في قصرٍ قديمٍ على حافة الريف الإنجليزي، حيث يتدلى الضباب كالستائر الرمادية على نوافذ الزمن، كنا نحن، عائلة "الرداء الأسود"، نسكن وحدنا، بلا زوّار، بلا بشر، فقط صمت الأرواح وهمس الذكرى.
أنا، اللورد إدوارد كورنوال، كنتُ رجلاً ذا هيبة وصيت، أعيش مع زوجتي العزيزة إليانور، وثلاث بنات كُنّ نور هذا القصر: روزالين، ذات الصوت الملائكي، وإميليا، الرسّامة الحالمة، وليليث، الصغرى... عاصفة في جسد نحيل.
نحن الآن أشباح، نعم، لكننا لم نكن دومًا كذلك.
كانت الحياة في العصر الفيكتوري محكومة بالمظاهر، ونحن كنّا من نبلاء ذلك الزمن، نرتدي السواد لا حدادًا، بل رمزًا للرقيّ والانضباط. كنا نبدو مثاليين في أعين الآخرين، لكن القصر عرف ما لا يعرفه سوانا: أسرارنا.
بدأ كل شيء في ليلة شتاء قارسة، حين دقّت الريح نوافذ القصر بعنف وكأنها تحذر. في الداخل، كانت إليانور تُعد الشاي في الطابق السفلي، وأنا في المكتب أنقّب في دفاتر قديمة تتحدث عن استحضار الأرواح. كانت روزالين تغني في الممر الطويل، وإميليا ترسم ظلال الأشجار التي ترقص على الجدران، وليليث... كانت في القبو، كعادتها، تهمس لأشياء لا نراها.
كانت هناك غرفة محرمة ، مغلقة ، لم نعد ندخلها منذ زمن بعيد.
كانت الغرفة تعود لابننا، الطفل الذي لم يره أحد ، والذي أصيب بمرض غامض فى العام التاسع من عمره، وفي لحظة يأس، لجأت إلى طقس محرم كي أُطيل عمره، فخسرت أرواحنا ..ونجا هو.
نحن الآن نعيش في هذا القصر، نرتدي الرداء الأسود، حدادًا على أنفسنا، سجناء فعلٍ لا يُغتفر.
نظهر فقط لمن يقترب من الباب العتيق.
نهمس له:
"إن كنت تبحث عن الحقيقة، فاستعد لتصبح منها."
**
في نهاية الخريف الماضي، دخل القصر رجلٌ جديد. كاتب، يبحث عن الإلهام.
جلس على الطاولة، وأضاء مصباحه، وبدأ يكتب…
وعند منتصف الليل، ظهرت روزالين خلفه تغني، وهمست إليانور في أذنه، وأخذت ليليث تمسح الغبار عن صور قديمة.
نظر الكاتب إلينا مبتسمًا، وقال:
"حسنًا... هذه بداية عظيمة لرواية."
لم نُخيفه.
ربما... لأن بعض البشر، يبحثون عن الأشباح ليشعروا أنهم أحياء.
*******
كنتُ أبحث عن قصة.
ليس قصة تُكتب، بل قصة تُنقذني. شيءٌ ينتشلني من هذا البياض في داخلي، من هذا الصوت الغامض الذي يهمس باسمي كلما أغلقتُ عيني.
كان الدافع باهتًا، والمكان مجهولًا، لكنني وجدت نفسي أقود عربة مستأجرة عبر الريف الإنجليزي، باتجاه قصر قديم، مهجور، قالوا لي إنه مسكون… وقال قلبي إنه مألوف.
ما إن وصلت إلى بوابته الحديدية حتى شعرت بشيءٍ يتحرّك في الهواء... لا ريح، بل ذاكرة.
دخلت.
الغبار كان كثيفًا، لكن أثاث المكان كما هو، وكأن الزمن جمّده، لا هدمه. خطواتي كانت تطرق الأرض وكأنها تعيد صدى حياةٍ منسية.
جلست في قاعة قديمة، وأخرجت دفتري. كنت أظن أنني أدوّن، لكني في الحقيقة كنت أستدعي.
وفي منتصف الليل… بدأت أراهم.
أول من ظهرت كانت فتاة ذات شعر طويل وثوب أسود، كانت تغني. صوتها أشبه بصوتٍ سمعته وأنا طفل، في مهدٍ لا أذكره.
ثم تبعتها سيدة… وقفت خلفي، لم ألمح وجهها، لكن رائحتها كانت مألوفة، كرائحة حضنٍ مفقود.
ثالثة كانت فتاة ترسم شيئًا على الأرض. ورابعة، صغيرة تحدّق بي بعينين واسعتين وكأنها تعرفني.
وأخيرًا… ظهر هو.
رجل ذو لحية رمادية، وهيبة صامتة. نظر إلي طويلًا، ولم يقل شيئًا.
ظننتني أهذي.
لكنهم لم يؤذوني، لم يخيفوني. جلسوا بقربي، كأنهم كانوا ينتظرونني.
وفي اليوم التالي، وجدت قدمي تسوقني إلى غرفة في الطابق العلوي. بابها قديم، مقفل بسلسلة صدئة. لا أعلم من أين جاءتني القوة، لكني فتحتها.
الغرفة كانت صغيرة، فيها مهد… ونقش على الجدار:
"لكل روح طريقها، لكن بعض الطرق لا نهاية لها."
وقفت هناك، وتوقفت روحي.
كل شيء عاد إلي دفعةً واحدة…خيال ذكريات ، وجوه ضبابية، وأصوات تتلاشى..
هذا هو مكاني.
هذا القصر… كان بيتي.
المرأة… أمي.
الرجل… أبي.
والفتيات… شقيقاتي الثلاث.
أنا جون إدوارد كورنوال.
لم أكن الزائر… كنت صاحب البيت.
كنت الطفل الذي بقي.
عندما ماتوا جميعًا في تلك الليلة – الليلة التي حاول فيها والدي إنقاذي بطقسٍ محرّم – أُرسلت إلى دار أيتام. محوا الماضي من ذاكرتي… وأنا محوتهم لأعيش.
لكن الذاكرة… لا تموت، بل تتنكر.
أنا الذي استدعيتهم، لا بحثًا عن قصة… بل عني.
وحين عرفوا أنني عدت، اختفوا واحدًا تلو الآخر، كأن مهمتهم انتهت.
قبل أن يرحل والدي، اقترب مني، وقال:
"من لا يخشى أشباحه… ينجو منها."
وفي الصباح، استيقظت على كرسي المكتب. لم يكن في القصر أحد.
خرجت إلى الحديقة، وهناك… شاهدٌ حجري كتب عليه:
"هنا ترقد عائلة كورنوال، في سلام أخير."
فتحت دفتري، وكتبت على الصفحة الأولى:
"عائلة الرداء الأسود"
بقلم: جون إدوارد كورنوال
تمت