هناك خلف الغيم تسكنُ الأمنيات الضائعة، ربما يومًا ما سنهرول إليها فرحين غير عابئين بأي شيء بقلوبٍ مطمئنة.
قالت ريم: وربما نُجرجِر الخُطى خائفين يا زينب!
- أيا ريم، الله غفورٌ رحيم، لا تقنطي من رحمة الله.
- لكنه شديدُ العقاب يا زينب، وأنا أخشاه حبًّا وطمعًا في أن أكون على الخُطى المستقيمة.
رحلت ريم تاركةً زينب في حيرتها الصغيرة، هو شديد العقاب لكنه وعدنا بالمغفرة، ونحن لا نتعمَّد أبدًا الخطأ.
- ربما عليَّ أن أترك وصيتي، علَّها يومًا تذهب إلى العقول الصلدة التي لم تسمعني وأنا بين الأحياء، ورقةٌ مُزَركشةٌ بالورد علَّها تسبقني إلى مثواي الأخير، وبعضٌ من قطرات عطر على ورق الخطاب علَّها تلفُّني قبل ردائي الأبيض الأخير.
"أصدقائي.. أحبائي.. وأعدائي..
في عزائي اعلموا أني قد عشت عمرًا طويلًا من الألم، لم أجْنِ فيه من الفرح ما يشفي قلبي من الحزن، الطفلة الوحيدة المنعزلة عن العالم شبَّت فتاةً يافعةً جميلةً بتطلُّعاتٍ أكبر من حدود شرنقتها، كلما حفرت طريقًا إلى النور بُني لها عنوةً حائطٌ خراسنيٌّ من الرفض.
أنا التي لم يشعر بها أحد، أنا تلك التي دومًا ما تقول إن الله غفور رحيم وترجو رحمته وعطفه وكرمه، لم أنقم على شيء ولم أرفض القدر، شكرتُ الله على الألم قبل الرخاء، تحاملتُ على نفسي في الليالي المؤلمة كي لا يشعر بضعفي أحد، حتى لم يعد أحد يتصوَّر أنني أريد الاتكاءَ على كتفه، لم يعد يتصور أحد أن بي ضعفًا أريد إظهاره، أريد أن أصرخ خارج شرنقتي مطالبةً بالنجاة من وحدتي وحزني ومن نفسي، أنا تلك التي لم يحبها أحد الحبَّ الصادقَ الذي ربما كان من شأنه جعلي سعيدة، ذاك الحب الذي يعيد إليَّ نفسي ويصلح روحي الخربة، لم يمنحني أحدهم الاهتمام اللازم لإعادة ترميم روحي وبناء نافذةٍ من نور داخلي.
ذكرياتُ الشباب تلاحقني في كل حين ساخرةً من أحلامي الساذجة حينها، وأحلامي الساذجة الآن، ربما أنا شخص غير قابل للتعلم، أتعجب بعض الأوقات.. لمَ خلقنا الله بصورتنا تلك، نحن المعذبين بالوحدة بين الآخرين؟ ولمَ منح الآخرين تلك النظرة العجيبة عنا، فتارةً يروننا حمقى سُذجًا الاحتيال عليهم سهل وتارةً شياطين؟
نحن لسنا ملائكة، لكننا لم نتحول إلى شياطين ولا مرة على مدار السنين تلك، فكيف نتحول في نظرهم إلى شياطين لنا أخطاء وعثرات لم نؤذِ بها غير أنفسنا ونحمد الله على أننا لم نؤذِ أحدًا؟!
أعزائي..
في عزائي اعلموا أن أكثر أحاسيس شقائي عايشتها بسبب أقربكم، فلم يكن القُرب بسوى الاسم، بل إن قربكم سبب مزيدًا من الألم، والحقيقة أن وحدتي تلازمني منذ تلقَّتني ذراعا جدتي ولفلفتني محتضنةً الصغيرة التي لم يرغب بها أحد، تمنيتُ أن يُعاد الزمان إلى لحظة مولدي فأسقط أرضًا لافظةً أنفاسي الأخيرة.
جلستُ اليوم في كرسيَّ المنعزل في ركن الحجرة أبكي كعادتي، أخشى الموت لكني أتمناه.
أُطمئِن روحي المشتتة أن ربَّ العباد أحن من عباده ولن يقسو الرحيمُ أبدًا، ثم أتذكر كل الأشياء القبيحة في عالمي، وكل من منح لي الأذى في حين أني كنت أمدُّ له يد المحبة، فأستغفر الله متمنيةً أن يقبضني راضيًا عني.
إذا قرأتم هذه الرسالة، فترحموا عليّ، احكوا للعالم كم أحببته في حين أنه لم يفعل، أنا لا أحمل ضغينةً لأحد.
فوداعًا..
ودعوني بابتسامات، فقد امتلأتُ دموعًا واكتفيتُ الآن".
أغلقت الوصية وبقيت قليلًا تفكر ما الذي قد يكون هناك في العالم الآخر.
لها هناك قبيلة صغيرة، أطفال صغار وأقارب أحباب وخلافه، ترى ما الذي ينتظرها؟
غلبها النعاس حتى استيقظت على زقزقات العصافير الصغيرة على نافذة حجرتها، منحها النسيم شهيقًا ملأ رئتيها بالسعادة، فتنسَّمته مغمضةً عينيها إلى أن سمعت شهقة فزع خارج حجرتها، فخرجت مسرعةً لتخبرها الوالدة..
أن ريم قد تُوفِّيت فجرًا.