كان عندنا مريض حالته متقدمة جدا...مقعد تماما..عصبى مع الجميع دكاترة وتمريض و مع أهله...و احنا خارجين من أوضته فى المستشفى بنته خرجت ورانا تعتذر عن عصبيته..قالت لنا معلش بابا مش متصور الوضع اللى هو فيه... طبعا طمناها أن المريض لا يلام...
بعد خطوتين من الغرفه..زميلى اللى كان بيمر معايا قالى انتى عارفه أن المريض ده فلان الفلانى؟ خلينا نقول الطيار م.ع (و دا مش اسمه ولا اختصاره..بس احتراما لخصوصيته حنسميه م.ع)
مكنتش اعرفه ولا سمعت عنه... قالى طب دورى عليه بقى مش قايلك...
م.ع كان أحد طيارى حرب أكتوبر...و أدور عليه الاقى صفحات بتتكلم عنه..منها المجموعة ٧٣ مؤرخين (مع تحفظى على أسلوبهم فى السرد و أمور اخرى..لكن هما من أهم وأقوى موثقي اكتوبر و الاستنزاف) .مريضى م.ع. كان أحد أشهر الطيارين مش على الجانب المصرى...لا على الجانب الإسرائيلي... الصهاينة كانوا عارفينه ومسميينه بإسم حركى عشان هما ميعرفوش اسمه الحقيقي...م.ع كان رمز لحجم الدمار المروع اللى ممكن يتسبب فيه طيار حربى متمرس و مجنون قليلا!
المرة اللى بعدها لما دخلت له...قلت له هو حضرتك شاركت فى أكتوبر ؟ قالى آه...يمكن كانت أول مرة أنجح أنى أحقق معاه تواصل بصرى مباشر لأنه كان رافض يبصلنا حتى...قلت له أنا لقيت إسم حضرتك فى ٧٣ مؤرخين...هما كانوا له الصهاينة مسميين حضرتك كذا؟
فى ثانيه اتبدل الحال.،،العينيين المنهكة فتحت ولمعت...الصوت المهزوز بقى واضح و مبهج رغم أنه بياخد نفسه بصعوبة بين الكلام... أيديه اتحركت و بدأ يحكى...و فى النص بقى يبتسم ويضحك كمان...حكى لي ازاى كان بيطير بتكنيك معين (انا مش فاهمه طبعا بس عديها) ...و ازاى كان لا يمكن رصده ....و ازاى كانوا بيلاقوه فوق رأسهم بيضرب كأنه ظهر من العدم...ومع الوقت عمل لنفسه علامه مميزة في نهاية كل ضربه...حروف بيكتبها بالرشاش فى النهاية (امضاء.،،فلان) ...قلت له ياه! زى زورو؟ ..وكانت أول ضحكه عالية اسمعها منه...و فضلت علاقتى به كويسه الأسابيع القليلة اللى بقيت من عمره...و ابتسامه معينه لما يشوفنى و يحكى لى شويه عن ايام ما كام الرائد م.ع...شبح الرادارات و أحد مجهضى الهجوم المضاد فى ٨-٩ أكتوبر...
مهما كان الإنسان ضعيف ومنهك..حتى لو بيحتضر...لحظة واحدة يقرب فيها من لحظة صدق وفخر فى حياته كفيلة تبعث فيه الحياة من تانى...تفكره أنه ليس هذا الجسد المنهك الضعيف...هو أكبر من ذلك بكثير...هو جزء من كيان وتاريخ أكبر من وجوده ومن عمره....
أظن دا ينطبق على الأمم ...وايه هى الأمة أو القومية ؟ هى جماعه بشرية لها حكايه مشتركه...عار مشترك و انتصار مشترك أيضا...لحظات زى دى هى اللى بتلخص يعنى ايه (احنا) ..كتلة بشرية مترامية الأطراف...يقوم بعض أفرادها بالدفاع عن باقى الكتلة حتى الموت..لضمان توفر مساحة آمنه للضحك والبكاء... مساحة لا تطلب مننا تجديد إقامة وبطاقة هويه وتأشيرة محددة بوقت...مكان نقيم فيه الأعراس وأهلنا حوالينا...و يتسجل فيه المواليد كمواطنين لا كوافدين...مكان ندفن فيه أهلنا ونعرف نروح نزورهم .... هويه واحدة كبيرة بتشمل كل من يقف فى ظلها ك(إبن) مش كمهاجر متميز ولا لاجىء......
مش فارق مين النهارده واقف على الأطراف ومين بيدعم فى القلب...لكن قدرتنا على التحرك ككتلة بينها روابط غير قابلة للفصم...و لحظات من القدرة على تحدى غطرسة و عنجهيه معتدى ،بتعيد للإنسان وللأمة معنى الكرامة وترفع عنها صفة العجز...إذا كنا قدرنا مرة يبقى نقدر تانى...اذا كنت منهك دلوقتي فدا مش أنا....أنا واحد تانى قدر يتهزم ويقوم على رجله وياخد بالأسباب ..
آه هو يوم لنتذكر وندرس ونتعلم...و مهما طال الزمن حيفضل مهم...من كام سنه ظهرت دعوات (من مثقفين..آه والله تخيل) أن كفاية بقى احتفالات وخليكم فى وكستكم الحالية...الدعوات دى انا شفتها دعوات إجرامية..حتى لو بحسن نية...تفريغ الهوية من معناها وتلخيصها فى حالة العجز الحالى هو إجرام...احنا مش الحالة دى...و بيننا وبين الوضع الأفضل خطوات أمم العالم كلها تعارفت عليها..لما اخدنا بيها وقفنا على رجلنا و هاماتنا طالت السماء...وبرده لما تخلينا عنها انكسرنا ....احنا لا جبابرة لا يمكن قهرهم ولا الفشل جزء مننا..احنا بشر بتسرى عليهم سنن الكون ..ناخد بيها ننتصر نتخلى عنها ننهزم....آه عندنا القدرة أننا نزق من عندنا شويه...لنا تاتش فى التاريخ وستايل فى إدارة الأحداث..لكننا بشر ...الفشل مش حتمى ولا جزء مننا..ولا الانتصار كذلك....
كل سنة واحنا كتلة بشرية واحدة...نتخانق ونزعل و نختلف مع بعض آه...لكن فى معارك الوجود الكبرى... ملناش إلا بعض...وملناش الا لحظات الصدق الخالص اللى فى تاريخنا سوا.....
كل سنة واحنا طيبين....