تزحف أصابعى تحت كم معطفى الأبيض، أتحسس أطرافها البارزة فأسحب أصابعى بسرعه. أتناساها، أتجاهلها ثم أختلس النظر إليها فى منتصف النهار فأراها تنمو و تكبر و تبهت . يستوقفنى مرافق لمريض فى احدى الطرقات ويسترسل فى الحديث عن مريضه،أومىء برأسى بين كل جملة وأخرى وذهنى يلفه ضباب كثيف فأطلب منه إعادة السؤال أكثر من مرة. يخوننى عقلى ويستحضر ما رايناه قابعا تحت كمى.
لمحتها فى الصباح، تلك البقعة الملونة الملتصقة بذراعى منذ الولادة. تلك المرة كانت مختلفة، طرفها متعرج وباهت، حوافها بها جانب محمر اللون و بارز إلى أعلى. أعلم ان بشرتى معرضة له بحكم احمرارها الشديد مع أقل تعرض للشمس. لكن هل ممكن؟ هو؟
استكملت ارتداء ملابسى وتفحصتها ثانية، كل العلامات موجودة. غير منتظمة الشكل Asymmetrical ، باهتة الحواف border changes ، ومتغيرة اللون color changes. ماذا بقى إذن كى أتيقن من قدومه؟ هذا ما أحفظه عن ظهر قلب، العلامات المبكرة لسرطان الجلد، مختصرة فى الأبجدية الانجليزية ABC.
2) الثانية عشرة صباحا:
ولم لا؟ هل صدقت هذا التصور الساذج الذى يملأ رؤسنا بأن معطفنا الأبيض يعصمنا منه! أننا نقف على ضفة والمرضى على ضفة أخرى؟ للعقل وسائله الدفاعية ليتجنب الخوف والقلق، منها رسم هذا الخط الوهمى الواقف على حدود معطفى. يقنعنى أن مرضاى يقفون على جانب آخر من الحياة لا يمكن أن نذهب اليه ولا أن يعبر الينا. المرضى أتوا الى هذه الحياة مرضى ونحن أتينا إليها أطباء ولا يمكن تبادل الأدوار. ينهار عازل الوهم حين أصادف صورة لمريض قبل مرضه حين كان يقف معنا على نفس الجانب، لأكتشف أن عيناه كانتا تلمعان و جسده كان صحيحا و وجهه له ملامح وقسمات مميزة غير ملامح المرض الموحدة الباهتة.
يداعبنى المرضى أحيانا إذا عطست او بدت على علامات البرد (هل يمرض الأطباء؟ باب النجار مخلع؟)، هل يمرض الأطباء؟ يمرضون ويموتون أيضا وهم أصعب نوع من المرضى يمكن التعامل معه. باب النجار! هل انخلع إلى هذه الدرجة؟. ما الجديد وما الغريب، انسان تمرد عليه جسده.
ما المفاجأة فى ان جسدك يتمرد عليك كما يتمرد على كل سكان عالمك؟
3) الثالثة عصرا:
لا يمكن أن أصاب به..لا يمكن..لدى الكثير لأفعله،عملى،أبحاثى،مشاريعى الكبيرة. كل تلك المصالح التى ستتوقف إذا مرضت. المسئوليات الملقاة على عاتقى من سيتولاها؟. سينهار كل شىء ويختفى ثم ..ثم ماذا؟
أعيد إحصاء مهام حياتى مرارا وتكرارا فيتولد لدى إحساس أن أهميتى للحياة ستعصمنى من السقوط، أو ربما افاوضها على تركى معافاه وإلا خربت الدنيا.
وهل ستخرب الدنيا؟
بالطبع لن تخرب! الحياة غنية غضة و مليئه بالإحتمالات.وضع الله فيها ما يحفظ تجددها دائما ، ما يفعله عقلك سيفعله عقل آخر. يسترجع ذهنى العديد من العباقرة الذين عالجتهم من قبل، فى شرخ الشباب أو فى خريف العمر. عباقرة من العيار الثقيل، ولم يتوقف أى شىء. هل أحاول اخبار الله أننى لا يمكن استبدالى؟؟ لكننى يمكن استبدالى وهو يعرف ذلك لأنه من خلق آلاف البدائل عوضا عنى!
لكن أمى ..إنها لا تستحق هذا؟ يا الله من أجل عينى وخاطر أمى،لا.
أضحك من نفسى ثانية،يبدو أننى حين فشلت فى تضخيم أهميه ذاتى بدأت التوسل بالآخرين، بمن هم أطهر و أنقى و أعلى. لعل خاطرهم يكون أثقل فى الميزان من ضآلتى فيشفع لى. لعل لهم رصيد من الحسنات يجنبنى انا المعاناة إكراما لنقاء قلوبهم.
4) الخامسة بعد العصر:
سرطان الجلد يمكن استئصاله و سينتهى الأمر،وهو أفضل من سرطان الثدى مثلا أو سرطان المستقيم. على الأقل لن أحتاج إلى فتحات إخراج صناعية. هو صغير و جراحته صغيره، ندبه غير ملحوظه فى ذراعى ثم لا شىء.ربما هو ليس بالعنف المتوقع.
ما أن بدأت اتآلف مع سرطان الجلد حتى استحضرت فى ذهنى كل ما استذكرته عنه فى سنين طوال، أنواعه، مراحله، عوامل شراسته وتطوراته المتوقعه. قفزت الى ذهنى صور لتقرحات سرطانية غطت مساحات واسعه من جلد ساقي مريض سابق.قد لا يكون الأمر بهذه السهوله، قد لا يكون الأمر بهذا السوء..
المريض الطبيب، مسكين. لا أهل بإمكانهم إخفاء حالته عنه ولا أطباء بإمكانهم تهوين الأمر. أتذكر مريضى الوقور و أشعاته التى كان بها زيادة ملحوظه بحجم الورم ، قلت له تلك الجمله الغامضه:"الاستجابه أقل من المتوقع،نحتاج لتغيير نوع العلاج لتحقيق نتيجه أفضل" ضحك الرجل طويلا ثم قال:"إجابه ذكيه" استمر فى الضحك ثم أردف:"لا تجادلينى، لقد طالعت الأشعات بنفسى.انا استاذ بكلية الطب" فصمتت، لا أعلم بالتحديد ما على قوله فلمح حيرتى و حول الأمر الى مزحة "ماذا؟هل تذكريننى؟ هل اختبرتك يوما؟ هل أخرجتك من لجنة الإختبار باكية؟"
كل الاحتمالات قائمه و لا ادرى بأى جانب من اطراف المعادله سأكون. وأنا أعلم كل الإحتمالات واحفظها عن ظهر قلب.
5) التاسعة مساء:
قد لا ينتشر..بل سينتشر..سينشتر..لون بشرتك و حساسيتها المفرطه للشمس تنبىء بأنه من نوع شرس، سينتشر بسرعه..لن يترك لك وقتا..يبدو هذا جيدا..إن كنت سأعانى فلتكن معاناة قصيرة..قد أظل بصحه جيده رغم انتشاره لفتره لا باس بها..إذن فليكن الانتشار البطىء مع أكبر قدر من التماسك و لكن حين يبدأ الإنهيار فلننزلق بسرعه..رجاء لننزلق بسرعه...
ثانويات الكبد أم ثانويات المخ؟؟ فرص انتشاره للمخ عاليه جدا ..رجاء ..ليس التبول او التبرز اللا إرادى..رجاء..كل شىء مقدر له أن ليحدث فليحدث..و لكن التحكم لا..غيبوبه الكبد صعبه...لا أريد الهلوسه أمام الناس..ليس الكبد ليس الكبد..الرئه إذن..قد تتراكم الأورام فى رئتى و أشهق طلبا للهواء، لكن على الأقل ساحتفظ بعقلى لفتره طويله.بلا هذيان..بإمكانى دخول الحمام و انا اجر اسطوانه الاكسجين..سيكون ذلك مناسبا...الرئه إذن..إذا حدث تناثر إلى المخ فلتكن غيبوبه كامله..لا أشعر بأى شىء...لا أتفوه بكلمه واحدة...غيبوبه ثم الموت..هذا أنسب..
و ماذا لو؟ و ماذا لو حدث كل ما أخشاه؟ و ماذا إن رقدت؟ هل بإمكانى الاعتراض؟ الاعتراض لن يذهب بى إلى إى مكان. الاختيار؟ هل بإمكانى الاختيار؟
6) الثالثة فجرا:
من بين كل الخطاة و العصاه..تبتلينى أنا! من بينهم جميعا..تترك من يعيثون فى الأرض فسادا و يقتلون الأطفال ويستحيون النساء وتبتلينى أنا؟! ماذا فعلت لتفعل بى هذا؟ انا!! هناك آلاف يستحقون ميتة طويله مؤلمه مذله..يتقافزون هم على الأرض فيم أنسحب أنا ببطء! لا يمكن..هذا لا يمكن...انا لم أخطىء لهذه الدرجة.لم أفعل شيئا بشعا كبشاعة هذا الشىء.
و هذا الملتصق بذراعى، كم خليه هذا؟ اتعرف كم خليه فى جسدى! قرابه ال 60 تريليون..لا ادرى كم صفرا بالتحديد..كيف لهذه الكتله الصغيره من الخلايا ان تقرر مصير الباقين!! انهم يعملون بكفاءه و عقلى ..عقلى يعمل كما لم يعمل من قبل..و تاتى هذه الكتله و تقرر ان عليه ان يغيم ثم يصمت إلى الأبد..من اعطاها حق تقرير مصير الباقين؟.انا فى وقت الحصاد لكل ما مضى على من صعاب.اموت وقت الحصاد هذا ليس عدلا..ليس عدلا بالمرة...أنا لا أستحق هذا..
7) الخامسة فجرا:
ربما أستحق
ربما فعلت ما لا ادرى به لكنه يستحق..ربما هناك ذنب لن يكفر الا هكذا..ربما و الف ربما..ما ادرانى بقدر نفسى؟ كيف لى أن اعلم اين انا فى ميزان الخلق او ميزان الخالق؟ ربما الانسحاب الآن من الحياة افضل..قد اقاسى ما لا اطيق..قد يكون هذا ما اطيق و غيره لن اطيق
لا عاصم من أمر الله...ستجرى المقادير كما شاء ..و بما شاء ..لم أختر ميعاد مجيئى الى الحياة و لن اختار ميعاد رحيلى عنها..لست افضل من احد و لا اهم من احد..انا مثل كل من حولى تماما..تدور الارض برغم من حوت فى بطنها على مر العصور..لا تتوقف حتى لتبتلع احد ثم تواصل الدوران,,لشده تلقائيه فعل ابتلاع انسان تبتلعه وهى تدور بكل لا مبالاه..انا كمثل المليارات .....سأنسحب الى جوف الارض آجلا ام عاجلا...
رجاء..رجاء اخير..رجاء وحيد..الا اجزع..ان اتحمل بقدر طاقتى فقط..لا تحملنى ما لا طاقه لى به..لأتالم كما شئت..لكن هبنى مع الالم صبرا..ومع الواقعه احتسابا..فى لحظات الاعتصار الشديده كن معى..اغفر لى ان تفوهت بما لا يليق..اغفر لى ان اعترضت...رحمه من عندك..لا شىء سوى رحمه من عندك..,ان صرخت الما فاصم اذنى امى عن صراخى..ان تعثرت و انا اسير فقيض لى من يقيم عثرتى بلا من و لا اذى..اشهدك انى سامحت الجميع..و اتمنى ان يسامحنى الجميع.
8) صباح اليوم الثانى:
تجاهلت لافتة قسم الجراحة، أكملت سيرى إلى آخر الممر وصولا إلى المعمل.ألقيت السلام على صديقتى وأتجهت إلى المبنى المقابل.
لن أذهب إلى الجراحة الآن، أنا أعلم ما الملتصق بذراعى جيدا. سأذهب إليهم بالطبع لكن حين أكون مستعدة. أريد فقط أن أسير فى الشمس. شمس يوم عادى، وأنا احتاج إلى يوم آخر عادى، واحد فقط. أحتاج لأن أطبع عاديته فى ذهنى واتمتع بكل لحظة عديمة الأحداث. أدندن فى سيارتى بعد انتهاء العمل (اخص عليك والنبى يا حزمبل...اليوم خلص...سيبه يقولى حكاية البلبل...اليوم خلص) تنفلت منى ضحكة غريبة وانا اغنى (اليوم خلص) و اصطنع صوت عم حزمبل فاعل الخير. وحين أصل إلى (الحلوة لسه صغيرة..صغيرة) ينحبس صوتى تماما ويجثم الأمس كاملا على صدرى.
اليوم خلص.
9) وعندما أتى المساء:
سرت ذاهلة حتى أول كرسى و تهاويت عليه. تحسست ما حولى كى أتأكد أننى لست عالقة بحلم يقظة. رفعت كمى ونظرت إليها ثانية. ابتعد التكتل الأحمر وانفصل عن الوحمه الملونة بذراعى. بعوضه أو أكثر وجدن فى دمى شيئا مميزا فقررن ثقب جلدى فى هذه النقطه الاستراتيجيه. ثلاث لدغات متجاورات صغر حجمهن قليلا فتمايزن وابتعدن ملليمترا واحدا عن وحمتى التى عادت الى سكونها السابق.
تصاعدت أنفاسى تلقائيا وكأنها تتعرف الى الهواء، سكن الوجود تماما الا من صوت شهيقى وزفيرى. أرفع حاجبى واخفضهما وأهز رأسى كل نصف دقيقة ثم أدقق النظر بذراعى ثانية.
استولى على خيال كاريكاتورى و بدأت اضحك له، تخيلت بعوضة كارتونية عملاقة تقف وامامها سبورة مدرسية و تعلمنى أبجديات جديدة. تلك المرة ليست الحروف الأبجدية اللاتينية التى تلخص العلامات المنذرة لسرطان الجلد، بل أبجديات نفسى التى كنت أظن أنى عرفتها وأبجديات جهلى المقنع بمعنى ما أردده كل يوم.
بعوضة..ما العلاقة بين البعوض ومعرفة قيمة الدنيا!!
يبدو انها علاقة وثيقه.فإن كانت الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضه.ففمها كان قادرا على ان يصغر الدنيا كلها فى عينى.بدات التكتل الاحمر يبتعد شيئا فشيئا عن الوحمه بذراعى..حتى انفصل عنها..كل شىء انتهى ثانيه مع ملليمتر واحد ابتعدته قرصه الناموسه عن وحمتى. ابجديات اللاتنية التى تلخص اعراض سرطان الجلد اعادت على مسامعى ابجديات الحياة فاستذكرتها ثانية..انت لست بهذه القيمة، انت لست افضل من الباقين..وجودنا كلنا هش، لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا...
المعرفة! لم تحمنى المعرفة!!
قفزت الى ذهنى (كاساندرا) الطروادية، أبوللو لم يلعنها بأن تكذب رؤياها الصادقة ، أبوللو لعنها بالتبصر. رؤيه المستقبل مرات ومرات قبل ان يحدث، من قال أن المعرفة تحمى؟ المعرفة هى ما أطاحت بى ليومين متواصلين، رأيت فيهم معاناتى وموتى آلاف المرات بأدق التفاصيل. لولا تلك المعرفة اللعينة لما لاحظت تغير وحمتى من الأساس.
ها أنا ذا، مررت بمراحل الحزن الخمسة ( Kübler-Ross model, Five Stages of Grief ) دون أن اتنبه. الإنكار، الغضب، التفاوض، اليأس ثم التسليم المكتئب والتسليم الواعى. كان من المفترض أن تجعلنى معرفتى أكثر رسوخا وهدوءا. المعرفة لم تفلح فى مواجهة الصدمة ولا الخوف بل زادت من حدتهما.
فى صباح اليوم التالى، وقفت امام باب بيتى، اغمضت عينى وانا احيى الهواء الداخل الى رئتى..و استقبل يومى الجديد الجديد القادم...آمله ان يكون يوما عاديا...عاديا جدا...