١) المواطن مصرى ..
فى منتصف التسعينات على ما أتذكر، أنا وأبى رحمه الله عليه فى طريقنا من طنطا إلى كفر الزيات. توقفنا قليلا عند "دفرة" لإزدحام الطريق.
إقترب من النافذة بائع البطيخ الواقف على الرصيف المجاور لنا، رجل ريفى يضحك ضحكة واسعة. طرق على الزجاج فى سعادة غريبة "يا أفندى...يا أفندى ...تحلج يا أفندى ...هههه"، لم يعره أبى إنتباها. كررها الرجل ثانيه وهو يضحك؛ مقلدا بإصبعيه حركه المقص و مطقطقا بفمه فى محاكاه لصوته.
"يا أفندى....مش عايز تحلج ولا ايه!" حدق أبى فى وجهه للحظات ثم "يااااااااااااااا....واد يا محمد! يخرب بيت شيطانك يللا!"
نزل والدى من السيارة و تعانق الإثنان، دق كلاهما على ظهر الآخر بقبضته بشدة وتحدثا قليلا. عاد أبى الى السيارة ضاحكا "محمد كان عسكرى عندى و حضر معايا لحد ٧٣....العيال دى كانت رجالة...محمد دا نفسه من كتر ما هو ذكى وشاطر كان وصل إنه بينشن بطلقة المدفع على جذع الشجرة يقسمه نصين...إنتى متعرفيش يعنى ايه يوصلوا للدقة دى".
نظرت ثانية إلى الرجل،بجلبابه المهترىء القصير وقدماه المطلتان من نعله. نظراته الضاحكة التى تبدو بلهاء إلى حد ما،فرشه البطيخ الجالس إليها على جانب الطريق و هو ينادى على بضاعته مصفقا وضاحكا.
تحت اى ظرف،لا يمكن أن تتخيل لثانية واحدة أنك تنظر إلى بطل من العيار الثقيل...
2) إنقاذ الجندى رايان:
إذا لم أتخيل للوهلة الأولى أنى أنظر إلى بطل،فلأن مواصفات البطولة ملتصقة فى رؤسنا بسمات معينة.
فى أفلام هولييود،رتجد الأبطال عادة وسيمى الملامح. يتحدثون بلغة نصف شعرية،عميقوا النظرة، يحملون لواء مفاهيم العدالة و الإنسانية. هم لا يسيرون إلا بمصاحبه موسيقى عسكرية حماسية فى الخلفية بخطوات رصينة،و عادة ما تكون كلماتهم الأخيرة قبل الموت قمة الحكمة.
هكذا صدرت لنا هولييود مواصفات البطل...
لكنهم، هم، بوجوه أنهكتها البلهارسيا، أفرولات واسعة و نظرات بسيطة و تهريج مكتوم بين لمحات الجدية التى يتصنعونها تصنعا. لهجاتهم على اختلافها،و الأهم من ذلك "قفا" أحمد ذكى فى فيلم البرىء. تلك الحركة التى لا أعرف كيف أصفها.
مواصفات هى أبعد ما تكون عن مواصفات البطل الكلاسيكى و الموسيقى العسكرية المصاحبة لحركته...
أنت لن تدرك أنهم أبطال...لأنهم لا يدركون أنهم أبطال...
3) صائد الفئران:
أذكر جيدا الرجل الريفى المرح الذى كان يعالج بالمستشفى،تقول أوراقه أنه مصاب عمليات عسكرية. سألته كيف أصيب فهز رأسه متباهيا: " آآنى كنت مع العميد أبو سييعده ....آآآنى اللى أسرت عساف ياجورى".انطلق الرجل يحكى رافعا حاجبه الأيمن"إحنا قالولنا تجفوا صخر...صخر كده ولا نفس ولا صوت و سيبوهم يعدوا...بعدين عملنا عليهم كماشة و نزلنا فيهم عزززج ...ضربنا اللوا المدرع بتاعهم مسخرناه...و بجى عساكرهم ييجوا كده و احنا نحلج عليهم كده" كان يحكى و وهو يحرك ذراعيه فى الهواء،و يضع طرف جلبابه فى فمه أحيانا و يضحك و يقلد أصوات المعركة. "قوم لججيينا واحد كده بيحلجوا عليه نط من دبابة و كذا واحد نط وراه فى حفرة..آآنى فهمت إنه رتبه...رحنا حوطناهم و شاورنالهم ...اطلعوا و يدكم على راسكم....جاوحوا الاول ...بعدين طلعوا واحد ورا التانى...لحد ما ده طلع مدلدل كتافه ...لمحنا رتبته زعجنا..ألوف مشنيه...ألوف مشنيه..اللى هى عقيد يعنى".
يستمر الرجل الطيب فى الرواية ببساطة و كأنه يحكى عن مطاردة فأر فى الحقل. يقول لى بكل فخر "جبنالهم أكل ومضربناهمش بعد ما استسلموا، لهو احنا ولاد حرام زيهم؟! كانوا مرعوبين لنضربوهم،بس لا احنا نعرفوا ربنا دووكها ميعرفوهوش"
لا كلمات طنانه..لا موسيقى فى الخلفية...
استمر الأمر كدعابه، كلما رآنى قال لى "هو انى جلتلك أنى أسرت عساف ياجورى؟" أدعى النسيان لأشاهده يحكى فيعيدها بأسلوبه الضاحك..وفى سره يضحك أكثر من تلك الطبيبة التى تملك ذاكرة السمكة....