في عالم الأدب، ثمة حكم لا يُفرض ولا يُعلَن، بل ينبثق كضوء متدرج من عتمة السطور. هذا هو "الحكم الاستدلالي السردي"، الذي لا يمنحه الكاتب للقارئ، بل يولد من رحم التجربة السردية ذاتها، من تتبع الأحداث واستبطان الشخصيات وقراءة ما بين السطور. إنه حكم مشترك، ينشأ في المساحة الافتراضية بين وعي السارد ووعي المتلقي.
في رواية «عمى الذاكرة» لحميد الرقيمي، يقدم السرد نموذجًا حيًا لهذا الحكم. فبدل أن يُصدر الكاتب أحكامًا جاهزة على بطل يعيش دوامة الذكريات، يترك للقارئ أن يغوص في متاهات الزمن مع الشخصية، ليكتشف بنفسه الآثار النفسية والوجودية لفقدان الذاكرة. هنا لا يكون القارئ مجرد متلقٍ، بل شاهد ومشارك في تشكيل المعنى.
ويتجلى البعد الأخلاقي الاستدلالي بوضوح في رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. فالأحداث نفسها، بصرامتها وواقعيتها، تتحدث عن الظلم والقسوة دون حاجة إلى تعليق مباشر. القارئ يكتشف حجم المعاناة من خلال التجربة السردية، فتتحول القراءة إلى عملية أخلاقية استبصارية، أكثر منها ترفًا فنيًا.
لكن إيثار هذا النوع من الحكم يفتح الباب أمام تعددية تأويلية قد تبدو هشاشة للبعض، بينما هي في جوهرها قوة إبداعية. ففي «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، تتنوع قراءات شخصية مصطفى سعيد وعلاقته بالغرب بتنوع القراء وخلفياتهم. هذه المرونة ليست عيبًا في السرد، بل تجسيد لنظرية التلقي التي تجعل القارئ شريكًا حيًا في إنتاج الدلالة، حيث يولد المعنى في الحوار الدائم بين النص ووعي المتلقي.
يمكننا أيضًا رؤية الحكم الاستدلالي كتجلٍّ لـ "موت المؤلف"، حيث يتراجع صوت الكاتب المباشر لصالح بنية سردية تفتح مساحات للتأويل، وفي الوقت ذاته "ولادة القارئ" كفاعل نقدي يمارس حريته في الاستنباط والاستنتاج، فتتحول كل قراءة إلى تجربة فريدة.
تكمن قوة هذا الحكم في تحويل القراءة من عملية استهلاك إلى فعل إنتاجي، من تتبع أحداث إلى خوض تجربة ذهنية وأخلاقية تبقى في الوعي بعد انتهاء النص. لكنه يحمل تحدياته أيضًا: فهو يتطلب سردًا متماسكًا، وبناءً عميقًا، وحساسية فائقة في الموازنة بين التوجيه الخفي والحرية التفسيرية.
في النهاية، الحكم الاستدلالي السردي ليس مجرد تقنية أدبية، بل رؤية للعالم عبر الأدب. في زمن الخطابات الجازمة والآراء الجاهزة، يقدم السرد الاستدلالي مساحة للتأمل والتفكر، يذكرنا أن أعمق الحقائق لا تُمنح، بل تُستقى؛ لا تُقال، بل تُستشعر. وهكذا يصبح الأدب ليس مجرد انعكاس للحياة، بل وسيلة لإعادة اكتشافها، حكمة تظهر شيئًا فشيئًا، كما يظهر الفجر.






































