عبد المتعال حسنين، موظف بالسجل المدني بمدينة القاهرة.
متزوج منذ ما يقرب من اثنين وعشرين سنة، بزوجة أصيلة تحملته في كل أحواله وهي نجاة.
رزقه الله بثلاثة فتيات أعمارهن على التوالي، عشرون عامًا وهذه هي رباب، ثمانية عشر عامًا وهذه تقى، ستة عشر عامًا وهذه آخر العنقود زينب.
عبد المتعال زوج مصري، مطابق لكل المواصفات بشوش بالخارج أما بالداخل فهو كئيب ومنغلق، وتكاد نجاة تجر الكلمات جرًا من على لسانه وتقول جملتها المعتادة
"ترتدي دائمًا وجهًا كلوح الخشب أمامنا، أما مع أصدقائك فأنت الرجل الهش البش الذي لا يكف عن الضحك وإطلاق النكات"
ليرد ممتعضًا
"وأي هشاشة وبشاشة تريدينها مني يا أم البنات، بطلباتك التي لا تنتهي، وطلبات الفتيات التي لا آخر لها، لا ترون وجهي إلا وتبدأ الطلبات، أحضر هذا ونريد ذاك، أنقدنا هذا المبلغ، لا أحد يعطيني شيئًا، سوى كيس القمامة لألقيه أثناء نزولي"
وتبدأ نجاة الفقرة المعتادة من أن هذه مقتضيات الزواج وإن لم تكن تستطيع التحمل فلم تتزوج بنات الناس لتذيقهم المر معك، وماذا تريد مني؟ فأنا أخدمكم ليل نهار ولا أحد يساعدني.
هكذا هي حياتهم، هكذا هي لقاءاتهم، أما الفتيات فلهن عالم خاص بهن، لا تكنولوجيا بالطبع، فمن أين لعبد المتعال بثمن ثلاثة أجهزة محمولة لهن، يعشن في عالمهن يحلمن بالفارس الذي سيأتي على صهوة جواده لينتشلهن من مستنقع الفقر.
لا يخلو عمل عبد المتعال من بعض الإكراميات وتيسير الحال كما يسميه، أو تحية الدرج المفتوح، من يريد إنهاء شهادة الميلاد سريعًا فليلق في الدرج المبلغ المتعارف عليه، أوراق ناقصه لها تعريفتها وعبد المتعال سيكملها أو ينجز المطلوب بطريقته،
وكل طلب له تسعيرة، ومن لا يلقي التحية على الدرج ينتظر دوره الذي قد يستمر لآخر النهار ثم يصدمه عبد المتعال بالكلمة المصاحبة لموظفي الجمهورية
"تعال بالغد"
والتي قد تقال لطالب الورق لمده أسبوع أو أسبوعين، وربما قد تمتد شهرًا إلى أن يسلم صاحب الورق ويعلن الاستسلام ويرحب بالدرج ترحيبًا حارًا يتناسب مع السرعة التي يريد لعمله أن ينجز بها.
في أحد أيام عمل عبد المتعال الروتينية وجد هاتفه يرن وعلى شاشته -المكسورة ما يقارب من الخمسة كسور لكنها ما زالت على الاقل تؤدي الغرض منها- رقم غير مسجل لم يتفاجأ أو يتساءل فرقمه مع الكثيرين بحكم عمله وبحكم المصالح والتسهيلات التي يؤديها.
صاحب الرقم يريد مقابلته لأمر هام وأعطاه العنوان الذي سيقابله فيه، دون عبد المتعال العنوان في ورقه أمامه كان سندويتش الطعمية مغلفًا بها،
من بين بقع الزيت المنتشرة في الورقة، أخذ عبد المتعال ينظر للعنوان ليتأكد منه، أنه يعرف هذا الاسم الخاص بالمطعم، يمر عليه أثناء رحلته للعمل وهو واقف في رواق الأوتوبيس ممسكًا بالعامود الممتد أفقيًا، ويده متعلقة به، ولكم تعلق نظره بهذا المكان الفخم وتحسر على كمية السيارات ذات الماركات العالمية المصفوفة أمام هذا المطعم حالمًا في يوم من الأيام بمجرد الجلوس بسيارة كتلك، لا ينكر عبد المتعال أن من بين الذين طلبوا منه خدمات أناس مرتفعي الشأن، لكن ليس لهذه الدرجة ولا لهذا المطعم الذي يسمع أن أقل طبق فيه ثمنه يتجاوز الألف جنيه.
الموعد ليلًا يجب أن يتأنق
ارتدى ذلك الزِّي الذي لا يحضر به سوى المناسبات الرسمية فقط،
بدلته الرمادية التي ولى الدهر على موضتها، لكنها ما زالت بحالة جيدة وهو يحافظ عليها ويعتني بها أيما عناية.
تعجبت نجاة لحاله ولتأنقه، وضربت صدرها بيدها حين رأته يقف أمام المرآه مهندمًا حليق الذقن، والأدهى أنه يرش على البدلة من ذلك العطر الذي يحتفظ به وصرخت
"هل ستتزوج عليَّ يا عبد المتعال؟! بعد كل هذا العمر ستلقيني في الشارع وتشرد بناتك اللوات أقبلن على الزواج، يا حسرتي، يا خسارة عمري وسنوات شبابي"
أسكتها واضعًا يده على فمها
"اصمتي واسمعيني يا وجه البوم، ولسان الحية، إنها مصلحة، لو عرفتي اسم المطعم الذي سأقابل به الرجل لتوقف قلبك عن النبض، إنه مطعم لا نحلم بالمرور من أمامه فكيف بي وأنا سأدخله لأقابل به ذلك الرجل"
نظرت له والشك يملأ نفسها والفأر والقط يتنافسان في الجري في صدرها
"حسنا سنرى"
ذهب عبد المتعال مختالًا بنفسه، بعد أن قابل ملمع الأحذية في الطريق وقام بتلميع حذائه وأجزل لذلك الفتى في العطاء حتى يتم عمله على أكمل وجه، فأضحى الحذاء لامعًا نظيفًا وكأنه جديد في نظر عبد المتعال.
وقف أمام المطعم وهاتف الرجل وما أن أغلق الخط، حتى خرج له حائط بشري وقف أمامه ونظر له شذرًا قائلًا
"هل أنت عبد المتعال؟"
هز عبد المتعال رأسه بنعم، لم يستطع أن ينطق من صدمته، فهو لم ير هذا النوع من الحيطان البشرية سوى في الأفلام والمسلسلات، ودخل خلفه ليفسح له ذلك الضخم الطريق قائلًا
"تفضل"
فوجد عبد المتعال نفسه أمام رجل في كامل أناقته يجلس ومن ورائه يقف أربعة رجال ضخام تتسم ملامحهم بالغلظة والشدة.
طالبه بالجلوس، جلس عبد المتعال ليطالبه ذلك الرجل الثري باستخراج مجموعة من الأوراق مزورة بالطبع لا أصول لها، ومن بينها شهادة وفاة لوالده الذي ما زال حيًا يرزق، لكنه يرفض بيع قطعة أرض ما زالت مسجلة باسمه، وذلك الرجل يحتاجها بشده والأب يرفض.
تساءل عبد المتعال متعجبًا من ذلك الذي سيميت أباه في حياته
"أليس هناك ورثة آخرون؟"
قال بكل برود
"يمكنني أن أقتله حقًا لكن للأسف والدتي ما زالت على قيد الحياة وأنا لا أستطيع إغضابها، سيقيم في إحدى فيلاتنا بالخارج معززًا مكرمًا بينما نقيم سرادق العزاء هنا ونتم الأمر، أنا بحاجة ماسة لهذه الارض، وسيكون نصيبك مليونًا من الجنيهات"
كاد قلب عبد المتعال أن يتوقف، أصحيح ما سمعه؟
طالب الرجل بإعادة ذكر المبلغ، ابتسم الرجل فلقد تأكد أنه نال مراده
أخذ عبد المتعال يحلم بم سيفعله بالمبلغ وكيف سيغير حياته للأبد، ووافق بالطبع بدون أدنى تردد فهو معتاد على الحرام لكن هذه المرة ليس الفتات بل سيأكل الكعكة بأكملها.
جهز عبد المتعال الأوراق المطلوبة وسلمها للرجل فلقد تكفل عبد المتعال بإنهاء كل الاوراق واستخراج شهادة الوفاة بنفسه.
قبض المبلغ.
طوال الليل وهو وزوجته يقومان بعد النقود وتنشقها ويرسمان في خيالهما ما سيفعلان بها، يجب أن ينفقا بحساب وبالتدريج لكيلا ينكشفا وأول ما سيفعلان هو الخروج من هذا الشارع الشعبي بهذه المنطقة العشوائية، سيؤجران شقة في منطقة راقية وبأثاث جديد، ويشتريان ملابس مناسبة للفتيات، لكل فتاة جهاز محمول، واستمرا يحلمان ويحلمان بما سيشتريانه.
بعد أسبوع فوجئ برجال الشرطة يقبضون عليه، كان للرجل ابنة أخرى في الخفاء، أبلغها أحد جواسيسها في القصر بم حدث وتوصلت لمكان والدها وأثبتت كونه على قيد الحياة.
لم يصدق عبد المتعال نفسه، كان يعيش بالحرام القليل ولم يكشف وعندما ابتسم له الشيطان أخيرًا بمبلغ يجعله يعلو على السطح ويتنسم عبير النقود يقبض عليه، يا لتعاسته ويا لخيبته!
ينظر لبناته وزوجته اللوات يولولن بينما يقوده الشرطي ليركب عربة الشرطة،
الآن سيصبح من أرباب السجون، ضاعت سمعته وسمعة بناته، لقد تحطم مستقبلهن، بعد أن كان يخطط لتزويجهم من المهندس أو الطبيب، سيكون من الجيد لو قبل بإحداهن حوده البلطجي.
أنهى بيده وطمعه واعتياده على الحرام كل شيء.
تمت بحمد الله
#nashwa_aboalwafa