على الرغم من انكشاف الكثير، ما زالت الدهشة تقف في صدورنا كما لو أنّها لم تتعلّم من الزمن شيئًا. دهشةٌ من عالمٍ لم يعد كما نظنه، ومن أصواتٍ ظنناها صادقة، تُحاكي الوجع وتستمد حكاياتها من قلوبٍ تُكابد محناً حقيقية. غير أنّ الأيام، كما اعتادت دائمًا، تملك قدرة لا تخطئ على كشف ما خفي، وإظهار ما توارى خلف الشعارات الرفيعة.
فقد تبيّن أن بعض الوجوه التي خاطبت عواطفنا لم تكن سوى ستارٍ مُخادع، تقف خلفه حسابات مجهولة الغرض، لا يحمل أصحابها همّ قضية ولا ألم شعب، بل يسعون إلى التشكيك، وإثارة الفتن، وضرب العلاقات بين الدول، وتشويه مواقف نجلّها ونحترمها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
كانت تلك الحسابات تتزيّا بأسماء مختلقة وصورٍ مُستعارة، وتُدار من أماكن لا تمتّ بصلة لما تدّعيه. تُطلق رسائلها بذكاء محسوب، وتختار توقيتاتها بعناية، مستهدفة الوجدان العربي، ومراهنة على أنّ أحدًا لن يكتشف حقيقتها. لكن الحقيقة، مهما أبطأت، تصل.
ومع ظهور خاصية "إظهار الموقع" في منصة "إكس"، لم يعد الكذب قادرًا على السير مطمئنًا. فقد تعرّت الخيوط، وانكشفت الوجوه التي اختبأت طويلًا وراء الشعارات، وبات واضحًا أنّ الميزة الجديدة ليست مجرد تحديث تقني، بل ضوء كاشف سلطته المنصة على الزوايا التي احترف البعض العيش في ظلامها؛ ضربة موجعة لمن بنى حضوره على الخداع واتخذ من التضليل حرفة.
ومع التحولات التقنية الأخيرة التي كشفت مواقع بثّ الأكاذيب، بات واضحًا أننا أمام لحظة فارقة تستدعي قراءة متأنية لما يجري في ساحات التواصل… لحظة يسقط فيها القناع، وتتكشّف الحقائق بعد طول اختباء، ويتّضح ما حُجب عن أعين المتابعين لسنوات.
لقد أظهرت هذه التطورات واقعًا صادمًا:
حسابات ادّعت تمثيل شعوب عربية أو الدفاع عن قضايا إنسانية، بينما هي في حقيقتها تُدار من بلدان متباعدة: من إسرائيل وتركيا، إلى شمال أفريقيا واليمن، مرورًا بالهند وأفغانستان… خليط لا يجمعه سوى هدف واحد: صناعة الوهم وتسميم الفضاء الرقمي وإشعال الفتن ضد دول مستقرة.
والأخطر أنّ بعض هذه الحسابات أتقنت تقمص دور “المظلوم” و“صوت الحق”، وعرفت كيف تخاطب العاطفة العربية وكيف تجرّ المتابعين إلى التعاطف والانحياز. لكن الأقنعة تسقط حين يشتد الضوء، وحين تقف التكنولوجيا في صف الحقيقة.
اليوم، لم يعد المتابع العربي كما كان.
ثمة وعيٌ ينمو، وقدرة على التمييز تتسع، وإدراك يزداد رسوخًا بأنّ كثيرًا مما يُعرض أمامنا ليس بالضرورة انعكاسًا للواقع، وأنّ بعض الأصوات التي رفعت شعار “الحرص” لم تكن سوى أدوات تُدار من الخارج.
ولعلّ الجانب المشرق في هذا التحوّل أنّه أعاد ترتيب المشهد، وفضح الحملات التي استهدفت دولًا مثل السعودية عبر حسابات مجهولة الموقع والغاية. فقد ظهر أنّ كثيرًا من الأصوات “الناقدة” لم تكن تُعبّر عن رأي شعوب، بل عن أجندات تُشغّلها مصالح لا علاقة لها بهموم من تتحدث باسمهم.
إنّنا نقف أمام مرحلة جديدة من الوعي الرقمي؛ مرحلة تقول فيها الحقيقة كلمتها، ولو تأخرت.
وما نشهده اليوم ليس سوى سقوط الأقنعة الأخيرة…
وبداية زمنٍ لا مكان فيه إلا للأصوات الصادقة التي تقف تحت الضوء ولا تخشاه.





































