الخوف ليس دائمًا ما يولد معنا،
أحيانًا يكون وصيةً صامتة من الأجداد،
ومن تجارب لم نحياها بعد،
يسكننا قبل أن نفهم،
يعلّمنا الحذر قبل أن نخطو،
يزرع في عروقنا طقوسًا لم نعرف مصدرها،
ويصنع منا أحيانًا أسرى لمواقف لم نخترها.
رأيته يومًا في هيئة رجلٍ نحيل،
يمشي ببطءٍ كمن يحمل تاريخًا فوق كتفيه،
عيناه تلمعان بدموعٍ قديمة،
وصوته كأنّه صدى بعيد لخطىٍ هاربة،
يقترب دون أن يمسّ،
ويهمس كمن يعلّمك النجاة لا الحياة.
كان يضع يده على كتف الطفل في داخلي،
ويقول: احذر، فالعالم لا يرحم من يصدق كثيرًا.
لم أكن أكرهه، لكنني شعرت أنه ضيفٌ طال مكوثه.
لكن، هل الخوف وراثة أم اختيار؟
ربما نرثه، نعم،
من الأمهات اللاتي خفن على أبنائهن من الغياب،
ومن الآباء الذين تعلّموا أن الرجفة أحيانًا تقي من الخطر،
ومن الحروب الصغيرة التي لم تنتهِ في النفوس.
غير أننا أيضًا قادرون على مواجهته،
على تسميته، على استدعائه وجهًا لوجه،
لنكتشف أنه ليس نحن،
بل ظلٌ حاول أن يتشكل على جسد الروح دون إذنها.
وكم من مرةٍ رفضتُ فيها دعوةَ فرحٍ،
أو فرصةَ حبٍّ،
لا لأنني لا أريدها،
بل لأن يدًا خفيّةً من الماضي
كانت تمسك بملابسي خوفًا من المجهول.
الإنسان الذي يفهم هذا، يصبح حرًا،
يختار أين يركن الخوف وأين يترك الفرح،
يفرق بين ما هو حقيقي وما هو صدى قديم،
ويعلم أن إرث الخوف ليس حكمًا أبديًا،
بل تحدٍ يختبر عمق قوته، وصدق قلبه،
وجرأته على أن يعيش رغم كل الأثر السابق.
فالخوف، في النهاية، ليس عدوًّا ولا قدرًا،
بل ملامح عابرة في وجه التاريخ،
تعكس كيف حاولنا النجاة،
وكيف حان الوقت أن نعيش دون أن نرتجف من الذاكرة،
ونفتح نافذةً صغيرة للفرح كي يدخل النور بين طياتنا.






































