في تلك المدرسة القديمة الموجودة على أطراف إحدى القرى، كان الأستاذ سامي يدخل فصله كل صباح مرتديًا بدلته الرمادية الباهتة التي لم تعد تحتمل مزيدًا من الغسيل.
يضع حقيبته الجلدية القديمة على المنضدة، ويبدأ يومه بقطعة طباشير صغيرة تتآكل مع كل كلمة يكتبها على السبورة.
كان صوته مبحوحًا من كثرة الشرح، وعينيه غائرتين من السهر في عمله الآخر كبقال ، والذي لجأ إليه ليُطعم أولاده.
رغم ذلك، كان يحرص أن يبدأ الحصة بابتسامة مُرهَقة، كي لا يشعر تلاميذه بمرارة قلبه.
لكن الحقيقة أن سامي كان يعيش مأساة صامتة.
فهو، الرجل الذي علّم أجيالًا معنى الحروف، لم يستطع أن يوفّر لأبنائه كتبهم الجديدة إلا بالاستدانة.
وهو، الذي زرع في طلابه حب الوطن، كان يقف في طوابير الخبز المهين ليشتري قوت يومه.
كان يشعر بالقهر حين يراه تلميذه القديم، وقد صار موظفًا صغيرًا في الحكومة، يتحدث إليه بلهجة استعلاء لمجرد أنه يرتدي قميصًا جديدًا وربطة عنق لامعة.
وكان يقهره أكثر أن يسمع جاره يقول له ذات مساء:
ــ "يا أستاذ، التعليم لم يعد له قيمة، لو كنت تاجرت في أي شيء لكنت اليوم غنيًا."
في داخله، كان سامي يحترق.
كيف لرسول العلم أن يُهان؟ كيف صار حاملو الرسالة غرباء في وطنٍ لا يُقدّرهم؟
وفي أحد الأيام، بعد أن أنهى حصة طويلة وسط جلبة التلاميذ، جلس على الكرسي الخشبي المتهالك في الفصل الخالي.
أمسك بقطعة الطباشير الصغيرة بين أصابعه التى مازالت موجودة فى مدرسته رغم انقراضها تقريبا فى جميع المدارس ، وتأملها طويلاً.
همس لنفسه:
ــ "هذه القطعة مثلي… تُستهلك لتُنير عقول الآخرين، ثم تُرمى في النهاية بلا تقدير."
انهمرت دموعه لأول مرة منذ سنوات، لتختلط بغبار الطباشير على يديه.
خرج من الفصل بخطوات بطيئة، وابتسامة مصطنعة على وجهه، كعادته، ليُخفي عن تلاميذه حقيقة أن المعلم في وطنه آخر من يأخذ ، وأول من يُضحّي.