" لا تبكي علي أبيك او زوجك ..
أبكي على بلدك , قولي لإبنك
" لن تكون ولدي حتى تحرر بلدي ...."
٢) إياح حتب:
أواخر التسعينات، فى نادى مصطفى كامل للقوات المسلحة. سيدة خمسينية جميلة فى الشمسية المجاورة ومعها شابتين جميلتين. لا أذكر سوى بضع سلامات و نظرات تذكر من بعيد، .يبدو أنها ووالدى كانا يعرفان بعضهما منذ زمن.
لا اذكر اكثر من مشهد ضبابى ..ثم لا شىء..
لكن أمى تذكر كل شىء...
السيدة الخمسينية كانت زوجة لزميل لأبى استشهد فى حرب الاستنزاف. كانت تربطهم علاقة قويه جدا و زيارات منزلية، تبعث إليهم بالطعام مع زوجها فى الأجازات.
"كان ابن ناس جدا..أهله بشوات و ساكن فى مصر الجديدة...هو و بناته ومراته كانوا آيه فى الجمال..."
كان زميلا لسنين طويلة، و فى إحدى الغارات و فيم يتدافع الجميع لنزول المخبأ تأخر هو ثانيه، ثانية واحده فقط و حدق فى السماء قليلا..."الشظية زى ما تكون إتنشنت على الآيش بتاعه..فى ثانيه اتقسم من وسطه نصين ووقع قصادى...و احنا بندفنه كنا مش مصدقين..ولا مستوعبين اننا بندفن شاب زى الورد سايب توأم عندهم كام شهر"...
تباعدت السنين،و تغيرت الاحوال، و حملت الأرملة الشابة أسرتها وحدها..الصدفة وحدها طمأنت أبى على مصير بنات الشهيد. تربين و كبرن على الوجه الأمثل..كان لديه بعض من الإحساس بالتقصير ربما، لكن فى النهاية كانت الراحة انهن لم يضعن من بعده.
بعد أن عملت قابلت منهم كثيرات، مختلف الطبقات. " حرم شهيد"، بصرف النظر عن الرتبة. اللقب وحده يحكى قصه امرأة فقدت الظهر و السند وعاشت وحيدة تربى الصغار.
لا انسى السيدة السبعينية بارعة الجمال التى حكت لى حكايتها "جوزى طيار استشهد ٦٩..سابلى 3 بنات وولد..طوب الأرض اتقدملى بعيالى..كان عندى ٣١ سنه...قفلت على نفسى و بعدت عن اهلى عشان محدش يفتح معايا موضوع الجواز تانى..."
أربعون عاما من الوحدة و التضحية و التفانى و الذكرى. و لقب حملته بفخر و ألم..الريفيات البسيطات...اللاتى اتشحن بالسواد من يومها إلى الآن...و لا نطقن بشكوى ولا تحدثن سوى بالحمد.
الحديث عنهن لا ينقطع...ولا سيل الشهداء ينقطع..بالتعبير الدارج "سيب القوس مفتوح..لسه فى أسامى حتتكتب"
معها ستكتب اسماء إمهات و زوجات سيسكن الحزن ضلوعهن الى الأبد. أعجز عن الحديث اليهن...كل الكلمات أمامهن تافهه و مبتذله...تبدو سلواهن غريبة " أحمد اتصلى عليه مرتين الحمد لله...المره الاولانيه بعد التفجير..المره التانيه بعدها بشهر لقيوا رجله ونص قفصه الصدرى...دفنوه فى الكمين و صلوا عليه تانى....الحمد لله فضله كبير و ختمته حلوة".
اخرس امامها تماما...وهى تعزى نفسها بمأساة مكتملة الأركان...لا أعرف كيف تجد فيها عزاءا...فينحبس صوتى ولا اجيب إلا ب( ربنا يرحمه)
أنا وغيرى واى كان ...اصغر بكثير من أن أتحدث عنكن....أو اليكن..