أنا الآن متزوجة من خالد منذ ما يقارب العشرة سنوات، لم نترك طبيبًا لم نزره ولا تحليلًا لم نقم به، وكل الفحوصات والتحاليل أثبتت وأكدت أنني لا يمكن أن أنجب من خالد أو ينجب هو مني.
إنها حكمة الله، أذكر منذ خمسة سنوات كنا قد تأكدنا من تلك النتائج، ذات يوم هاتفني خالد وطلب مني أن أحضر ما يلزمني لرحلة سنقضيها في الشاليه الخاص بالعائلة بالساحل الشمالي.
جهزت ما نحتاجه وذهبنا، بعد وصولنا بفترة وجيزة طلب مني أن أذهب للسير على شاطئ البحر قليلًا ريثما ينهي العمال القادمون بعض التصليحات.
المكان هنا آمن، وهو يعلم أني أعشق البحر، نفذت ما طلبه مني وبعد حوالي ساعة ونصف وردني اتصال منه، يطالبني بالرجوع من الباب الخلفي للشاليه والاستعداد لسهرة برفقة بعض الأصدقاء، ما جال بعقلي أن العمال بالتأكيد ما زالوا بالمنزل، عدت من الباب الخلفي واخترت ما سأرتدي، فستان من اللون الكريمي، مطعم بخطوط ذهبية بسيطة، وأسدلت شعري حرًا طليقًا كما يحبه خالد، اتصال آخر منه يسأل فيه هل انتهيت؟ أجبته بالإيجاب، فطلب مني أن أنزل له في حديقة الشاليه، كان المنظر بالحديقة غاية في الرومانسية طاولة تتسع لشخصين عليها أصناف الطعام التي يعشقها خالد وأهواها أنا من الجمبري، الاستاكوزا، السمك الفيليه ويزين جانب الطاولة شموع على شكل قلوب حمراء، بينما فرشت أرض الحديقة ببتلات ورود حمراء متناثرة.
غمرتني السعادة، وزينت الابتسامة وجهي وتلك الموسيقى الهادئة تشق عباب الصمت من حولنا، وخالد يمد يده لي قائلًا: هل تسمح نوري لي بهذه الرقصة؟
أجبته وأنا أناوله كفي: بالتأكيد خالدي.
ضمني له وأخذ يتمايل بي على أنغام الموسيقى.
وبهدوء قال لي: لقد تأكدنا أننا لن ننجب أبدًا إذا ظللنا سويًا.
توقفت عن الرقص ونظرت له وقلت: نعم إن هذا أكيد.
ابتسم وهو يدفعني لإكمال الرقص: أنا أعرف جيدًا أن حلمك أن تكوني أم، وأنكِ تتوقين لذلك، لذا سأطلق..
لم أدعه يكملها وضعت يدي على شفتيه قائلة: إياك خالد أن تقولها، ربما أنا أتوق لأكون أم لكن ذلك التوق لن يكتمل من رجل سواك، أنت لست زوجي فقط أنت دنياي وكل ما لي في الحياة، أنت أبي وأمي وولدي وملاذي الآمن، بدونك لا تكتمل حياتي، ولن يضمني رجل سواك ولن يحمل رحمي طفلًا سوى منك.
ساعتها قبل يدي واحتضنني بقوة.
منذ ذلك اليوم لم نتحدث أبدًا عن الأطفال، أصبح هو طفلي المدلل وأنا طفلته الوحيدة.
ومرت الأيام ونحن هكذا، إلى أن تزوج أشرف أخيه من حلا التي كان يحبها ولقد نظما حياتهما على أنهما لن ينجبا الآن، فلدى حلا دراستها والتحضير للماجستير ثم الدكتوراه، تريد أن تجوب العالم بحثًا عن سعادتها فهي لا تحب الأطفال.
اليوم علمت بأنها حامل لم أكن أنا فقط من علم بذلك لقد علم كل قاطني المنزل، ليس بسبب فرحتها مثلًا! بل بسبب حزنها وخيبة أملها كما قالت، لا أدري كيف تفكر؟ أكاد أقسم أن هذه الفتاة لا عقل لديها، غاضبة وتريد إجهاض الطفل، لقد أضنتني محاولات إثنائها عن ذلك، ووافقت بشرط واحد، لن يكون لها علاقة بالطفل، ستعطيه لي، نعم هكذا قالت، لن آخذ كلامها على محمل الجد، إنها مصدومة، فلقد حدث الحمل بالرغم من أنها تتخذ كافة الاحتياطات، كانت تريد أن تنعم بشبابها وجمالها وأن تعيش حياتها في دلال بلا أي مسؤولية أو منغصات، منذ أن تزوجت من أشرف وهي تقولها في وجهي يوميًا: ما أجمل حظك بلا أطفال أو من ينغص عليك حياتك، تعيشين بحريتك تروحين وتغدين كما شئت، هذا الطفل لكم وليس لي.
ربما كان ذلك من وجهة نظرها صحيحًا، لكن من وجهة نظري أنا...
ذلك ليس صحيحًا، أنا أعيش بلا روح، فمنذ نعومة أظافري وأنا ألعب دور الأم لعرائسي، أهتم بهم وبنظافتهم، أتحدث معهم، أحاورهم، لم يدر بخلدي يومًا أني قد أحرم من تلك النعمة.
كنت بجوار حلا دائمًا وكأنها ابنتي، أنا أحاول زرع فكرة الأمومة في رأسها، وهي مصممة أن الوليد الذي علمنا أنه سيكون صبيًا بإذن الله سيكون مسؤوليتي الكاملة ولا شأن لها به، بل إنها لن ترضعه حتى، كنت ابتسم ساخرة منها وأقول لها: صغيرتي حلا أقسم أنك ساعة تحملين ذلك الصغير ستلقين بكل حديثك هذا أدراج الرياح وربما لن تجعليني حتى أحمله خوفًا عليه.
لتضحك هي قائلة: ومن أدراك أني سأحمله، لن يحمل ذلك الصبي إلا أنتِ، وأنتِ من ستطلقين عليه اسمه.
اقترب موعد ولادة حلا وكنا قد حضرنا كل شيء، حقيبة الطفل وما يلزم أمام تصميمها أني أنا من سيسمي الطفل أخذت أفكر ماذا سنسميه وأعرض عليها الأسماء وهي تقول لي: ليس ابني يا نور أنه ابنك أنتِ سميه ما شئتِ.
وبيوم الولادة انتابتها آلام المخاض وهرعنا للمشفى، أنا، هي، أشرف، خالد، فكلاهما كان ينتظر الوليد بفارغ الصبر أيضًا.
كانت الولادة متعسرة، وقرر الطبيب أن يتم الولادة بالطريقة القيصرية، ودخلت حلا غرفة العمليات.
بعد قليل خرجوا لنا بالوليد الصغير كانت يداي أول من احتواه قربته لقلبي، استنشقت رائحته، ونظرت له أملي عيناي من قسماته الرقيقة، ولا أدري كيف خرج اسمه من بين شفتاي، اسم لم أكن أفكر به و لم يكن من ضمن الأسماء التي كانت في رأسي له
- عزيز أنت عزيز.
ابتسم أشرف وخالد مرحبين بالاسم وبينما ضممت عزيز بجوار قلبي، خرج الطبيب وعلى وجهه علامات الحزن والأسى ليقول:
- بكل أسف كانت لدى السيدة حلا حساسية من نوع البنج الخاص بالتخدير وفاضت روحها للخالق الكريم.
لم أستطع استيعاب ما قاله الطبيب.
وهرع أشرف للداخل وهو يصرخ باسم حلا.
ثم خرج مسرعًا وحاول خالد اللحاق به، لكنه كان قد انطلق بالسيارة مسرعًا، وعاد خالد للمشفى ليباشر الاجراءات إلى أن يعود أشرف وأنا ما زلت جالسة على الكرسي بذلك الوليد، انظر له والدموع تتدفق من مقلتيّ حزنًا على تلك التي ذهبت بدون أن ترى وجه وليدها أو تحمله فلقد تحقق كل ما قالت، ثم شاركني الصغير بكائي وعلا صوته وجادت حنجرته بالصراخ لتنبهني الممرضة أنه بالتأكيد جائع، وأحضرت له الحليب المناسب له وعرضت أن تأخذه لتطعمه، لكني أبيت ذلك لن يشعر عزيز بأنثى سواي، إنه وليدي أنا.
وما هي إلا لحظات وعلا صوت هاتف خالد لينزل الخبر على رأسه كالصاعقة، لقد قضى أشرف نحبه في اصطدام على الطريق.
جلس خالد على الأرض والكل حوله يواسونه، نظر هو لي ولذلك الصغير بين يدي ثم مسح دموعه وشد قامته بكل ثبات ورجولة واستجمع شتات نفسه، كان وقع المصيبة كبيرًا فأشرف كان بالنسبة له ليس مجرد أخ، كان ابنه، كما كانت حلا لي كالابنة وتوجه لي قائلًا: يجب أن نستجمع شتاتنا لا ذنب للصغير فيما حدث، إنه أولويتنا الآن.
طلبنا طبيب الأطفال ليفحص الصغير فحصًا شاملًا ويحدد نوعية الحليب المناسب له وألقى عليّ التعليمات، أوصلني خالد للمنزل، وعاد للمشفى ينهي الاجراءات وأذاع الخبر وتم دفن أشرف وحلا، لقد وعدها أشرف أنه لن يفترق عنها أبدًا وقد حقق له الله ما أراد.
أصبح عزيز هو محور حياتنا، تحولت حياتنا لروتين مستمر من السعي لإيجاد الأفضل لعزيز، تعليمه، تربيته في غير إفراط ولا تفريط بالدلال، كان قرة عيننا، ولقد جازانا الله خير جزاء كما راعينا حق الله في تربية ذلك اليتيم، أصبح لنا سندًا ومتكئًا حين كبرنا.
زوجته للفتاة التي اختارها، ولم ينسانا أو يهملنا بل كان دائم السؤال علينا، سكن في شقة والده فوقنا، لم يكن ينزل من شقته لأي أمر إلا ويمر عليّ ليسأل هل احتاج لأي شيء من الخارج، حاول معي كثيرًا أن يكون أكله ومعيشته معي بشقتي لكني رفضت، من حق زوجته أن يكون لها مسكنها الخاص ومملكتها التي تديرها كما تشاء، وأنا يكفيني أن أراه وأن يسأل عني، كانت زوجته بحق ابنة أصول هي الأخرى ولم تكن تألو جهدًا في إسعادي فأنا رفضت أن تساعدني في أعمال المنزل فلدي من تأتي لتساعدني.
كان عزيز يدللني ويهتم بي دائمًا ولأن قدمي كانت تؤلمني أحيانًا كثيرة كان يجلس أمامي ويدلكها لي وتناوله زوجته الكريم الخاص بالعضلات ليقوم بعمل مساج لقدمي وهما يضحكان وتتندر هي قائلة: يا أمي لو طلبت منه أن يدللني كما يفعل معك الآن سيرفض.
فاضحك أنا وأضرب عزيز على رأسه: دلل زوجتك أيها الصغير إنها سكنك ومستقرك، وإلا دللتها أنا.
فيضحك قائلًا: وأنا من يدللني؟!
فنجيبه كلتانا: نحن.
بارك الله لي في ولدي الذي لم أنجبه، ابن قلبي، وبارك له في زوجته وملأ حياتهما حبًا وسعادة.
تمت بحمد الله