في كلّ عملٍ إبداعيّ، ثمّة حوارٌ خفيّ يدور بين الموروث والجديد. فالمبدع، من حيث لا يشعر، يحمل في داخله بصمات من سبقوه، لكنه في الوقت ذاته يبحث عن بصمة تخصّه، يُعرف بها، ويفرد من خلالها صوته الخاص وسط الزحام. وهنا تنشأ واحدة من أكثر المعادلات تعقيدًا: كيف يمكن أن نتفاعل مع التراث دون أن نكرّره؟ وكيف نبتعد عنه دون أن ننقطع عنه بالكامل؟
المشاكلة، بهذا المعنى، ليست مجرد تقليد أعمى لما قاله الأقدمون، بل هي انعكاس لانغماس المبدع في ثقافته وذاكرته الجمعية. فمنذ الطفولة، نتشرّب اللغة والصور والتراكيب التي صقلها السابقون عبر قرون، حتى تغدو جزءًا من لاوعينا. ولهذا، فإن كل كتابة جديدة، مهما بلغت من فرادة، لا تنفصل تمامًا عمّا كُتب قبلها، بل تأتي محمّلة بتراكم معرفي يتسرّب إلى النص بوعيٍ أو بغير وعي. وكما يرى الناقد هارولد بلوم في نظريته عن "قلق التأثير"، فإن كل كاتب حقيقي يخوض صراعًا داخليًا مع أسلافه، يحاول فيه أن يتحرّر منهم، لا بإنكارهم، بل بإعادة تموضع نفسه ضمن خريطتهم.
لكن الاختلاف عن الموروث لا يعني القطيعة معه. بل هو في جوهره فعل إعادة تشكيل، ومحاولة لقول الشيء نفسه بصيغة مختلفة، تُشبه الزمن الجديد وتخاطب روحه. فالقصيدة التي تستلهم رموزًا دينية أو صورًا تراثية، قد تكون أكثر حداثة من نصٍّ يدّعي الخروج الكامل على الموروث لكنه لا يحمل أي رؤية متجددة. لقد رأينا كيف أعاد محمود درويش صياغة الصور الصوفية القديمة، ليس ليكررها، بل ليجعلها تنطق بلغة معاصرة، تحتفظ بحرارتها الروحية لكنها ترتدي لبوس العصر.
في هذه المسافة الدقيقة بين المشابهة والتفرّد، يتولّد الإبداع الحق. ليس في التماهي الكامل مع ما سبق، ولا في رفضه المطلق، بل في قدرة المبدع على الإمساك بخيوط الماضي، وصياغتها في نسيج جديد. فالعمل الإبداعي الذي يفتقد الجذور يبدو هشًّا، والذي يفتقد الأجنحة لا يطير. ومن هنا، فإن القيمة الحقيقية لأي نصّ لا تُقاس بمقدار انتمائه للماضي أو تجاوزه له، بل بقدر توازنه بين هذين الاتجاهين.
الإبداع ليس قطيعة، وليس استمرارية صامتة، بل هو حوار ممتد مع من سبق، تُعاد فيه الأسئلة وتُطرح فيه إجابات لم تُسمع من قبل. إنه فعل من أفعال الوعي، وقدرة على تحويل الإرث إلى طاقة، لا إلى قيد. وفي النهاية، يمكننا القول إن المبدع الحقيقي أشبه بنسّاج ماهر: يفتل خيوط الماضي، لكنه يحيك بها ثوبًا لم يرَه العالم من قبل. فالإبداع ليس خلقًا من العدم، بل هو محادثة مع الأموات، ثمّ إجابة بصوتٍ لم يُسمع من قبل.