في قلب القاهرة، حيث ينساب النيل كشريان حياة قديم، كانت رائحة البخور والتراب العتيق تملأ شقة متواضعة في حي السيدة زينب. جدرانها متشققة، وطلاؤها يتساقط، لكن كل شبر فيها كان يروي حكاية حب وتضحية.
هناك عاش أحمد مع أمه فاطمة، وكان لكل ركن من أركانها قصة.
فاطمة، تلك المرأة الصلبة ذات اليدين الخشنتين، كانت قد ربت ابنها بمفردها بعد أن اختطف الموت زوجها في حادث سيارة مروع.
كان أحمد في الخامسة من عمره حينها، وكانت فاطمة في مقتبل شبابها، لكنها قررت أن تصبح له أبًا وأمُا، عملت في مصنع للنسيج لساعات طويلة، تطرز أحلامها في خيوط القماش، وتكافح لتوفر لأحمد تعليمًا لائقًا وحياة كريمة.
كبر أحمد ووصل على أعتاب المراهقة ، وأصبحت المسافات تتسع بينه وبين شقته القديمة.
كان يتنقل بين بيوت أصحابه ويدرك الفرق الشاسع بينه وبينهم، فهم معنى الطبقات بين الأسر ، وعلم حجمه الطبيعي في الحياة التي يحياها ، بينما ظلت فاطمة أسيرة ذكرياتها في تلك الشقة التي احتضنت طفولته ، لطالما كان أحمد محور حياتها، عندما تراه يكبر أمامها تجلس إلى جانبه على سريره الصغير، وتتذكر كيف كانت تروي له حكايات عن الأبطال الأسطوريين، تحتضنه وتغني له بصوتها الرخيم "يا وردة من يشتريك". كان يراها وقتها بطلته الوحيدة، ونور عينيه.
لكن سنوات المراهقة كانت بداية الشرخ. أحمد الذي كان يومًا طفلًا وديعًا، تحول إلى مراهق متذمر يطالب بحريته. أصبحت الليالي التي يقضيها خارج المنزل مع أصدقائه أطول، بينما كان قلق فاطمة يتعاظم.
ذات ليلة، عاد متأخرًا فوجدها جالسة في الظلام، وجهها يغرق في نور خافت من مصباح الشارع. عيناها كانت بحرًا من الدموع. همست بصوت مكسور:
_ يا أحمد، ألا تعلم أني أخشى عليك كما أخشى على عينيّ؟
رد عليها بنبرة المراهق الثائر الذي يريد أن يكسر كل القيود:
- كفى يا أمي! لستُ طفلاً بعد!
ثم غادر الغرفة، تاركًا إياها وحيدة، يثقل قلبها شعور عميق بالخوف والخيبة. كانت تلك اللحظة نقطة تحول في علاقتهما، شرخًا يتسع مع مرور السنوات.
***********
كان أحمد عندما يجلس على الأريكة الجلدية الناعمة في صالون منزل صديقه كريم، وتحيط به التحف الباهظة ولوحات الفن المعلقة على الجدران، وثريات الكريستال التي تتدلى من السقف كأنها قطرات ضوء متجمدة يشعر بوخزة في قلبه. كان هذا المكان أشبه بعالم آخر، بعيد كل البعد عن حياته.
حتى عندما أخبره كريم ذات مرة : _أحمد... أنت تظن أنني أملك كل شىء، لكن الحقيقة ليست كذلك."
رفع أحمد حاجبيه بدهشة، فهو أمامه يرى الثراء في كل تفصيلة.
هتف أحمد فى تعجب:
_ وما الذي ينقصك !!
أطرق كريم برأسه قليلًا، وصوته يخفُت:
_ ينقصنى أمي. هي موجودة، لكن بجسدها فقط السفر والعمل أهم مني. بعيدة عني دائما ، وأنا صغير كنت أستيقظ من النوم أجدها مسافرة. أوقات كثيرة أشعر أنك أفضل مني ، لديك أم بتحبك جدا ، وأنت كل وقتها و حياتها. ياليتها كانت أمي."
ابتسم أحمد ابتسامة حزينة ووجد نفسه يتفوه بكلمات تحمل مرارة ممزوجة بالصدق:
_ فلنتبادل إذن .
اتسعت عينا كريم بدهشة، وظل يحدق فيه:
- هل تتكلم بجدية؟
لكن أحمد لم يجد ما يقوله. صمت، وعيناه تهربان نحو الأرض، بينما كانت الكلمات التي نطقها قبل لحظات تتردد داخله كأنها جاءت من مكان أعمق مما ظن.
*********
بعد تخرجه من كلية الهندسة، حصل أحمد على فرصة عمل في دبي، يومها جرى إليها وهو يهتف فى لهفة:
_ سأسافر يا أمي، أخيرًا جاءت الفرصة ، سأغير حياتي تمامًا ، سيعلم الجميع من أكون !
وجدت نفسها تهتف بخفوت ونظراتها زائغة :
- وأنا؟!
صمت لحظة، وبدأ ينظر إليها وتتسع الصورة أمامه لتحويها معه بعد أن كانت لا تتسع سوى له وحده.
تمتم فى خفوت :
- أنا أعلم أنك ستفرحين لي، وكل أمنيتك أن أكون سعيدًا .
هزت رأسها فى استسلام ، ومدت يدها لتربت على كتفه.
كانت فاطمة ممزقة بين الفخر بابنها والخوف من بعده.
قبيل سفره أمسك يدها وقبلها، ثم أقسم أن يعود قريبًا ، لكن الشهور تحولت إلى سنوات، وبدلًا من أن يعود، أرسل لها نقودًا وزيارات شحيحة، تاركًا فراغًا لا يمكن للمال أن يملأه.
في إحدى زياراته القليلة والنادرة، لاحظ أن فاطمة قد تغيرت. كانت شاحبة، شعرها أبيض كالثلج، وجسدها نحيل. شكت من ألم في صدرها، لكنها طمأنته بابتسامة باهتة:
_ إنه زكام عابر، لا تهتم.
قضيا يومًا سعيدًا ، يتذكران الأيام الخوالي، يتشاركان طبق الكشري، ويضحكان أمام فيلم أبيض وأسود، لكن عندما غادر شعر أحمد بندم خفيف، كمن يترك كنزًا لا يقدر بثمن خلفه.
ولكن سرعان ما طغت عليه الحياة الجديدة في دبي، منشغلاً بالعمل، والحفلات، والعلاقات العابرة التي لا تدوم.
******
في صباح مشمس في دبي، تلقى أحمد مكالمة من عمته زينب. كان صوتها يرتجف:
_ والدتك في حالة خطرة .
توقف قلبه للحظة، وشعر بأن الأرض تهتز من تحته. لم تكن تلك مجرد مكالمة، بل كانت نداءً يوقظه من غفلته. ركض إلى المطار والذنب يعتصر صدره كأنه وحش يلتهم كل ذكرى جميلة بينهما. وصل إلى المستشفى ليجد فاطمة متصلة بأجهزة التنفس، وجهها شاحب كالقمر، وعيناها مغلقتان. أخبره الطبيب أن مرض السرطان قد تمكن منها، ولم يبقَ لها إلا أسابيع. انهار أحمد يلوم نفسه على كل لحظة أضاعها بعيدا عنها. جلس إلى جانبها، يمسك يدها الضعيفة، ويبكي: - سامحيني يا أمي، كنتُ جاهلاً، أضعتُ وقتاً ثميناً.
فتحت عينيها ببطء، وابتسمت ابتسامة حزينة:
- أنت ابني، وسأظل فخورة بك مهما حدث.
ترك أحمد عمله مؤقتًا، حصل على إجازة من رصيد متاح لديه، وقرر أن يعوض كل لحظة فاتت، كان يصطحبها إلى الحديقة القريبة، يجلسان تحت شجرة عتيقة، يتذكران الماضي في حنين . روت له عن شبابها، وكيف التقت بوالده في سوق الجمعة، وكيف بنيا حياتهما رغم الفقر المدقع. كانت تضحك وهي تستعيد ذكرياتهم عن كيف ادّخرا المال لشراء تلفاز صغير. لكن السعادة كانت قصيرة، فبعد لحظات، اكتشف أحمد أن فاطمة قد باعت مجوهراتها القليلة لتسدد ديونه الجامعية دون أن تخبره. غضب، وصاح:
_ لمَ أخفيتِ هذا عني؟ كان بإمكاني أن أساعد!
ردت بحدة لم يعتدها منها:
_لأنك كنت بعيدًا يا أحمد! عشتَ حياتك ونسيتنا!
انفجرت الدموع من عينيها، لم تتوقع أن تخرج تلك الكلمات الحادة من فمها، وكأن عقلها هو من نطق بالكلمات وليست هي، ثم عانقته في حب و بداخلها ندم يغمرها، عناق يمحو سنوات الغياب ، ويتشبث باللحظات الأخيرة.
مع تقدم المرض، أصبحت فاطمة أضعف، تفقد وزنها، وتتنفس بصعوبة، طلبت منه أن يصطحبها إلى النيل. ذهبا، جلسا على الضفة يشاهدان الغروب يلون الماء بالأحمر.
قالت بحزن:
- هذا لقاؤنا الأخير يا بني.
هز أحمد رأسه بعنف:
_ كلا، ستشفين!
لكنه في قرارة نفسه كان يعرف الحقيقة المؤلمة والمتوقعة ، تلاقت أعينهما حاملة كل المشاعر المتضاربة: فراق، وندم، وأمل كاذب في لقاء آخر.
حينها أطبق الصمت على المكان، وزاغت الأعين؛ وامتزجت المشاعر بداخلهما.
*******
عاد أحمد من ضفة النيل وقد خيّم الصمت على قلبه كغيمة ثقيلة.
جلس بجوار فراش أمه في المستشفى لتتلقى علاجها الكيماوي ، يراقب ملامحها وهي تستسلم لإرهاق المرض، حين دخل الغرفة طبيب مسنّ، مهيب الطلعة، تعرّف عليه أحمد بأنه استشاري الأورام المشرف على حالتها.
اقترب الطبيب ببطء، وقلب ملفها الطبي بين يديه، ثم رفع رأسه نحو أحمد، وفي عينيه مسحة استغراب واضحة.
قال الطبيب بصوت منخفض كأنه يخشى أن يسمعه أحد:
ــ أنت ابن فاطمة؟
أجابه أحمد في حيرة:
ــ أجل، أنا ابنها الوحيد.
ظل الطبيب يحدّق فيه لثوانٍ قبل أن يقول:
ــ هذا عجيب… كنت أتابع حالة والدتك قبل سنوات طويلة، بعد زواجها بفترة قصيرة أصيبت بسرطان في الرحم، واضطررنا إلى استئصاله بالكامل… لم يكن بإمكانها الإنجاب بعدها أبدًا.
تجمدت ملامح أحمد، شعر أن الهواء انقطع فجأة من الغرفة، وأن جدرانها تدور حوله. تمتم بارتباك:
ــ ماذا تقول يا دكتور؟! أمي !! لا يمكن… لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا.
وضع الطبيب يده على كتفه في أسف:
ــ أعلم أن كلامي صادم، لكن الأمر مسجَّل في ملفات المستشفى القديمة. وها هو المرض يعود الآن في رئتها، فالأجساد التي واجهت الأورام من قبل تظل معرضة لانتشارها في أي وقت.
لم يستوعب أحمد ما سمعه، أحس بأن كلمات الطبيب صفعت قلبه قبل أذنه، في تلك اللحظة أطلق جهاز مراقبة القلب صفيرًا خافتًا، ودخلت الممرضة مسرعة لتخبره بأن فاطمة دخلت في غيبوبة عميقة.
اقترب منها، أمسك يدها، همس باسمها، لكنها لم ترد.
خرج من الغرفة يشتعل غضبًا وحيرة، واندفع نحو شقة عمته زينب، طرق الباب بعنف حتى فتحت له، ملامحها واجمة كأنها كانت تنتظر قدومه.
قال بصوت مضطرب:
ــ أخبريني بالحقيقة يا عمّة… من أنا؟ ومن تكون أمي حقًا؟
حاولت أن تستنكر الأمر ، ولكنها استسلمت.
تنهدت ، وجلست على المقعد القريب، وعيناها تفرّان منه ثم تعودان لتغرز فيه نظرة ثقيلة:
ــ حان الوقت لتعرف يا أحمد… والدتك الحقيقية كانت الزوجة الثانية لأبيك، تزوجها بعد أن استأصلت فاطمة رحمها، وتحت إلحاح رهيب من أبيه حتى يكون له حفيد ! ورضخت فاطمة للأمر وتقبلته مرغمة ، وأثناء ولادتك توفت والدتك الحقيقية ، وأبوك ـــ رحمة الله عليه ـــ كان مكلومًا تائها ، فكتَب اسم فاطمة في شهادة ميلادك لتكون أمك أمام الدنيا، وهي من احتضنتك وربتك كفلذة كبدها. لم تكن مجبرة على ذلك، لكنها فعلته حبًا لأبيك ، وحباً لك كابن لم تحمله في بطنها، بل حملته في قلبها.
أطبق أحمد كفيه على وجهه، وانفجر باكياً بكاءً مريرًا لم يذق مثله من قبل. انهار كل ما كان يظنه حقيقة، وتجلت أمامه صورة فاطمة وهي تسهر بجانبه في مرضه، وتحتضنه في طفولته، وتعمل لأجله، وتخاف عليه، كل ذلك دون أن تفصح له عن سرها.
ركض إلى المستشفى، ودخل غرفة أمه يلهث، جلس قربها، أمسك يدها المرتجفة، ووجهه مبلل بالدموع:
ــ أمي… نعم، أمي، سواء أنجبتني أم لا. أنا ابنك، دمك يجري في قلبي، وروحك تعيش في داخلي. سامحيني على كل غياب، على كل كلمة جافة، على كل يوم تركتك فيه وحيدة. لقد ضحيتِ بحياتك لأجلي، وأنا لم أفهم… حتى الآن. أحبك… أحبك أكثر من نفسي.
لم يتحرك جفنها، لكن ابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها الشاحب، وكأن قلبها سمعه وإن لم يسمعه الجسد.
فجأة بدأ جهاز مراقبة القلب يُطلق نغمة طويلة مستمرة، هرع الأطباء والممرضات، حاولوا إنعاشها، لكن الطبيب التفت نحوه بعينين دامعتين وهز رأسه في أسف.
سقط أحمد على ركبتيه بجانب سريرها، قبل يدها للمرة الأخيرة، وهمس وهو يبكي بحرقة:
ــ وداعاً يا أمي… كنتِ وستظلين أجمل حقيقة في حياتي.
وفي الخارج، كان النيل يجري كعادته، لا يعبأ بمن رحل ولا بمن بقي، لكن أحمد كان يعلم أن شريان حياته قد انقطع إلى الأبد.