كان يعيش في خدر اليقين. مهندس معماري ناجح، يمتلك مكتبًا لامعًا، وسمعة لا تشوبها شائبة. كانت حياته منظومة رياضية دقيقة، كل رقم فيها يتبع الآخر بتسلسل منطقي خالٍ من المفاجآت. لكن هذا اليقين نفسه بدأ يتحول ببطء إلى سجن.
في ليلة واحدة، انهار كل شيء. خسارة مالية مدوية نتيجة مشروع متهور، أدت إلى إغلاق المكتب. تلاها انفصال هادئ عن شريكته، التي لم تجد في حياته مكانًا للفوضى الضرورية للحب.
وجد نفسه فجأة جالسًا على حافة كرسي في شقة مستأجرة، وحيدًا، لا يملك سوى بدلة رسمية معلقة في الخزانة، كشاهد أخرس على ماضٍ لم يعد موجودًا.
لم يكن حزينًا بالمعنى التقليدي، بل كان مفرغًا. لم يكن الأمر يتعلق بفقدان المال أو المكانة، بل بفقدان الإطار الذي كان يحدد هويته.
لقد كان هو المهندس، والناجح، والشريك. الآن، بعد تجريده من كل هذه الصفات، ما الذي تبقى؟ أدرك أنه وصل إلى نقطة الصفر، ليس كفشل في ميزانية، بل كـلحظة وجودية خالصة.
لم يعد هناك تعريف يحيط به. تأمل نفسه: "ماذا يعني أن أكون 'أنا' إذا لم يكن هناك إنجاز يبرر وجودي، أو علاقة تعكس صورتي؟
هل الوجود بحد ذاته يحتاج إلى تبرير؟" بدأ في ممارسة التجرد القسري. لم يعد يبحث عن وظيفة، بل بدأ في قراءة الفلسفة والفيزياء، تلك العلوم التي كانت ترفًا فكريًا في حياته السابقة.
اكتشف كتابات ألبير كامو عن العبث، و فريدريك نيتشه عن تجاوز الذات. عندما تتجرد من كل شيء، تصبح كل لحظة هي الأولى. لم يعد يرى الأشياء كـ"أهداف" يجب تحقيقها، بل كـ"ظواهر" يجب اختبارها. أصبح فنجان القهوة ليس وقودًا ليوم عمل، بل تجربة حسية لمرارة المذاق وسخونة اللمس.
أصبحت مشكلة تسرب المياه في الشقة ليست عبئًا، بل لغزًا فيزيائيًا يجب حله!! في إحدى الليالي، بينما كان ينظر إلى سقف غرفته المظلم، أدرك السر العميق لنقطة الصفر: أنها هي الحرية الحقيقية. عندما لا تملك شيئًا، لن يكون هناك خوف من الخسارة. عندما لا تكون شيئًا محددًا، يمكنك أن تكون أي شيء. قرر أن يبدأ مشروعًا جديدًا، ليس للبناء المعماري، بل للبناء المفاهيمي. بدأ في كتابة مقالات قصيرة يجمع فيها فلسفته الجديدة عن العبث والحرية، مستخدمًا فيها لغة الهندسة والمنطق لوصف الفوضى الإنسانية.
في نهاية المطاف، لم يعد المهندس المعماري البارع، بل أصبح المفكر الذي يبني جسورًا بين المادة والروح. مقالاته، التي لم يكن يتوقع لها جمهورًا، بدأت تنتشر بين الدوائر الفكرية. لم يعد يسعى للمال، لكن المعنى تدفق إليه بغزارة.
في لقاء أدبي، سأله أحد الحضور عن سبب هذا التحول الجذري. أجاب مبتسمًا: "لقد عشت حياتي الأولى كدالة رياضية محددة. ولكن عندما وصلت إلى نقطة الصفر، اكتشفت أنني لست دالة. أنا المحور نفسه، الذي يمكن لأي دالة أن تمر به أو تبدأ منه. الصفر ليس النقص. إنه المكان الذي ينتهي فيه الماضي، ويبدأ فيه الوجود دون شروط." لقد فهم أن نقطة الصفر لم تكن نهاية الطريق، بل بداية لطريق جديد...






































