كان للهفة رمضان طعم آخر، حيث يجتمع الأهل حول مائدة بسيطة مليئة بالبركة، لا بالترف. كان صوت المدفع يُسمع في الحارات فيهرع الصغار بفرح، وتصدح المآذن بنداء المغرب فتغمر القلوب طمأنينة لا توصف. كانت التهنئة تُقال وجهًا لوجه، والزيارات عامرة بروح الأخوة، والمصابيح تتلألأ في الأزقة، تحكي حكايات ليالٍ مضيئة بالسحور والقيام.
المسجد ممتلئًا بالمصلين، تتشابك أرواحهم قبل أيديهم، وكان الدعاء جماعيًا تنبض به القلوب قبل الألسنة. لم يكن هناك عجلة أو زحام إلكتروني يسرق منا لحظات السكينة، بل كان لكل لحظة معناها، ولكل طقوسه رونقها.
رمضان في الماضي مليئًا بالسكون والروحانية. كانت الأيام تمضي ببطء، وكل لحظة فيها كانت تحمل في طياتها ذكرى جميلة. كان الشوارع تُضاء بالفوانيس الملونة التى يحملها الأطفال فى فرحة وأصواتهم تردد أغانى رمضان ، ونسيم الليل يحمل عبير الطعام والحنين. في كل بيت كان هناك مكان للمشاركة، الكل يجتمع على مائدة الإفطار بقلوب مفتوحة، مهما كانت الظروف. كانت اللحظات تمر كالحلم، وكل لحظة تأمل تكون فيها راحة عميقة، وكأن رمضان هو الوقت الذي يعود فيه الإنسان إلى ذاته، ويجد فيه السكينة والطمأنينة.
اليوم، اختفى ضوء الفوانيس، وأصبح الأذان إشعارًا على الهاتف بدلاً من أن يكون نداءً يوقظ الروح. اللقاءات قلّت، والتواصل أصبح عبر الشاشات أكثر منه عبر الأبواب المفتوحة.
في الأسواق ضجيج، وفي القلوب انشغال، ولم يعد لبركة الوقت ذات الحضور كما كانت في الماضي.
أصبح يتسابق مع الوقت، سريعًا في مجرياته، لا تكاد تشعر باللحظة إلا وقد انتهت. التكنولوجيا والضوضاء أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، وتداخلت مشاعر الزمان
لكن رمضان، رغم كل ذلك، يظل رمضان. هو الشهر الذي يحاول أن يعيدنا إلى أنفسنا مهما حاولت الحياة أن تشغلنا. لا يزال فيه نورٌ لمن يبحث عنه، وسكينةٌ لمن يسعى إليها، وفرصةٌ لمن يريد أن يعيد لرمضان نكهته الأولى.