لم تولد الأحزاب لتكون عبئًا على الأوطان، بل لتكون وسيلةً لتنظيم الفكر، وفضاءً للتعدد، ومنبرًا يُعبّر عن صوت الناس ويضمن تداول الرأي. كان يُفترض أن تكون الجسور التي تعبر بها الشعوب نحو الوعي والعدالة، لكنها في كثيرٍ من التجارب العربية، مع الإقرار بوجود استثناءات متفاوتة بين قطرٍ عربيٍ وآخر، تحولت إلى أسوارٍ تحجب الضوء، وأقفاصٍ تضيق بالاختلاف وتخنق الأوطان باسمها.
حين نشأت الأحزاب في العالم العربي، جاءت محمّلةً بالشعارات النبيلة: الوحدة، الحرية، العدالة الاجتماعية، النهضة. ورغم أن بعضها حمل نوايا صادقة، إلا أن آخرين رأى فيها وسيلة للوصول إلى السلطة منذ البداية، وليس مجرد انحراف لاحق. لكن ما إن اقتربت من السلطة، حتى بدأت تلك الشعارات تتآكل تحت ثقل الأنانية الحزبية والسباق نحو النفوذ. تحوّلت الأحزاب إلى كيانات مغلقة، تنشغل بحماية مكاسبها أكثر من اهتمامها بخدمة المواطن، وصارت المصلحة الخاصة هي البوصلة، والمبدأ مجرد ديكور يُستدعى عند الحاجة لتجميل الخطاب.
في كل مرحلة، رفعت الأحزاب راياتٍ باذخة الألفاظ: الكرامة، التحرر، المقاومة، الإصلاح، النهضة، لكن الواقع أثبت أن تلك الرايات كانت في كثير من الأحيان ستارًا يُخفي صفقاتٍ ومناوراتٍ وصراعاتٍ على السلطة. ويجب ألا نغفل هنا دور الأنظمة السياسية في خلق بيئة خصبة لهذا التحول، عبر تهميش الحياة النيابية الحقيقية أو ترويض الأحزاب لخدمة استقرار النظام لا خدمة المواطن. تحولت الحرية إلى أداةٍ للقمع باسم الحفاظ على الأمن، والوحدة إلى وسيلةٍ للإقصاء، والعدالة الاجتماعية إلى توزيعٍ جديدٍ للثروة بين وجوهٍ قديمة.
أخطر ما يحدث هو أن تذوب الدولة في الحزب، فيصبح الوطن كله مساحة نفوذٍ لتيارٍ واحد، ويتحوّل الانتماء الحزبي إلى معيار للولاء الوطني، ويُقصى الكفاء من خارج الصف، ويُختزل الوطن في شعارات القيادة وقرارات النخبة. عندها تفقد المؤسسات استقلالها، ويتراجع القانون أمام نفوذ الحزب، وتتحول الهوية الوطنية إلى بطاقة عضوية.
وحين يتعدد الولاء، يضعف الوطن. فبدل أن يكون الاختلاف ثراءً فكريًا، صار خنجرًا سياسيًا يشق المجتمع إلى معسكراتٍ متقابلة. يتحوّل الخلاف في الرأي إلى خصومة، والخصومة إلى كراهية، حتى يغدو الوطن ساحة نزاعٍ دائم بين شعاراتٍ متناقضة، لا أحد ينتصر فيها سوى الفوضى.
الأحزاب ليست شرًّا في جوهرها، بل فيمن يديرها. فالفكر حين يفقد ضميره يتحول إلى سلطةٍ عمياء، والسلطة حين تفقد مسؤوليتها تتحول إلى عبءٍ على الأرض وأهلها. ولهذا، لا تنهار الدول بالضعف فقط، بل حين تُختزل في مصالح ضيقة تتزيّن بوجهٍ وطنيٍّ مزيف.
ما تحتاجه أمتنا اليوم، أو مجتمعاتنا العربية، ليس مزيدًا من الأحزاب، بل عودةً إلى المعنى الأول للسياسة: أن تكون خدمةً للإنسان، لا سلطةً عليه، وأن تكون وسيلةً للتنوير، لا أداةً للتغرير. وهذا يتطلب أكثر من مجرد تمني؛ بل يحتاج إلى بناء آليات مؤسسية تضمن الشفافية، وتفصل بين الحزب والدولة، وتُرسخ لمواطنة حقيقية تقبل بالآخر. فحين يستعيد الضمير مكانه من الشعارات، وتستقيم المؤسسات، لن نحتاج إلى أقفاصٍ تحكم باسم الوطن، بل إلى أوطانٍ تُنصت بصدقٍ إلى نبض مواطنيها.






































