كل شيء في هذا الكون يحمل قشرة من الوهم، قشرة لا يجرؤ البشر على خدشها، خشية أن ينكشف لهم ما وراء الصورة، و"هو" لم يكن استثناءً، بل كان أشدهم توقًا لاختراق الحجاب.
سنواتٌ طويلة قضى عمره في مطاردة ظلال فكرة واحدة: أن العالم الذي نراه ليس كل شيء، وأن خلف ستار الإدراك كائنات تحيا وتتحرك، لا تفصلنا عنهم سوى حدود وعينا الضيق. كان مؤمنًا أن البصر خيانةٌ، وأن العين لا تُري إلا ما أراد الوجود إظهاره، وما خفي أعظم.
وعندما أتم بناء جهازه أخيرًا، لم يكن ذلك احتفالًا بانتصار الهندسة، بل لحظة ولادة إنسان آخر؛ إنسان سيقف في مواجهة الحقيقة العارية، بلا وساطة حواس، بلا كذب الصورة، بلا تحريف الإدراك.
ارتدى نظارته الثقيلة، وتشبث بيده المرتعشة بالزر الصغير، يدرك في أعماقه أن ضغطة واحدة كفيلة بتبديل العالم، أو تدميره. لحظة الضغط، لم يسمع صوت الجهاز، بل سمع صوتًا أعمق: صمت الحقيقة، الصمت الذي يسبق انكشاف الوجود.
تلاشت جدران غرفته، وخفتت ألوان الأشياء، وشيئًا فشيئًا تشكلت حوله كيانات، لم تكن غريبة كما توقع، بل أشبه بالبشر، وكأن الحقيقة تتهكم عليه: "كنا هنا طيلة الوقت، وأنت الذي كنت أعمى."
راقبهم في ذهول، يمارسون طقوس حياتهم الخفية، يعبرون المكان دون أن يكترثوا بوجوده، كأنهم كانوا يعلمون أن لحظة اللقاء قادمة لا محالة.
لكن اللحظة الفاصلة جاءت، حين توقفت أجسادهم دفعة واحدة عن الحركة، كأن الزمن طُوي بين أصابعهم، واستدارت عيونهم جميعًا إليه، نظرات صامتة حملت كل الإجابات التي ظل يبحث عنها: المعرفة ليست هبة، بل خطيئة.
في تلك اللحظة، أدرك أنه ارتكب أعظم خطأ يمكن أن يقترفه بشر؛ لقد اقتحم عالمهم، دون أن يُدرك أن كل معرفة لها ضريبة، وضريبته كانت باهظة.
اقتربوا منه، ببطء العدم، بخطى لا تصنع صوتًا، لكنه كان يسمع صدى اقترابهم داخل روحه، صدى الحقيقة التي سكنت جسده، وأحرقته.
صرخ في محاولة أخيرة للنجاة، ألقى النظارة وكأنها جمرٌ لامس يده، توسل، تراجع، همس لنفسه: "لن أخبر أحدًا، أقسم..."
لكنهم لم يتحركوا بدافع الغضب، بل بدافع النظام؛ فالكون لا يقبل المتلصصين، ولا يسمح للمخلوقات أن ترى ما ليس لها أن تراه، ولا أن تعيش ما ليس لها أن تفهمه.
حين اخترق الألم جسده، لم يكن ذلك ألم اللحم، بل ألم الإدراك. لم يمت لأنهم قتلوه، بل لأن الحقيقة أحرقت كل وهم كان يحتمي به.
وفي النهاية، لم يبقَ منه إلا الفراغ، كما لو أن وجوده لم يكن سوى فكرة انتهت صلاحيتها.
وبقيت النظارة، وحيدة في ركن الغرفة، شاهدة على قصة بشرٍ حاول أن يتجاوز حدوده، فعاقبته الحقيقة.
(تمت)