متى كانت آخر مرة أصغيتَ فيها حقًا لشخص دون أن تفكر في ردّك؟ ومتى توقفت لتسمع صوت نفسك وسط هذا الزحام المتناسل من الأصوات؟
في زمنٍ تتزاحم فيه الضوضاء وتتنازع فيه الشاشات عقولنا، صار الإصغاء فنًّا مهددًا بالانقراض. نغرق في محيط من الكلمات والإشعارات والأخبار، حتى بتنا نسمع كل شيء ولا نُصغي لأي شيء. ومع كل هذا الصخب، نفقد قدرتنا على التواصل الحقيقي، على ذلك الفهم الصامت الذي يجمع بين القلوب قبل أن تلتقي الكلمات.
الإصغاء ليس سكونًا للأذن، بل انفتاحٌ للقلب والعقل معًا. هو أن تمنح الآخر حضورك الكامل، وتترك المساحة لحديثه دون استعجالٍ أو مقاطعة. كم من العلاقات تكسّرت لأننا لم نُصغِ كما ينبغي، وكم من القلوب ابتعدت لأننا لم نمنحها لحظة انتباه.
ورغم كل ذلك، يمكن للإصغاء أن يُستعاد. يبدأ من قرارٍ صغيرٍ نمنح فيه أنفسنا لحظة هدوء بعيدًا عن الأجهزة، أو من حوارٍ نمارس فيه الصمت الإصغائي بدل الرد السريع. يمكن للبيوت أن تحتضن “زوايا صمت” نستعيد فيها دفء الحديث الحقيقي، وللمدارس أن تُدرّب طلابها على الإصغاء قبل الخطابة، ولأماكن العمل أن تُنصت للأفكار لا للأصوات الأعلى.
في عالمنا الرقميّ الذي يتحدث فيه الجميع في وقتٍ واحد، يصبح الصمت فعلًا من أفعال الحكمة. فحين نصغي بوعي، نعيد اكتشاف المعاني التي كادت تضيع في الضجيج، ونمنح الحياة فرصةً لتتكلم إلينا بهدوء.
إن الإصغاء في زمن الضجيج ليس ترفًا، بل ضرورة. هو مرآة تعكس صفاء أرواحنا، وجسر يعيدنا إلى إنسانيتنا. لأن الضجيج لا يصنع حياة، بل الإصغاء هو الذي يمنحها معناها الحقيقي، وفي الصمت وحده يولد الوعي، وتنضج الكلمة، وتستعيد القلوب سكينتها.





































