ما يقال عن الحرف العربي هنا ليس قولًا في كُلّه، ولا ادّعاءً بإحاطةٍ بتجلّياته اللامتناهية، بل هو اقترابٌ شعريّ من أحد وجوهه الممكنة، ذلك الوجه الذي يتجلّى حين يُنظر إلى الحرف لا بوصفه أداةً وظيفية، بل تجربةً حسّيةً ومعنوية في آن. فالحرف العربي أوسع من أن يُختصر، وأغنى من أن يُحاط به من زاوية واحدة، غير أنّه يسمح دائمًا بأن يُقرأ من نوافذ متعددة، لكل نافذة ضوؤها وظلّها.
في هذا الأفق، يبدو الحرف ككائنٍ يتشكّل بحسب المقام، يلين أو يشتد، يستقيم أو ينحني، لا لأنه يتبدّل في جوهره، بل لأنه يستجيب لروح السياق. ففي الخط الكوفي، مثلًا، نراه متقشّفًا، هندسيّ الملامح، كأنه يتعمّد الصمت والصرامة، جاعلًا من الاستقامة معنى، ومن الزاوية موقفًا. أمّا في خط النسخ، فيستعيد الحرف هدوءه ووظيفته، واضحًا، قريبًا من العين، كأن الجمال فيه خادمٌ خفيّ للمعنى لا يتقدّم عليه.
وحين يبلغ الحرف خطّ الثلث، يتسع صدره للفخامة، يطيل قامته، ويبالغ في انحناءاته، كأنه يحتفي بذاته دون أن ينفصل عن دلالته، فيما يتخفّف في الخط الديواني من الوقار الصارم، ويميل إلى الرشاقة والسرّية، ملتفًا حول نفسه، موحيًا أكثر مما يصرّح، كأن المعنى فيه همسٌ لا إعلان.
هذه التحوّلات الشكلية لا تجعل الحرف متناقضًا، بل تؤكّد طبيعته الحيّة، وقدرته على حمل أكثر من نبرة، وأكثر من إحساس، دون أن يفقد هويته الأولى. فالجمالية هنا ليست زينةً طارئة، والدلالة ليست معنىً جامدًا، بل علاقة متبادلة، يضيء فيها الشكل المعنى، ويهذّب فيها المعنى الشكل.
وفي كتابة النصّ القرآني، يظهر هذا التوازن في أعلى درجاته، حيث يتراجع الاستعراض، ويتقدّم الاتزان، ويصبح الحرف مسؤولًا عن حمل المعنى بوقارٍ لا يُخطئه البصر. هناك، لا يُكتب الحرف ليُدهش، بل ليصون، ولا يتجمّل ليُرى، بل ليستقرّ في النفس مطمئنًا.
من هنا، فإن هذه الرؤية لا تزعم أنها تمثّل الحرف العربي في شموله، بل تقترح قراءة أدبية لأحد مساراته، قراءة ترى فيه كيانًا يتأرجح بوعي بين الجمالية والدلالة، ويبرهن، في كل تحوّلاته، أن اللغة حين تُحسن الإصغاء إلى شكلها، تصبح فنًا، وحين يُحسن الفن احترام المعنى، يصبح دلالة باقية.






































