ثمة لحظات في التاريخ الثقافي لا تُقاس بما تمنحه من جوائز، بل بما تُعيده من معنى للإنسان.
حين أعلنت مؤسسة القلم الإنجليزي (English PEN) في لندن عن فوز الكاتبة ليلى أبو العلا بجائزة “بينتر” لعام 2025، لم يكن الحدث مجرد تتويج لمسيرة أدبية متألقة، بل لحظةً فارقةً في الوعي الجمعي للسودانيين وللعالم الأدبي على السواء.
ففي تلك الأمسية المضيئة، اختارت أبو العلا — التي تجمع في صوتها بين الذاكرة الإسلامية والروح الغربية — أن تُشارك الجائزة مع الكاتبة الجنوب-سودانية ستيلا جيتانو، باعتبارها كاتبة الشجاعة من مؤسسة القلم، وهي الكاتبة التي واجهت المخاطر دفاعًا عن حرية الكلمة في بيئةٍ قاسية تتنازعها الحرب والنزوح والرقابة.
كان في هذا الاختيار ما يتجاوز التكريم إلى الفعل الرمزي الأعمق: أن تمتد يدٌ من الشمال لتصافح يدًا من الجنوب بعد سنواتٍ من الانقسام، لتقول للعالم إن الأدب السوداني لا يزال واحدًا في جوهره، متنوعًا في صوته، نبيلًا في رسالته.
إنها لحظةٌ تذكّرنا بأن الكتابة، حين تكون صادقة، تُعيد ترميم ما تمزّق بالسياسة، وتبني جسورًا لا تُرى إلا بعين القلب.
وتأتي جائزة “بينتر” — التي تُمنح سنويًا من English PEN، وهي من أعرق المؤسسات الأدبية في العالم — للكاتب الذي يجسّد نظرةً ثاقبة إلى العالم، ويُظهر “تصميمًا فكريًا قويًا لتوضيح حقيقة حياتنا ومجتمعاتنا”.
وترافق الجائزة دومًا جائزة موازية تُعرف بـ «كاتب الشجاعة»، تُمنح لكاتبٍ يقف في مواجهة القمع أو المخاطر دفاعًا عن حرية التعبير، وغالبًا في ظروفٍ قاسية أو مناطق نزاع.
بهذه الثنائية — البصيرة والشجاعة — يتحقق جوهر الجائزة: أن تكون الكلمة فعلًا أخلاقيًا قبل أن تكون جماليًا.
وفي هذه اللحظة بالتحديد، تبرز قصة ليلى أبو العلا، المولودة في الخرطوم، والتي هاجرت إلى إسكتلندا في مطلع التسعينيات. هناك وجدت في الغربة مساحةً لتعيد كتابة الذات السودانية بلغةٍ تجمع بين الحس الإنساني والإيمان العميق.
في رواياتها الشهيرة — المترجم (The Translator)، المئذنة (Minaret)، زقاق الألحان (Lyrics Alley)، وأحدثها روح النهر (River Spirit) — رسمت عالَمًا تُحاور فيه الهويةُ المنفى، والإيمانُ الحداثة، والمرأةُ العالَمَ من موقعٍ لا يضجّ بالرفض، بل بالتأمل.
وقالت أبو العلا في كلمتها بعد الفوز:
" إن هذا التكريم يوسّع معنى حرية التعبير ليشمل صوتي، صوت المرأة المسلمة التي تكتب عن إيمانها في عالمٍ يظن أن الحياد الأدبي لا يتسع لله"
فكانت كلماتها بمثابة بيانٍ فنيّ وإنساني، يذكّر بأن الحرية ليست نقيض الإيمان، بل صورته الأسمى حين تلتقي بالفكر والصدق.
ومن جهةٍ أخرى، تقف ستيلا جيتانو، الكاتبة الجنوب-سودانية، كصوتٍ يكتب من الهامش ليصير مركزًا.
وُلدت في الخرطوم لعائلةٍ من الجنوب، ودرست الأدب الإنجليزي والعربي، وبدأت نشر قصصها القصيرة في مطلع الألفية، ثم صدرت روايتها البارزة Edo’s Souls التي تُرجمت إلى الإنجليزية، لتصبح أول عملٍ أدبي من جنوب السودان يُنشر في المملكة المتحدة.
لكن الأهم من إنجازها الأدبي هو إصرارها على الكتابة رغم الخطر.
واجهت ستيلا التضييق والملاحقة، وعاشت بين جوبا والخرطوم متنقلةً كأنها تبحث عن وطنٍ في اللغة.
وقالت في كلمتها المؤثرة:
"هذه الجائزة ليست للشجاعة فقط، بل للبقاء. أهديها لكل من يكتب في الظلام بحثًا عن ضوءٍ صغير، ولكل من حوّل الخوف إلى حبر "
هكذا تحوّلت ستيلا إلى ضميرٍ إنساني للأدب السوداني الجنوبي، تحمل في لغتها العربية المُحبّبة نبرة حنينٍ وألمٍ في آنٍ واحد، وتُثبت أن حرية التعبير ليست شعارًا، بل معركة يومية يخوضها الكاتب بقلمه.
وحين ننظر إلى ليلى أبو العلا وستيلا جيتانو معًا، تبدوان كمرآتين تعكسان وجه السودان بألوانه كافة.
الأولى تكتب من الضباب الإسكتلندي، حيث الهدوء والتأمل والحنين، والثانية تكتب من رماد الحرب وأزيز الذاكرة، ومع ذلك يجتمع صوتهما في نغمةٍ واحدة: الإيمان بالإنسان.
كأن نهر النيل — الذي شقّ الجغرافيا السودانية — أعاد التئام روحهما بالحبر ذاته، فيلتقي الشمال والجنوب في نصٍّ واحدٍ لا تُفرّقه السياسة.
إن في هذا اللقاء صورة بورتريه نادرة للأدب السوداني: أدبٌ يتجاوز الانقسام السياسي ليُعلن وحدة الوجدان، أدبٌ يقف على حافة الألم ويحوّله إلى موسيقى.
بهما، نرى كيف يمكن للمرأة السودانية أن تكون صوت الوطن في أقصى تجلياته — بالحكمة، والرحمة، والوعي، والشجاعة.
وهذا الحدث لا يمثل تكريمًا شخصيًا فحسب، بل إعادة تموضعٍ للأدب السوداني في المشهد العالمي.
فهو يؤكد أن السودان، رغم أزماته وتشتته، ما زال يُنجب أدباءً يمتلكون الوعي والخيال، وأن الحبر لا يزال أحد أشكال المقاومة النبيلة.
كما أن الجائزة جاءت لتمنح الأدب النسوي السوداني دفعةً رمزية قوية، إذ تجتمع فيها كاتبتان تمثلان طرفي الوطن، تتشاركان في همّ الكلمة والدفاع عن حقيقتها.
تبدو جائزة “بينتر” لعام 2025 أكثر من حدثٍ أدبي؛ إنها بيان أخلاقي وجمالي عن قدرة الأدب على التئام الجراح وصون الكرامة الإنسانية.
اختيار ليلى أبو العلا لستيلا جيتانو ليس مجرّد لفتة، بل إعادة تعريفٍ للبطولة الأدبية في زمنٍ تتآكل فيه الأصوات الحرة.
لقد جمعتا — من الشمال والجنوب — وطنًا كاملاً داخل جملةٍ أدبية واحدة، وأعادتا للأدب السوداني مكانته كأحد أبهى وجوه إفريقيا في الفكر والإبداع.
فالكلمة، كما تُثبتان، ليست فقط أداة للتعبير، بل بيتٌ يسكنه الوطن كلما ضاق المكان.






































