اليوم عادت أكان (أحمر عميق) لوطن لم تكبر فيه، وطن عاشت عمرها كله غريبة عنه، لكن والديها زرعا فيها حبه والتوق له، فلقد هاجر والدها ريز(الصيف) ووالدتها كونرادين (غير مطيع) منذ زمن هربًا من رجال ط*ا*ل*ب*ا*ن فلقد كان ريز ذو فكر تحرري مستنير لم يؤمن أبدًا بتلك المعتقدات المتشددة وكان واثقًا من سماحة تعاليم الإسلام وبأنه لم يكن أبدًا ليفرض هكذا ولا بتلك الطريقة التي يفعلها بها رجال تلك الحركة، فرضوا الأحكام الرهيبة ونفذوها، كانت مشاعر الحب بين كونرادين وريز متقدة، كانا عاشقين نيتهما الزواج، إلى أن جاء ذلك القائد سانديب(احتراق) وعسكر بالمدينة، وفرض الأحكام على الكل وفرض على النساء لبس البروكا(البرقع الأف*غ*ا*ن*ي) الأزرق وعلى الرجال ارتداء اليشمر(زي الرجال) وبينما كانت كونرادين تسير مضطربة الخطا في الشارع تحاول التمسك بالبروكا في مواجهة الرياح الشديدة وهي تحدث نفسها (تبًا لهم أنا بمفردي لم أكن أستطيع السير في ظل هبوب الرياح، ليأتي هذا البروكا ليزيد اضطرابي)
فتحرك البروكا وكانت هي تحاول أن تعدل من وضعه، ليجذبه سانديب عنها ويكشف وجهها وهو يصيح (تحاولين إغواء الرجال يا امرأة! أيتها اللعينة...
لكنه لم يستطع إكمال كلماته فلقد أسره جمال كونرادين، وقف صامتًا يتأملها بينما ترتجف هي رعبًا، فلقد وصل لمسامعها بالطبع ما يفعلونه بالنساء المخالفات لهم ولتعاليمهم، وزاد رعبها وعيناها تتعلق بذلك الرشاش الآلي المعلق بذراعه، ومدت يدها تتوسله أن يعطيها البروكا
- صدقني أيها القائد لم أكن لأفعل ذلك أبدًا، إنه الهواء، وأنا ما زلت حديثة العهد بارتداء هذا البروكا، سامحني أرجوك.
ناولها إياه وهو صامت ولم تكن هذه أبدًا بعادته، تناولته منه في عجالة وارتدته،
أسرعت الخطا لمنزلها بينما يتابعها بعينيه، التفت وقال لأحد مساعديه:
- أسامة، أريد كل معلومات عن هذه الفتاة.
ابتسم أسامة ابتسامة خبيثه: لقد نالت من قلبك تلك الشمطاء.
صرخ سانديب: إياك أن ينطق لسانك عنها بسوء.
ونظر مرة أخرى لباب منزلها وقال: هذه الفتاة ستكون زوجة لي.
انتشر الخبر في القرية كانتشار النار في الهشيم بأن القائد سانديب يريد أن يتخذ من كونرادين زوجة له، وما أن طرقت تلك المقولات أذني ريز حتى انتفض فزعًا،
وبسؤاله واستقصائه تأكد مما سمعه، احتل الاضطراب كيانه، فلقد سمع عن فظائع سانديب وجبروته ويعلم بأنه إن لم ينل كونرادين بالرضا كما يتمنى فسيأخذها بأي وسيلة كانت ولو أحرق الأخضر واليابس في سبيل ذلك.
وصل الخبر لمسامع كونرادين، سمعت شابين يقفان قريبًا من منزلها يتندران بذلك
قال أحدها: إن حظ هذه الفتاة التي تقطن بهذا المنزل حظ من نار، لقد اختارها القائد لتكون زوجته.
قال الآخر: هذا جيد فالآن ستأمن شره، يبدو أن أمها كانت تدعو لها فهو يريدها زوجة شرعية، فلو أراد لكان اقتحم دارها وأخذها عنوة.
اهتز جسدها في خوف، وما هي إلا ساعات قليلة ووجدت زهرة الحياة قابلة القرية تدق على بابها، فتحت الباب، لتدخل زهرة الحياة، خلعت البروكا والحزن بادٍ على وجهها، وفزعت أكثر حين رأت وجه كونرادين المكفهر والذي استحال للون الأصفر.
ارتمت كونرادين في حضن زهرة وأخذت تبكي بكاءً مريرًا، وضعت زهرة يدها على فم كونرادين لتكتم صوتها وهي تقول بصوت منخفض:
-اصمتي باركك الله، إن الجدران لها آلاف الآذان، إن رجاله في كل مكان.
حاولت كونرادين السيطرة على نفسها وقالت: إذن لقد علمتِ بما يريده القائد.
فقالت في حزن: علمت ويا ليتني ما علمت، لقد كلفني أنا بإخباركِ أن تتحضري للعقد الأسبوع القادم، لأن لديه من الغد غزوة لقرية قريبة وسيعود بعد أسبوع وفور مقدمه سيتزوجك.
رفعت كفيها تدعو الله: يا إلهي اكتب في قدره أن يقتل، أو يؤسر وألا يعود أبدًا.
صمتت زهرة قليلًا ثم قالت: وإن عاد ماذا سنفعل؟
نظرت لها كونرادين بفزع: كيف يا زهرتنا؟ أنتِ تعلمين أني وريز تعاهدنا أمام الله أن نكون لبعضنا وكان سيذهب لخطبتي من شيخ القبيلة الشهر القادم حين ينهي تجهيز الدار.
صمتت زهرة قليلًا ثم قالت: الهرب يجب أن تهربا.
قالت كونرادين: وكيف سيكون هذا؟ من سيتركنا نفعلها؟ لو نما لعلم القائد مجرد خبر فسيزهق أرواحنا جميعًا.
تنفست زهرة نفسًا طويلًا ثم قالت: لا عليكِ صغيرتي، أنتِ بمقام ابنتي، و لن أدع ذلك الظالم ينال منكِ أبدًا ولو وصل الأمر للتضحية بروحي.
دبرت زهرة وخططت، لقد كان الله بجوارهم، حالة ولادة لعمة ريز، تولتها زهرة بالطبع، اتفقت ساعتها معه على ما سيحدث، وكانت الفرصة سانحة فلقد علمت قبل ذهابها لتوليد عمته أن ابنتها المتزوجة بالعاصمة قد أنجبت، فقررت أن تقدم لكل القرية طبق المانتو على البخار، ولكنها وضعت بذلك الطبق الذاهب لرجال الحراسة أعشاب منومة، وما أن سقطوا في النوم حتى أخذت كونرادين وانطلقت حيث اتفقت مع ريز على اللقاء، هربا تحت جنح الليل بسيارة ريز، لقد كان يقود بأقصى سرعة ليبتعد عن الرجال فأمامهم فترة كافية فكونرادين لا تخرج من بيتها كل يوم فهي تساعد زهرة، وزهرة أعلنت أنها ستسافر لابنتها.
كتب لهما الله النجاة ومن بلد لبلد ظلا ينتقلان، حتى استقرا بأمريكا، وهناك ولدت الصغيرة أكان.
حين اكتشف سانديب هروب كونرادين هاج وماج لكن تحقيقاته لم تسفر عن شيء، فلم تكن زهرة قد وضعت المنوم للجميع فلم يتوصل لأي معلومات مفيدة،
لكن سانديب لم ينس الأمر وأقسم أن ينتقم من كونرادين.
مررت السنوات سريعًا وانحسر فيها نفوذ ط*ا*ل*ب*ا*ن وخرجوا من أف*غ*ا*ن*س*ت*ا*ن، توفي ريز ومن بعده كونرادين ليقرر عمها الذي كان يسكن معهم أن يعود مع ابنة أخيه لوطنهما بعد استقرار الأحوال هناك، كانت أكان أصبحت معلمة وتخصصت برياض الأطفال، وكان أملها أن تعلم الصغار.
عادت وافتتحت مدرسة في قريتها لتعليم الصغار، وعاشت أيامًا جميلة يسودها الهناء والراحة، تعمل مع عمها في المدرسة وكانت علاقتهما بقائد الشرطة علاقة وثيقة وكم تمت استضافتهما في حفلات خاصة بالسفارات في أنحاء الوطن، نمت مشاعر حب متبادلة بين أكان ونبيل ابن قائد الشرطة.
وما بين يوم وليلة تبدلت الأحوال وما كان مستحيلًا البارحة أضحى واقعًا مريرًا اليوم، لقد سيطرت ط*ا*ل *ب*ا*ن ثانية على مقاليد الحكم، كانت أكان تتابع في فزع ما يحدث على شاشة التلفاز وهالها مشهد تلك الطائرة التي حلقت وبداخلها يكتظ المئات من أبناء وطنها بشكل غير آدمي، وهي تطير معلنة الهروب من بين براثن المجهول ومنظر ذلك المسافر الذي كان متشبثًا بجسم الطائرة المعدني باحثًا عن مهرب من المجهول يسقط في الهواء ليرتطم بالأرض ويسقط صريعًا في الحال، لقد كان يهرب من بين براثن الموت لكنه سقط مباشرة بين أنيابه،
وبينما هي تشاهد هالها ذلك الصوت القادم من الخارج؛ لتنظر من نافذة منزلها وترى رتلًا من السيارات يقتحم القرية بالتوالي، وينزل منه قائدهم وورائه عدد كبير من الرجال المدججين بالسلاح، واللذين أمسكوا بكل من كان يتعاون مع الجيش أو الشرطة لتضع يدها على فمها تمنع نفسها من الصراخ فمن بين الرجال بالخارج كان عمها، ووالد حبيبها، وحبيبها، قاموا بصفهم في طابور أفقي وربطوا أيديهم من الخلف، ووقف الرجال من خلفهم استعدادًا لرشقهم بالنيران في ظهورهم، لتهرع مسرعة من باب المنزل، ذلك المنزل الذي كانت تسكنه والدتها فيما مضى وهي تصرخ باسم عمها.
قبل أن يأمر القائد بإطلاق النار فاجأته تلك الجميلة بملابسها الملونة الزاهية،
فرفع يده للرجال علامة على الانتظار بينما هي لاهثة الأنفاس
نظر لها متفرسًا، وقال: من أنتِ؟
ردت: أنا أكان ابنة ريز وهذا عمي، أرجوكم لا تقتلوه، لم يفعل شيئًا خاطئًا.
لم يكترث لما قالته بالأساس، كان نظره معلقًا بالمنزل الذي خرجت منه
قال: منزل من هذا الذي خرجتِ منه؟
- منزل أمي.
نظر لها بغضب وقال: أأنتِ ابنة كونردين؟!
قالت: نعم.
ففاضت نظراته بالكره والغضب، وأعطى إشارته للرجال بإطلاق النار، غطى صوت الرشاشات الآلية على صوت صراخها، وهي تصرخ ناعية رجالًا كانوا من أفاضل الرجال، ولم تر منهم سوى كل الخير، كانت جريرتهم أنهم تعاملوا مع الجيش والشرطة.
وبينما لم ينقطع صراخها صاح القائد:
-لقد أردت فيما مضى الزواج بأمك، لكنها هربت مني، فضلت الخروج عن طاعتنا وأنتِ مثلها، تخرجين سافرة هكذا أمام الرجال لإغوائهم بملابسك الملونة هذه،
إنكِ فتنة سائرة على قدمين.
وصاح بأعلى صوته: يا رجال، ماذا نفعل بالمُغوية؟
جاء الرد: نرجمها.
ابتسم حتى تكشفت أسنانه في جزل وقال: الأمر شورى وحكم الشورى نافذ، جهزوها للرجم.
حفروا حفرة ودفنوها بها حتى وسطها، وتجمع الرجال يقذفونها بالحجارة فلقد اعتبرها في حكم الزانية، ما دامت طالتها عيون الرجال ورجموها حتى الموت.
ومنعوا أي أحد من الاقتراب منها تركوها هكذا في العراء، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب، وانتهت حكاية أكان في وطن حلمت أن يضمها بسكينة، لكنه حتى لم يجرؤ على احتوائها تحت ثراه.
تمت بحمد الله