في ذلك الزقاق الجانبي، حيث تمرُّ الحياة على استحياء، جلس رجل مسن على طاولة خشبيّة متآكلة، أمام مقهى شعبيّ تنبعث منه رائحة البنّ والتبغ وعصير الليمون. المقهى يبدو مهجورًا ، لكنه مأهول بالقصص. الكراسي المعدنية تصدر صريرًا خافتًا عند أقل حركة، والوجوه المعتادة تتكرّر في صمت، كأنها فصلٌ من مسرحيةٍ لا يُعادُ إخراجها أبدًا.
كان العجوز يرتدي بدلة رمادية قديمة، أنيقة رغم ما علق بها من غبار السنوات. على الطاولة أمامه فنجان قهوة يبرد ببطء، وعيناه تسبحان في الأفق، كأنهما تبحثان عن شيء لم يأتِ.
دخل رجل أربعينيّ، تبدو عليه آثار التعب لكنه يحاول أن يخفيها بابتسامة مؤدبة. بحث بعينيه عن مكان هادئ، ووقع اختياره على الطاولة المجاورة للعجوز. وقبل أن يجلس، رفع الرجل المسن رأسه وقال:
– تحب تشرب قهوتك إزاي يا ابني؟
ارتبك القادم الجديد قليلًا، ثم ابتسم:
– سادة... شكرًا لحضرتك.
لوّح العجوز للنادل بإيماءة خفيفة، ثم التفت إلى الرجل مجددًا:
– أنا اسمي محمود... ودايمًا بقعد هنا. من أكتر من عشرين سنة. المقهى ده شاهد على عمري.
هزّ الرجل رأسه بتفهم، لكن محمود لم يكن يحتاج إذنًا للحديث، فاسترسل بصوت هادئ:
– كنت متجوز ست الستات، كان اسمها فريدة. ماكانتش بس مراتي، كانت روحي اللي كنت باشوف بيها. ضحكتها كانت تنوّر لي الدنيا، وصوتها يخليني أنسى تعب الشغل والطوابير.
صمت لحظة، ثم تابع:
– خلفنا ولدين . كنت فاكر إنهم هيبقوا سند. ربّيناهم من غير ما نمد إيدينا لحد. فريدة كانت بتبيع ذهبها علشان نكمّل مصاريف الجامعة. ما كنّاش بنشتكي، كنا فرحانين.
أخذ رشفة من فنجانه، وابتسم بحنين:
– فجأة ماتت فريدة... حسّيت إن روحي اتقطعت نصين،و مافيش أكسجين في الهوا .. والولاد؟ كلّ واحد فيهم راح لحاله. اللي سافر واتجوز هناك، واللي مشغول طول الوقت كأنه ما بقاش عنده أب.
انكمش وجهه قليلًا، كأن الذكرى لسعت قلبه:
– بقيت أعيش مع الذكريات. بصحى على صوتها، وأنام على صورتها. وأي وش بشوفه في الشارع، بدور فيه على ملامحها.
تنهّد الرجل الجالس أمامه، وقد تأثر بكلماته دون أن يدري. لم يكن يتوقّع أن يجد بين جدران هذا المقهى قصةً تقطر حنينًا، وقلبًا لا يزال متمسكًا بذاكرة امرأة مضت.
قال محمود هامسًا:
– عارف، في أيام بتمنى لو الزمن يرجع بس دقيقة، أسمع صوتها، ألمس إيدها، أقول لها: آسف لو في يوم زعلتك... آسف إني ما كنتش دايمًا على قدّ حبك.
مرّت لحظة صمت ثقيلة. الرجل نظر إلى فنجانه، ولم يدرِ بماذا يرد. في تلك اللحظة، دخلت امرأة خمسينية المقهى، عيناها تجوب المكان بقلقٍ ظاهر، ووجهها يحكي عن رحلة طويلة من البحث.
وحين رأت محمود، أسرعت إليه وركعت عند قدميه.
– محمود! يا حبيبي... ليه خرجت من غير ما تقول؟ خوّفتنا عليك!
نظر إليها محمود باستغراب، وابتسم ببراءة:
– حضرتك مين؟
تجمّدت المرأة في مكانها، ثم أخذت نفسًا عميقًا وأمسكت يده بلطف:
– أنا فريدة يا محمود... مراتك. ما رحتش منّك. أنا هنا... كنت دايمًا هنا.
سرت قشعريرة في جسد الرجل الأربعيني، والتفت إليها يسأل بعينيه عمّا يجري.
نظرت إليه بحزن وأجابت بصوت منخفض:
– هو عنده زهايمر. ساعات بيهرب من البيت، يروح أماكن كان بيروحها زمان. ولما يقعد مع حد، يفتكر حاجات ، أو يجمّع قصص من خياله... بس هو مش كدّاب. هو بيتأثر بقصص قرأها أو فيلم شافه.
سقط الصمت بين الثلاثة. محمود ينظر إليها بعينين زجاجيتين، ثم تمتم:
– فريدة؟ أنا كنت لسه بحكي عنك للراجل ده...
أجهشت فريدة بالبكاء، وضمّته إلى صدرها، كأنها تخاف أن يفلت منها مرة أخرى.
الرجل وقف مذهولًا، قلبه يتلوى بين الإعجاب والألم.
ظل ينظر إلى محمود وزوجته وهو يستند على كتفها ويتعلق بها وكأن حياته قد عادت إليه من جديد.
قد غاب عقله، لكن قلبه ظلّ يتذكّر من أحبّ، حتى لو خانته الأسماء والوجوه.