نقرأ اليوم أكثر من أي عصر مضى، نتصفح أخبارًا لا تنتهي ونتنقل بين منشورات لا تُعدّ ونلتقط معلومات في ثوانٍ. العالم يفيض بالكتب والمقالات والمصادر، والمعرفة عند أطراف أصابعنا. لكن المفارقة الخطيرة هي أن هذا الكم الهائل قد يزيدنا سطحيةً لا عمقًا وتسارعًا لا تأملًا. فالمشكلة ليست في ندرة المادة المقروءة، بل في طريقة قراءتنا التي غدت تشبه القفز فوق سطوح النصوص دون النزول إلى أعماقها.
لقد أصبحنا نعيش في زمن القراءة المسطحة حيث نكتفي بلمحات العناوين الجذابة ونختصر الأفكار في ملخصات سريعة ونتجاوز ببراعة جوهر الفكرة وروح النص. نستهلك الكلمات كما نستهلك "الوجبات السريعة"، بسرعة وبشكل متكرر، وبجوع دائم لا يُشبع. القراءة السريعة ليست العدو، لكن الانحصار فيها هو المشكلة، فهي مهارة مفيدة لتصفّح البريد أو متابعة الأخبار العاجلة، لكن الخطر يكمن حين تتحول إلى النمط الوحيد لتعاملنا مع المعرفة، حينئذ نحرم عقولنا من لحظات الانغماس الحقيقي حيث تتباطأ العيون وتغوص الأفكار في ثنايا النص وتتولد الأسئلة والأفكار الجديدة.
القراءة العميقة المنتظمة ليست ترفًا فكريًا، بل هي تمارين صالة ألعاب للعقل، تدرب الدماغ على التركيز لفترات مطوّلة وتبني عضلات التحليل الدقيق والربط بين التخصصات وتقوّي المناعة ضد الخطاب السطحي الجذّاب، وتعلمنا التمييز بين الرأي والحقيقة وبين الإشاعة والخبر المدعوم. الخسارة تتجاوز مجرد فقدان معلومة، فالغياب الحقيقي هو فقدان القدرة على التأمل، نصبح غير قادرين على الجلوس مع فكرة واحدة ومساءلتها من كل الجوانب، ونفقد مهارة الربط بين الأفكار فتظل منعزلة كجزر منفصلة عاجزة عن تكوين خريطة معرفية مترابطة، ونفقد الحدّة النقدية فنصبح مستهلكين سلبيين، أسرى للعناوين المصممة خصيصًا لجذب انتباهنا في عالم "اقتصاد الانتباه" الذي تفرضه المنصات الرقمية.
تخيل أنك قرأت عشرات التغريدات عن كتاب "ثورة الشركات الناشئة" بينما لم تفتح كتاب "فن الحرب" لسون تزو أبدًا. الأول يعطيك معلومات، لكن الثاني يمنحك حكمة تتسرب إلى تفكيرك الاستراتيجي في الحياة والعمل. هذه هي الفجوة بين المعرفة والحكمة. أهم ما تمنحنا إياه القراءة المتأنية هو مساحة للقاء مع الذات، لحظة صفاء نتدرب فيها على الصبر ونوسع فضاء وعينا ونتأمل في ما وراء الكلمات. نحن لا نقرأ لننقل المعلومة فحسب، بل لنفهم العالم من حولنا ولنفهم أنفسنا في ضوئه. إنها عملية تحوّل شخصي حيث تصبح الأفكار جزءًا من نسيج تفكيرنا وقيمنا.
لا يكفي أن نشتكي من سلطة الخوارزميات وضجيج المنصات، علينا أن نقرر بإرادة استعادة مساحتنا الذهنية. وهذا يتطلب القراءة ببطء متعمّد، اختيار نص واحد والقراءة دون مقاطعة، والتفاعل مع النص بوضع خطوط أو كتابة هامش أو تلخيص الفكرة بأسلوبك، والصبر على النصوص الصعبة واعتبارها لغزًا يستحق الحل. خصص عشرين دقيقة كل يوم، أبعد فيها هاتفك، واقرأ في كتاب ورقي أو مقالة طويلة على شاشتك دون أن تنتقل إلى أي تبويب آخر، فهذه العشرين دقيقة هي حصنك الشخصي ضد طوفان السطحية.
عندما نعيد للقراءة روحها التأملية، فإننا لا نستفيد معرفيًا فقط، بل نستعيد إنسانيتنا وقدرتنا على التركيز والتفكر وعلى عيش حياة واعية مليئة بالمعنى والجمال. القراءة العميقة ليست هواية، بل ضرورة دفاع عن عمق وجودنا في عالم يريدنا مسطحين.






































