الكتابة ليست خيارًا نمارسه، بل قدرٌ يتسلّل إلى الروح.
تستيقظ فينا كما يستيقظ الصباح من عتمة الليل، تفتح نوافذها على الضوء وتهمس: "اكتب كي تبقى".
الكاتب لا يختار الكتابة، بل هي التي تختاره، تتسلّل إلى يومه كنسيم خفيف، وكحلم لا يعرف التوقيت.
هو لا يكتب ليُرى، بل لأنه يرى العالم بعينٍ تختلف عن الجميع، ويستمع لما لا يسمعه الآخرون.
الكتابة بورتريه للروح يرسمه الزمن بأصابع الوجع والأمل؛
وجهٌ يتحدث بلغة الصبر، وعينان تقرآن العالم بحروف الدهشة، وابتسامة هادئة تختبئ خلفها أعاصير من الأسئلة التي لا تعرف الاستسلام.
من يكتب يعيش نصفه في الواقع، ونصفه الآخر في هوامش نصٍ يطارده بياض الصفحات.
تتداخل الكلمات مع الصمت، والحبر مع الذاكرة، في رقصة لا تنتهي إلا حين يُكتمل المعنى في قلب القارئ.
الكتابة ليست حيلة ضد النسيان، بل وعدٌ بالاستمرار.
هي التي تلمّ ما تفرّق فينا الحياة، وتهمس لنا: "ما زال فيك ما يُكتب، وما زال فيك ما يُشفى".
وهي تلك الرفيقة التي لا تخون، كما قال أبو تمّام في غير معنى، وهي مجدٌ لا يحتاج تصفيقًا، لأن ضوءه ينبعث من صدق العطاء، لا من رنين الشهرة.
الكتابة مسؤولية قبل أن تكون موهبة؛
أن تكتب يعني أن تحرس إنسانيتك، وأن تقول للعالم: "فيّ ما يستحق البقاء، وفي كلمتي حياة لمن يقرأ".
هي صلاة صامتة، ووصية ناعمة من القلب إلى الورق، ومن الورق إلى قلوب الآخرين.
فلنكتب إذًا لأن الكتابة هي وجوهنا الأخرى،
لأن كل حرفٍ يخرج من الحبر يعيدنا إلى أنفسنا،
ويرسم شاطئًا للروح وسط العتمة، ويضيء دربًا كان الظلام قد أطبق عليه.
فرب كلمةٍ صادقة أنقذت روحًا كانت تتهاوى في الغرق، ورب نصٍّ رقيق رسم خريطةً لطريقٍ لم يكن الكاتب نفسه يعرف أنه موجود.





































