين بعض رابطة أقوى من روابط الدم، ولازم لازم يوصل لطريقة معينة تقنعهم إنهم الأعلى، الفرقة اللي ليها الإيد العليا والتحكم، الفرقة الصح، اللي مع الأساس، مع إمام المسلمين الحقيقي، "الأساسيين"..
وشد الرحال على جنوب بحر قزوين، في بلاد فارس، المنطقة اللي وصل ليها كانت عبارة عن سلسلة جبال عالية جدًا، في الشتا بتتغطى بالتلج، ومجرد النظرة ليها كانت كافية تخلي دم اللي بيبص ينشف من الرعب..
هناك في أعالي الجبل كان في قلعة، قلعة ضخمة، اللي يدخل فيها يكسل يستكشفها كلها من حجمها المبالغ فيه، "كرم" وطى، خلى ضهره يبان محني، وحط على عينه حتة قماشة صغيرة، ومسك عصاية ومشي بيها ببطء، وصل للجبل من تحت، واحد من الحراس بتوع القلعة شافه، صعب عليه حاله، قال يكسب فيه ثواب، مكنش يعني هيسيب راجل عجوز جسمه مش شايله لوحده في المنطقة المفتوحة دي، لو اتساب كان هيبقى فريسة لوحوش الجبل أو البرد الشديد، دخله القلعة..
القلعة كان ليها مالك مش متجوز لسبب ما ومجموعة من الخدام والحرس، عددهم كده على بعضهم بما فيهم المالك حوالي 20 واحد..
وقدر "كرم" يخترق القلعة...
-بالسهولة دي؟
=اه، أسهل طريقة لاختراق أي ثكنة مهما كانت صعبة هي باختراق القلوب والضماير، لو عدوك عنده أدنى درجة من الإنسانية هيبقى ليه نقطة ضعف، مكان تقدر من خلاله تدخل وتسيطر على المعكسر بتاعه، يعني مثلًا جرب تعمل دور واحد عجوز أو واحدة ست أو...طفل مثلًا وشوف النتيجة، إلا لو بنتكلم على أصحاب القلوب الحجر، ودول موجودين برضه.. المهم إن "كرم" بهيئته إياها قدر يخطي جوه القلعة، ودي أكبر غلطة عملها الحارس..
دخل عليهم بالحنجل والمنجل، قال راجل تقي وبتاع دين وزهد..
(يضحك بسخرية بعد كلمة زهد)
هدمة مقطعة وجسم رفيع، لحم على عضم، ووش شاحب وعليه بقع من قلة التغذية يا عيني، بدأ يديلهم مواعظ عن الزهد وأهميته عشان رفعة الروح، قال لهم إنك كل لما تحقر إحتياجاتك المادية الدنيوية وتمنع نفسك من الملذات، من كل أنواع الملذات، كل لما روحك ترتفع و ذهنك يصفى وتشوف حاجات مكنتش باينة ليك قبل كده، الحواس كلها بما فيهم البصر والبصيرة بيبقوا حادين أكتر والشوايب بتتشال، بيتشال الحاجز ويتكشف عنك الحجاب..
الجماعة جوه القلعة عجبهم الكلام، دخل دماغهم، وأولهم صاحب القلعة، الراجل اللي تقله دهب وفلوسه متشيلهاش خزاين فارس كلها..
ومن غير ما يدعوهم "كرم" اتلموا من نفسهم تاني حواليه لما الليل خيم وقالوله قول يا شيخنا، سمعنا، والشيخ كرم العجوز المأتب كمل محاضرته عن الزهد وفوايده، والأبواب اللي بتتفتح والحواجز اللي بتنزل والعقبات اللي بتتشال، وبعدين أتكلم عن ضرورة نشر الدعوة، دعوة الزهد ما بين شعوب بلاد المسلمين، والدعوة لازملها تنظيم والتنظيم عايز جماعة وقائد وراية ترفرف عليهم وتضلهم تحتها، وإن مينفعش أي دعوة ولو كانت روحانية تتساب من غير دليل، حد يمسك الشعلة وينور الطريق للي وراه.
-وبعدين؟
=بالظبط، هو ده اللي فكروا فيه بالظبط، وبعدين؟ فجأة جماعة القلعة بقوا حاسين بأزمة، وأكتر واحد شال الهم هو صاحب القلعة "المؤنس"، وبعدين في الضياع اللي البلاد فيه ده، إمتى نتجمع كلنا تحت راية واحدة، راية الزهد؟ إمتى ننظم صفوفنا عشان نفوز..
-تفوزوا؟
=يفوزوا، يفوزوا يا سيدي، إنت نسيت إني انشقيت ولا إيه؟
-ماشي يا منشق، كمل، يفوزوا إزاي وبإيه؟
=يفوزوا بالجنات، بنعيم الآخرة وسلطان الدنيا.
-سلطان الدنيا ، أومال إيه الزهد ويا زهد؟
=لأ، ما هو المرحلة اللي بعدها بقى إن "كرم" بدأ يقول لهم إن الجماعة دي، اللي هتتجمع حوالين رسالة واحدة سامية، هيتجازوا بقوة في البدن ورهبة ليهم تبقى طاغية على كل اللي حواليهم، وصقل للحواس بتاعتهم وحتى حركتهم، مش هيبقوا بشر عاديين، هيتفوقوا، كل صفاتهم مع الوقت هتختلف، هيبقوا زي جنس تاني مختلف تمامًا، ليه خواص مميزة، وكمان هيجيلهم الخير من كل حدب وصوب، دنانير الدهب والفضة وأواني النحاس وهيتلفحوا بالحرير وغيره من الخير اللي هيبقى مع كل خطوة ووجود ليهم.
-اه، هو راح فين الزهد؟
=ما هو الزهد هو اللي هيجيب النعيم، فتح دماغك معايا بقى.. وشوية شوية الضهر اتفرد والقوام اتعدل ومبقاش في حاجة للعصايا، وكل واحد من العشرين خرج بره القلعة ورجع بعشرين، ناس معارفه على ناس ميعرفهاش، عشان يسمعوا دروس الشيخ الجليل، اللي بمعجزة صحته وشبابه رجعوله، وبقع وشه دابت وجلده ورَد بعد إقامته في القلعة المدة اللي عدت، واللي جه مرة جه تاني وتالت ورابع، والكل اتفقوا من غير ما يقعدوا ويتفقوا على الشخص اللي هيشيل راية توحيد "الزاهدين" أو "الأساسيين" زي ما "كرم" سماهم، وهو "كرم" نفسه، مين يعني هيكون أولى منه، بورعه وذكاءه ونظرته للأمور، وكراماته اللي بانت من هيئته اللي اتغيرت؟
و"كرم" مكدبش خبر، مترددش ثانية لما اتعرض عليه الأمر، وهنا عرف إن الوقت جه..
القلعة لازم تكون ملك لقائد الأساسيين، لا يجوز ملكها يكون لغيره ولا حتى للمالك الأصلي، جمع شوية دنانير حلوين من أتباعه المخلصين ورمى سُرة الدنانير لصاحب القلعة وقال له: "يالا من هنا، بالسلامة أنت، دورك إنتهى"
أنا لحد المرحلة دي مكنتش إنضميت للأساسيين، لسه مخطتش جوه القلعة بس اتحكالي، نظرة صاحب القلعة في اللحظة دي كانت معبرة جدًا عن اللي جه في باله، أيوه، "المؤنس" أدرك، شاف من خلال "كرم القماح"، المرة دي بجد الغيمة انقشعت والدنيا بقت واضحة بالنسبة له، "كرم" راجل نصاب، مش أي نصاب، ده نصاب ليه فكر ودماغه عبارة عن خرايط ودهاليز، كل حاجة كانت متخطط ليها من البداية، من أول تعديته اللي تبان عفوية من قدام القلعة، واصطناع الغلب والمرض عشان يدخلها وبعدين دور الشيخ الزاهد اللي عمله، والدروس اللي كان بيديها وقعدات المواعظ والروحانيات، ودعوته لتجميع الناس وتوحيدهم تحت راية واحدة وإمام واحد..
وطبعًا كان عارف إن التابعين مش هيشوفوا قدامهم في النهاية غير شخص واحد بعينه، هو، وده لإنه إدى وصف معين للإمام ورسم رسمة محددة بمقاييس محددة تتظبط على مقاسه هو وبس، هم فاكرين إنهم وصلوا للاستنتاج ده لوحدهم، ميعرفوش إنه زرع الفكرة في دماغهم واحدة واحدة ورواها وكبرها، مسبش حاجة للصدفة أو لاجتهاد حد فيهم، ودي وصفة "كرم القماح" من الأول للآخر، دي مدرسته، مكنش يبدو طاغي ولا متسلط، كان بيدي إيحاء لكل ولاده "زي ما سمانا" إننا بناخد قراراتنا بنفسنا، ولينا فكر وآراء وإرادة وكده، لكن في الحقيقة هو كان تعبان لئيم بيلدغنا ويجبرنا نمشي في مسارات محددة عشان ندخل الجحور اللي هو عايزها، ننفذ إرادته هو بالحرف الواحد..
واتنقل للمراحل الممتعة بالنسبة له، مرحلة التدريب بدنيًا وذهنيًا عشان تحقيق أهدافه، تصفية قايمة الاغتيالات اللي عملها..
وفي المرحلة دي بقى أنا جيت..
-كان عندك كام سنة ساعتها؟
=معرفش بالدقة، تقريبًا كنت 10، 11، 12 سنة.
-مكنتش تعرف سنك؟
=تصدقني لو قلتلك إني مش فاكر أي حاجة من حياتي قبل ما يلاقوني، قبل القلعة؟ ال10 ولا ال12 سنة دول ممسوحين تمامًا من الذاكرة بتاعتي، مين أهلي؟ طب فين بلدي؟ لغتي؟ حبيبة طفولتي حتى؟ معنديش أي فكرة، أول لقطة فاكرها في حياتي، وهي اللحظة اللي بعتبرها لحظة ولادتي لإن اللي قبليها ضلمة زي ضلمة رحم الأم كده، هي لما اتنين هيئتهم مميزة قربوا مني، كانوا لابسين جلابيب غامقة ملفوفة على جسمهم بإحكام، وتحتها سراويل رجليها وسعها ووسطها مظبوط عليهم ومتلفحين بوشاح على وشوشهم من نفس أقمشة الجلاليب، مفيش غير عينيهم والجزء اللي تحتيها باين.. فاكر كويس إحساسي وقتها، الشلل اللي صاب جسمي والهزة اللي صابت أطرافي، قلت في نفسي أنا عمري ما شفت بني آدمين بالشكل والحركة الرشيقة والخطوات الواثقة والنظرات الثاقبة دي، دول مش زي باقي الناس..
قربوا عليا، واحد فيهم وقف على يميني والتاني على شمالي، الاتنين تنوا ركبهم في نفس الوقت وقعدوا نفس القعدة بنفس الوضعية في اتجاهي، وبصولي نفس البصة، كإنهم شخص واحد اتعمل منه نسختين!
سألوني:
-مين أبوك أو مين سيدك.
مردتش..
واحد منهم كمل وقال:
-من النهارده إحنا آبائك وأسيادك ، أولياء أمورك، الآمرين والناهيين.
=أنتوا مين؟
-إحنا الأساسيين.
وخدوني معاهم عالقلعة، كنت داخل حافي، هدومي مقطعة، مش جعان عشان ناسي أصلًا طعم الأكل وإحساس الجوع، من أول ما اتفتحت البوابة الضخمة ومع أول خطوة وأنا عرفت إني بنتمي لهناك، للقلعة، وإن مصيري مربوط بيها وبيهم.
فاكر قصة الوزير " آرام الحكيم"؟
-ايوه طبعًا وعندي فضول أعرف حصل معاه إيه بعد كده.
=تعرف إن "آرام" كان من بيئة فقيرة ، أبوه وأمه كانوا جاهلين، ميعرفوش يقروا حتى، وآرام برغم ظروفه إلا إنه كان متطلع وطموح جدًا، ومكانش لوحده، كان في اتنين بيشاركوه الأحلام الكبيرة اللي مش متسقة ابدًا مع حالتهم، اتنين في نفس السن، عايشين في نفس الحارة، من ضمن الاتنين كان "كرم القماح"!
-نعم؟ كرم كان صاحب آرام؟
=مش بس صاحبه، كان أقرب واحد ليه مع الصاحب التالت، والتلاتة عملوا عهد مع بعضهم وهم أطفال، إن اللي يوصل للحكم أو أي نوع من أنواع السلطة أو يبقى معاه فلوس ويكون ليه شأن يشد الاتنين التانيين، وينقذهم من القاع.
-ااااه، قول لي كده بقى وهي دي بداية الشرارة، "آرام" حلف وعده عشان كده "كرم" قرر يفتح أبواب الجحيم عليه وياخد بتاره.
=لأ، آرام مخلفش وعده، فعلًا أول حاجة عملها لما بقى وزير، إنه استدعى "كرم" واداله منصب مستشار كمان، مستشاره الشخصي، وكان بياخد رأيه في كل كبيرة وصغيرة، و"كرم" بعد ما كان بينام ليالي وليالي من غير عشا، وهدومه بتدوب عليه من كتر ما مش بيغيرها حاله اتبدل، عمل ثروة، والناس عرفته وبقوا يعملوله اعتبار، وكان معروف إنه هو وآرام وجهين لعملة واحدة، محدش فيهم بينفصل عن التاني ولا بيختلفوا ولاحد يقدر يدخل وسطهم ويفرقهم.
-الله طب ما كل حاجة كانت تمام أهو وكانوا سمنة على عسل، إيه بقى اللي بدل الحال؟
=الجشع، "كرم" مكنش مجرد طموح، ده كان طماع، مكنش عايز يبقى جزء من اللعبة، كان عايز هو اللي يصيغ قواعدها، يبقى قائد، متحكم في كل الأمور.. وده آرام بدأ يلاحظه، ده غير تطرفه وشراسته اللي كانت بتزيد يوم بعد يوم، والغريبة إنه زمان لما كانوا أطفال وبعد ما بقوا شباب وكبروا ولحد المرحلة دي مكنش باين عليه القسوة.
-أتمكن لما اتحكم.
=بالظبط كده، الشراسة كانت مدفونة جواه، مستنية الفرصة عشان تخرج، واهي جت الفرصة، "آرام" حاول معاه كتير، في البداية باللين والنصيحة وبعد مدة بالعتاب وبعديها بالشد عليه وتغيير النبرة والتوعد بالعقاب، لكن برضه مفيش فايدة، "كرم" مكنش شايف ولا سامع غير نفسه وبس، والنتيجة إنه اتعزل من منصب المستشار واتطرد من الجنة ونعيمها، بقى متحرم عليه أي منصب، و"آرام" حذره، قال له يفضل في حاله، يرجع تاني من أبناء الشعب، يشتغل بقى تاجر ولا اسكافي ولا مراكيبي ولا أي حاجة ياكل منها عيش، ويطلع من إطار السياسة ده تمامًا.
-وأكيد مسمعش للكلام ده.
=هو كان سمع للي قبل كده لما هيسمع لده، وبعدين أي حد كان هيشكل عائق ما بينه وبين رؤيته لمستقبله ومكانته كان هيمحيه من على وش الأرض، ومن هنا دق جرس العداوة، واتحول أقرب أصحاب لألد أعداء، "آرام" كان أكيد أقوى من "كرم" ولو آرام وكرم بجيوشهم اتقابلوا عالأرض مفيش شك إن "آرام" كان هيكسب، وده برضه سبب رئيسي لتأسيس فرقة الاغتيالات، ليه "كرم" يجازف بالهزيمة، ليه يعند ويلعب في منطقة مش بتاعته، من الذكاء إنه يعترف بنقطة ضعفه وهي المواجهة العسكرية، ويبتكر إسلوب جديد، ميكلفوش أسلحة كتير وتخطيطات للغزو وتفسيم جيش إشي فرسان على رماة على سيافين، هو شخص واحد متدرب تدريب مفيش بشر اتدربه، خفيف زي الريشة، رشيق زي الفراشة، والضربة من إيده زي لدغة التعبان السامة، طعنة واحدة كافية تحقق الهدف، تفصل الروح عن الجسد..
"آرام" عرف مكان "كرم" الجديد، خد جيشه وانطلقوا على هناك..
وصلوا ونصبوا الخيم قدام القلعة اللي فوق الجبل واستقروا، حاولوا يضربوا القلعة بالمنجنيق لكن الضربة مصابتهاش، موقعها كان حصين وصعب الوصول ليه، لكن "آرام" مستسلمش وقال "إن غداً لناظره قريب"، يعني كانوا هيروحوا منه فين، هيفضل يحاول ويحاول لحد ما يخترق القلعة ويخلع بإيده قلب "كرم" ويضمن نهاية شره وجبروته، دي كانت أفكاره وهو ممدد على فراشه في الخيمة بتاعته وكان على وشك يروح في نوم عميق مسالم لولا إنه حس بحاجة..
في حد بره خيمته، مكنش في حركة واضحة، ولا أي صوت، لكن بما إن الوزير راجل سياسة وحرب فحواسه كانت حادة، وعنده حاسة غير الحواس المعتادة، زي بوصلة كده تنبهه لأي خطر أو حاجة غريبة أو مستخبية..
رفع سيفه وخرج بره خيمته، كان مستعد ينزل بيه على الدخيل، يقتله قبل ما الدخيل يستوعب الضربة المفاجأة، لكن اللي حصل إن السيف وقع منه عالأرض، عشان اللي قدامه مكنش شاب بعضلات وسلاح وعيون بتطق شرار، ده كان طفل صغير، هزيل، بيترعش من البرد وعليه هدوم خفيفة متحميهوش من برد فارس القاسي، شفايفه زرقة وعنيه مكسورة..
-إيه يا حبيبي اللي جابك هنا؟
سأله "آرام" بنبرة حانية وعينين قلقانة، الولد رد عليه:
=بمشي من غير هدف، من زمان وأنا ببات في الطرقات والأرض المفتوحة، ولما أقوم بكمل جولتي، مليش وطن ولا أهل، هو إيه اللي بيحصل هنا؟
-تعالى، تعالى متتكلمش، إنت محتاج كل طاقتك..
سحبه، شال فرو الخروف اللي كان على كتافه وغطاه بيه، وحاوطه بدراعه ودخله خيمته، الخيمة كانت مساحتها كبيرة تسمح بوجود نار على الحطب المتجمع، وده اللي عمله "آرام"، ولع نار وقعد الطفل جنبها وجاب هدوم تقيلة أكتر عشان يلبسهاله.
مسك إيده وقومه، القماش التقيل كان في إيده، بس قبل ما يلبسهوله حضنه عشان يدفيه، عشان يضمن أن الدم يجري فيه بسرعة، وهنا "آرام" حس بنغزة في صدره، نغزة جامدة، بص لصدره لقى نقطة دم، والنقطة فضلت تكبر لحد ما غطت صدره كله، بص قدامه للطفل في ذهول، الطفل كان ماسك خنجر، نصله بينقط منه الدم وبيروي الأرض تحته، ابتسامة الطفل وسعت وهمس:
=دي من الأساسيين.
الطفل ده هو أنا، ودي كانت مهمتي الأولى، متهيألي اللي موته مش الضربة على قد الصدمة، معقول؟ في كده؟ اللي تحضنه وتخده تحت جناحك يطعنك، ويطلع طمعان في موتك؟ غدر متأصل ومركز، بس بالنسبة لنا مكناش بنشوف المواضيع بالشكل ده، ده كان شغلنا، مهماتنا اللي لازم ننجزها مهما كان التمن، حتى لو حياتنا، بالنسبة لنا كانوا مجرد أهداف، وكل هدف ليه نقطة ضعف، بنخترقه من خلالها، و"كرم" كان أعلم واحد ب"آرام"، كان عارف إنه إنسان عنده قلب ورحمة وشفقة، عمره ما كان هيسيب حد ضعيف معرض للخطر من غير ما يمد إيديه وينقذه، فما بالك بقى بطفل وسط طبيعة عارية متوحشة وجيش وعصابة..
-ونعم الأخلاق.
=أخلاق إيه بقى مقولتلك، المسالة كانت مهام لازم تتنفذ، وبعدين إحنا كنا بنسعى ليها..
-هي مين؟
=الجنة، ماحنا شفناها كلنا بس مفضلناش فيها، رجعنا للأرض بهمومها وصراعاتها.
-مش فاهم.
=تعالى نرجع لورا شوية، لوقت ما وصلت القلعة، ليلة واحدة استريحت فيها، نمت، نمت كإني منمتش في حياتي قبل كده، وقبلها قدمولي وليمة ليا وحدي، حسيت إني سلطان، قلعة وعز وولايم وسرير كبير مريح، ومع أول ضوء اخترق السما، لقيت اللي بيصحيني..
واحد من الفرقة واقف قدامي وبيكلمني بصوت واطي، صحيح صوته كان اشبه بالهمس، بس كان حاد وواضح، كان كافي إنه يقلقني ويصحيني، قال لي إن يومها أول يوم تدريب ليا، ولازم أقوم وفورًا، في أول لحظات صورته مع المكان كله كانت مهزوزة، بتتطوح قدام عيني، كإننا على ضهر سفينة بتتخبط من الموج العالي والبحر الهايج، وبعدين وحدة وحدة الصورة بدأت تثبت، قمت من غير ما ارد، بصيت ليه بصة جامدة خالية من أي تعبيرات، حسيت إني بقيت مجند من لحظتها، مش إنسان، مش بنتمي لوطن أو فكر أو عقيدة، أنا مجرد مجند من الأساسيين..
"كرم" بنفسه استقبلني في ساحة من ساحات القلعة المفتوحة، وعلطول بدأ يدربني..
لا يمكن! لا يمكن في يوم أوصل لقدراته، ده مش إنسان!
ده اللي جه في بالي وانا بتفرج عليه، المفروض، المفروض يعني كنت أقلده، أحاول اعمل نفس حركاته، وده طبعًا كان مستحيل..
الكائن اللي قدامي ده كان بخفة الفراش وسرعة الفرس وليونة القطط، مطلوب مني إنسلخ من جلدي الإنساني وأبقى زيه، إزاي؟
وأنا واقف سرحان اتفاجأت بضربة شديدة على ضهري، "كرم" جري من ورايا وضربني، لما لفيت وأنا مذعور لقيت نظراته حادة بتحاسبني على كسلي وقلة حيلتي، أعمل إيه، اتحرك في أنهي اتجاه، وإيه الحركات اللي المفروض أنفذها؟ معنديش فكرة، النتيجة إني فضلت واقف بنفس العجز والضربة المرة دي كانت أقوى، شبه الكرباج، وكل شوية ضربة أقوى من اللي قبلها، حسيت إني ضهري مولع من الألم، وأخيرًا ظهر في الساحة طرف تالت..
صحيح كان لافف قماشة على وشه، نفس اللفة بتاعة كل الأساسيين، عنيه بس اللي كانوا باينيين مع جزء من وشه، لكن كنت قادر أميز إنه بيبتسم من تحت اللفة..
كلهم كوم والراجل ده كوم تاني، ليه هيبة غريبة، كل اللي قلته عن "كرم" كان ولا حاجة بالنسبة لقدرات الراجل ده، "كرم" انسحب أصلًا وسابني لوحدي معاه..
قرب وهو مش بينزل عينه من عليا، كور صوابعه على إيدي في منطقة الرسغ، ووقتها أحلفلك إني في حاجة جريت في عروقي، في جسمي كله، طاقة جبارة، كإنه دخل مادة ما تحت جلدي..
بعدها علطول بدأت اتحرك، صحيح كنت بطيء جدًا بالنسبة ليه، ومش بعمل الحركات بحرفنة أبدًا، بس حالتي اختلفت تمامًا عن الأول..
وهقول لك على حاجة تانية..
-قول.
=مش عارف هتصدقني ولا لأ؟
-هو بقى في حاجة غريبة معاكوا، ده أنتوا شيبتونا كلنا، قول، قول.
=لما ركزت في عيونه وهي بتطرف لقيت الجفن مش عادي، مش زي جفوننا، شكلها زي جلود الزواحف، واللي اكدلي إني مش بخرف هو ملمس جلده في اللحظات اللي إيده لمست إيدي وهو بيدربني، الجلد كان جاف ومقشر، وكان في لمعة في عيونه تشبه جدًا لمعتهم.
-لمعة عيون الزواحف؟
=أيوه.
-وده معناه إيه؟ إيه اللي عايز تقوله يعني؟
=ده مكنش إنسان!
-أمال إيه؟
=تسمع عن إسطورة الزواحف البشرية؟
-نعم يا خويا؟
=الإسطورة بتقول إن في وسطنا كائنات شكلها بشري، ليهم نفس الصفات الجسمانية بالظبط، لكن في الحقيقة هم دخلاء، مش بشر، عندهم قدرة يتشكلوا في صورة بني آدمين بالهيئة اللي عايزينها، زي الحرباية كده اللي بتتلون وتتشكل حسب المحيط اللي حواليها..
-اه، هو صحيح مفيش أي حاجة عادية فيما يتعلق بالأساسيين، بس مش لدرجة حرباية متلونة في صورة بني آدم!
=ليه، وهو مش غريب إنها تقدر تبقى ورقة شجر أو جذع أو جزء من التربة؟ متنكرش إن قدرات الزواحف خارقة؟
-لااأ، متلفش بدماغي وتحاول تقنعني بحاجة عجيبة زي دي، مستحيل!
=طيب والجن اللي بيعرف يبقى حيوان وتعبان وكمان إنسان، ده كمان بتنكره؟
-ماشي الجن عارفينه ومؤمنين بيه عشان إحنا مسلمين وغيرنا كمان من اهل الذمة، مذكور في الكتب السماوية.
=وبما إن منطقي وطبيعي إن الجن، اللي هو كائن مختلف تمامًا عن الإنسان بصفاته وطبيعته بيقدر يحول من طبيعته ويبقى شيء مادي ملموس ومرئي ومسموع، مستغرب ليه قدرة كائن تاني على كده؟ خليني أقول لك حاجة، دي مكنتش مجرد استنتاجات، صحيح أنا حسيت إن في حاجة مش مظبوطة في المدرب ولاحظت جلده وعيونه، لكني شفت بنفسي بعد كده واتأكدت..
في ليلة قلقت، قمت من نومي ونزلت من الدور بتاع أوضتي، نزلت سلالم كتير أوي وقررت أخد اتجاه معين، اتمشى عشان اكسر الملل وأسلي نفسي بدل الأرق اللي عندي ، طبعًا عشان العتمة كنت شايل في إيدي قنديل، نزلت بيه عالسلالم واتمشيت وانا ماسكه في الساحة المفتوحة، بعد فترة أدركت إني مبقتش لوحدي، في واحد قاعد على مسافة مني، الواحد ده هو "صخر" المدرب الرئيسي للأساسيين.
-اللي من الزواحف؟
=هو بنفسه، كان قاعد بس بوضع غريب، الدنيا كانت ضلمة جدًا، القمر كان غايب ليلتها، وقلت اكيد بخرف، مش ممكن اللي شاكك فيه يكون حقيقي، عشان كده رفعت القنديل ووجهته في اتجاهه، ونفس المنظر اللي كنت متخيله شفته متجسد، "صخر" كان مربع، حاطط كل إيد على رجل، المشكلة إنه مكنش لامس الأرض، جسمه كان طافي عليها، كإنه قاعد على سجادة أو حاجة مش باينه، بينه وبين الأرض أشبار، حرك راسه ولفها لفة كاملة في اتجاهي بمنتهى البساطة، كل ده وجسمه ثابت! ابتسملي، لسانه خرج من بوقه ودخل تاني بسرعة، كان لسان زواحف، وغمض عينه وشفت تاني جلده المقشر بوضوح، كإنه بيوريني، بيأكدلي شكوكي، بيكشفلي نفسه.
-لو اللي بتقوله ده حقيقي..
=فسرلي إزاي قدرنا نعمل كل مهمات الاغتيال؟ مش معايا إن في مهمات كتير مكنتش منطقية أبدًا، إزاي قدرنا نخترق أوضة رئيس الديوان في الشام؟ برغم وجود 10 حراس بره أوضته وكلهم شهدوا إن مفيش حد دخل ولا خرج في وجودهم ومتعتعوش من مكانهم ولا ثانية واحدة، إيه ممكن تكون طبيعة اللي اخترق الحيطان أو عدى من قصاد عنيهم وفتح الباب ودخل وقتل رئيس الديوان وخرج من غير ما يشوفوه؟
-هو ده اللي بينفذ كل المهام، هو السر في نجاحكم في كل الاغتيالات؟
=لأ طبعًا هو مشاركناش في كل الاغتيالات بس دربنا كلنا، وده سبب احترافنا في القتل والهروب وتفوقنا على أي مجند تاني، وفي مهمة كانت مشتركة ما بينا، أنا وهو وشخص تالت، أخدنا بعض وروحنا على الكنيسة اللي بيتردد عليها الحاكم الصليبي في أورشليم، الحاكم ده كان معروف بتدينه وتمسكه بزيارة الكنيسة كل حد وفي المناسبات الدينية، وعشان كده دي كانت نقطة إختراقه، لبسنا أرواب سودة ودخلنا على أساس إننا من المصلين، قعدنا على الكراسي الخشب العريضة، كل واحد فينا كان ماسك شمعة طويلة، وبعد نهاية القداس، مشينا ناحيته، قلناله إننا عندنا رغبة نعترف بخطايانا لكن قدامه هو لإننا بنعتز بيه وبنعتبره أبونا وحامينا زي ما هو حامي أورشليم من المسلمين، رحب جدًا، وشه نور، قال لنا نبدأ في الاعتراف بس إحنا قلنا إننا عايزين خصوصية، عايزين نبقى في كان معزول عن الناس، شاورلنا على أوضة الاعتراف، مشينا قدامه وهو حصلنا، أول لما اتقفل علينا الباب قلت:
=أبونا، أنا قتلت!
-قتلت مين؟
=كتير، منهم اللي أعرف اسمهم ومنهم اللي معرفوش، وأنت الهدف الأخير، بعترف إني قتلتك.
وسحبت خنجري اللي حطيت على نصله سم وطعنته في صدره وبطنه ورقبته وأماكن تانية كتير.
في ثواني الحرس وناس كتير دخلوا علينا أوضة الاعتراف، كانوا محاوطينا من كل ناحية، شفت زميلي وهو بيموت بعد ما نحروا رقبته ومكنش فاضل غيري أنا و"صخر"، وكنت مستني دوري، ويمكن كمان متحمس للحظة اللي هموت فيها عشان هروح الجنة اللي وروهالي قبل كده.
-وروهالك إزاي يعني؟
=خليني بس اكملك القصة، اللي حصل إني لقيت اللي بيحاوطني بالروب بتاعه، والدنيا بقت عتمة، غمضت عيني وفتحتها لقيتني في القلعة ومعايا صخر.
-لا، ده كده تمام أوي، صخر ده أكيد فعلًا مش إنسان، بس تقدريري أنه شيطان، مش سحلية ولا من الزواحف زي ما أنت معتقد.
=مش هتفرق، ايًا كان، النتيجة واحدة، وقدراته مفيش شك فيها.
-طيب هو صحيح كل اللي قتلتوهم كان عشان الفلوس، كنتوا مأجورين؟ اللي عايز يغتال حد كان بيدخل القلعة ويقعد مع "كرم" ويعرض عليه مبلغ مقابل قتل شخصية معينة؟ فيما عدا "آرام الحكيم" طبعًا..
=حصل
-الله، أومال إيه الإمامة والإمام الحق، والدعوة والمفروض يبقى الخليفة الفلاني ومش العلاني والزوبعة اللي "كرم" كان عاملها دي، أنا مبقتش فاهم حاجة، إيه أهداف الراجل ده، إيه أساس حركته؟
=مش أنا نبهتك في أول كلامنا وقلتلك كل ما تعرف أكتر هتكتشف إنك جاهل ومش هتبقى فاهم حاجة؟
-طب معلش، حاول تفهمني، "كرم" ده كان عايز إيه بالظبط وإيه غرضه من تأسيس فرقة "الأساسيين"؟
=تقييمي إنه كان بيتدارى ورا ثورته وتشجيعه لخليفة قصاد خليفة، في الحقيقة هو إنسان جي من القاع، مش بتكلم عن فقره، بتكلم عن نفسيته ورد فعله على الفقر، الحقد اللي رباه تحت جلده من طفولته ناحية أي حد معاه فلوس أو سلطة أو حتى رضا وسلام نفسي، خرج للدنيا وقرر ينتقم من أي حد سعيد واتدارى ورا شعارات ومباديء هو اللي عملها وملهاش أي أساس، وشوية شوية خلع عباية الشعارات دي واتجرد من أي قناع كان حاطه عليه وبيتدارى وراه، أول ما أتمكن من القلعة مبقاش محتاج لحاجة تانية غير طبعًا أتباعه الأساسيين.
-تقييم ذكي، بعترفلك بده، احكيلي بقى عن الجنة اللي وروهالك.
=في يوم من الأيام اتفاجأت بصخر بيقدملي مشروب، أعشاب ترخي الأعصاب، ودي كانت حاجة غريبة، "صخر" بنفسه يتواضع ويقدملي مشروب؟ المدرب بتاعنا، الأساسي رقم 1؟ ومع ذلك، مع إني كنت مستغرب، لكن مديت إيدي ورفعت الكاس وشربت، الدنيا لفت بيا، مدرتش بنفسي، مبقتش شايف حاجة، ضلمة، ضلمة رهيبة، ومن بعدها نور!
فتحت عيني لقيت الشمس ساطعة، لقيتني في الجنة!
حواليا خضرة، مساحات شاسعة من الخضرة وأنهار بتجري، قنوات من الميه، أو ده اللي كنت فاكره، لكن طلعت أنهار عسل وخمر، وفي بنات حلوة في كل مكان، فضلوا يقربوا مني، يضحكوا ويتكلموا معايا، كلهم مهتمين بيا، همهم رضايا، قضيت يوم كامل في الجنة، لحد ما واحدة من البنات قدمتلي كاس كبير من الدهب، شربت اللي فيه ورجعت الدنيا تلف بيا وصحيت لقيت نفسي في أوضتي في القلعة.
-مممم، وإيه بقى ده؟ إيه تفسيرك ليه؟
=هقولك على التفسير اللي هم قدمهولي، قالوا إني شفت لمحة من الجنة ولو عايز أفضل فيها علطول لازم أطيعهم طاعة عمياء، أنفذ مهماتي كلها، لازم الأهداف تتصفى، مهما كان التمن، ولو حياتي، وفي المقابل، لما أموت هروح هناك، وهفضل إلى ما لا نهاية..
مكنتش المرة الأخيرة، روحت الجنة مرة واتنين وتلاتة وأربعة، بس في المرة الرابعة في حاجة مختلفة حصلت..
أخدت بالي من حاجة مكنتش خدت بالي منها قبل كده، شجرة بعيييدة، هناك في الأفق، الشجرة دي مكنتش غريبة عليا، شفتها قبل كده، بس من زواية تانية، زواية من القلعة نفسها، عمري ما فكرت أروح لعندها، عشان كانت برضه بعيدة، قول لي بقى إزاي أشوف شجرة كنت بشوفها في الدنيا هناك في الجنة؟
-السؤال مش إزاي شجرة في الدنيا تبقى في الجنة، إزاي شجرة في القلعة تبقى في الجنة؟
=أيووووه، صح، جميل، مبهر! دماغك جبتها، من هنا والوساوس بدأت تتملكني، عشان كده المرة الخامسة اللي "صخر" قدملي فيها المشروب مشربتوش، شربت بداله ميه، أصلي اتسللت وبدلت القارورة اللي كان بيصب منها المشروب بقارورة ميه من غير ما ياخد باله، وبعد ما شربت ادعيت إني دوخت ونمت، بعد شوية فعلًا نعست، ونمت بجد، بس تعرف شفت إيه؟
-إيه؟
=وشوشهم كلهم، كلهم رجعوا للحياة.
-هم مين؟
=كل اللي قتلتهم، وشهم كان بياكله الدود وهم بيهاجموني عشان ياخدوا بتارهم ووراهم كان واقف "صخر" بيخرج لسانه ولسانه بيطول وبيلقط الدبان والديدان اللي ماليه الأرض وبيسحبهم وبياكلهم، مروحتش الجنة، ولا عمري روحت الجنة، دي كانت خدعة، شربونا كلنا مشروب القنب الهندي، أعشاب بتخلينا نفقد الوعي والمرحلة اللي بعديها بتسبب هلاوس، سحبونا واحنا نايمين على جنينة في القلعة، مهو القلعة كانت ضخمة جدًا، وكلنا مروحناش أماكن فيها، من ضمنها الجنينة دي، وبطريقة ما ملوا القنوات الصغيرة خمر وعسل وجابوا بنات يقعدوا في الجنينة ولما فقنا ومع الهلاوس وعدم الوعي صدقنا إننا بجد في الجنة وفي آخر اليوم شربونا نفس المشروب ورجعونا لقلب القلعة من تاني، عشمونا بالجنة عشان ننفذ مهامهم، أو بمعنى اصح مهمامه "كرم" ومن وراه "صخر" الشيطان المتحكم.
-عشان كده، كنتوا بتضحوا بنفسكم بمنتهى السهولة، في انتظار الجايزة.
=الجنة، تخيل لو كل اللي ماتوا وهم بيقتلوا شخصيات مجرمة على بريئة، أندال على أبطال، أدركوا ده، إنهم كانوا عايشين في خدعة، كانوا هيحسوا بإيه.
-أنت حاسس بإيه؟
=بإن حياتي ملهاش أي لازمة، مليش هدف ولا وزن، إني ولا حاجة، الدبان ليه فايدة عني، مش قادر حتى أكرههم أو اكره نفسي، مش قادر أوصل لمشاعري، أنا بقيت دايرة كبيرة فارغة، والفجوة فيها عماله توسع، أنا ولا حاجة، ولا حاجة.
شفت في عيونه شفقة ليا، بص في الأرض ورجع بصلي، كملت كلامي.
=بس تعرف إيه الأبشع من ده كله؟
-إيه؟
=حفرة النار اللي وقعت فيها عميقة أوي ومفيش سبيل للخروج، حتى بعد ما أدركت إنها حفرة نار وإن اللي حواليا وشدوني ليها شياطين، مشيوا ومشوني معاهم على المسار الغلط، مفيش مجال للرجوع، أنا حرقت كل المراكب، مفيش سفينة عشان أرسى على شط.
-مش فاهم.. أنا كمان عندي ليك اعتراف، عندك فكرة أنا مين؟
=أنت حاكم بغداد.
عينه وسعت، جسمه اتهز، مكنش متوقع، ميعرفش إني مدرك من البداية..
=مش قلتلك كل هدف ليه نقطة ضعف، سبيل لاختراقه، أنت طريقة صيدك كان لازم تكون معكوسة، لازم أنت اللي تكون الصياد، عمرنا ما كنا هنعرف نوصلك بطريقة تانية، سبتك تقبض عليا أنت ورجالتك، وسيبتك على جهلك بظنك إني جاهل، مش عارف أنت مين، في الوقت اللي بتنصب فيه فخك شباكي رميتها عليك، أنا مكدبتش في حاجة قولتها، الأساسيين كدابين مزيفين معندهمش مباديء، وأنا عارف إني في بؤرة نار بس زي ما قلت هي دي بقت حياتي، مفيش سبيل للرجوع...
مكنش محتاج مني مجهود، الصدمة شلته في مكانه، حتى مقاومش خنجري وهو بيدخل جوه قلبه وبيخترقه، وأدي مهمة تانية أنجزتها، هدف اتخلصت منه.....
"تمت"