في زمنٍ عربيٍّ مثقلٍ بالحرائق، لا تأتي البيانات السياسية عابرة، ولا تُقرأ بمعزل عن لحظتها. البيان المصري الأخير، عقب استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي للفريق أول عبد الفتاح البرهان، لم يكن مجرد تأكيد موقف، بل كان أشبه بوضع علامات واضحة على خريطةٍ تتداخل فيها الدماء بالجغرافيا، والسيادة بالقلق.
للمرة الأولى، تتحدث مصر بلغة الخطوط الحمراء: لا كيانات موازية، لا انفصال، ولا مساس بمؤسسات الدولة السودانية. ثلاث جُمل قصيرة في ظاهرها، لكنها ثقيلة المعنى، لأنها لا تحرس حدود السودان وحده، بل تحرس فكرة الدولة في زمن تتكسر فيه الدول من الداخل قبل أن تُهاجم من الخارج.
هذا الموقف لا يمكن قراءته بوصفه تدخلًا، بقدر ما هو إعلان خوف مشروع من سيناريو التفتيت. فالسودان، إذا تفتت، لن يتشظى وحده؛ ستتمدد شروخه في الإقليم كله، وسيصبح الأمن القومي مفهومًا هشًا، لا تحميه الجغرافيا ولا التاريخ.
لكن، وسط هذا الحزم، يطل السؤال الأخطر: كيف تُحمى الدولة دون أن تُستنزف روحها؟ فالدولة التي تُحاصر بالحرب، وتُدار فوق ركام المدن، قد تبقى كهيكل، لكنها تفقد معناها إن طال النزيف. حماية المؤسسات ضرورة، نعم، لكن حماية الإنسان هي الاختبار الحقيقي لأي خطاب عن السيادة.
تبدو مصر، في هذا البيان، كمن يمسك العصا من منتصفها: تريد وقف الحرب، لكنها ترفض أن يكون السلام بوابة للفوضى، أو أن يتحول الصراع إلى ذريعة لإعادة رسم الخرائط. هي تقول بوضوح: لا سلام يُبنى على التقسيم، ولا استقرار يُولد من رحم الكيانات الهشة.
غير أن الحسم وحده لا يكفي. فالخطوط الحمراء، إن لم تُفضِ إلى أفق سياسي، قد تتحول من أدوات حماية إلى حدود مغلقة على الألم. المطلوب اليوم ليس فقط منع الأسوأ، بل صناعة الممكن: مسار يعيد للسودان صوته، وللدولة معناها، وللشعب حقه في أن يعيش خارج معادلة الحرب الدائمة.
في المحصلة، البيان المصري يفتح صفحة جديدة، أكثر وضوحًا وأشد صراحة. لكنه يضع الجميع أمام مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سياسية: أن تُستخدم القوة لمنع الانهيار، لا لتكريس المعاناة، وأن تكون وحدة السودان جسرًا للسلام، لا عنوانًا جديدًا للصراع.






































