قعدت في المكتب وأنا مركِّز مع براد الشاي اللي قرَّبِ يغلي، ومن وقت للتاني، كُنت بقرَّب إيدي منُّه وهوَّ على السَّخان عشان صوابعي كانت هَتتجمِّد من البرد، في اللحظة دي باب المكتب اتفتح، بصِّيت ناحيته لقيته محمود؛ زميلي في الشغل، افتكرت إنه مختفي من ربع ساعة، عشان كِدَه قُلت له:
-أنت كُنت مزوَّغ ولا إيه؟
لمَّا قُلت له كِدَه ضحك على كلامي وقال لي:
-هزوَّغ فين بس يا مازن؟ ده إحنا في نُص الليل ومَفيش جنبنا أي مكان الواحد يزوَّغ فيه، وبعدين أنت عارف شغلنا، مَفيش فيه زوغان، بالك أنت لو عملناها وحصلت حادثة واتصلوا على الوحدة والمسعفين اللي فيها مش موجودين هيحصل إيه؟ أكيد أنت عارف اللي هيحصل، دَه غير إن التأخير ممكن يضيَّع أرواح ناس، كل الحكاية إني كُنت بسخَّن عربية الإسعاف عشان لو جالنا بلاغ ولا حاجة.
قُلت في بالي: "ياريتني ما سألته". أنا كُنت بحاول أهزَّر وأكسر مَلل الوقت، أصل أنا منقول هِنا من أسبوعين بَس، وفي المدة دي محصلش أي بلاغات عن أي حوادث، يعني بتلطع في المكتب من وقت ما بوصل لحد ما بخرج أروَّح لمَّا النهار يطلع، لكن واضح إن محمود حنبلي زيادة عن اللزوم، ساعتها ردّيت عليه عشان يفصِل وقُلت له:
-حيلك يا عم أنا كنت بهزَّر، أنت ما صدَّقت لزقت في الكلمة واتفتحت!
-أنا بقول لَك بس عشان كلامك ميوصلش لعم بسيوني ويفتكر إني بزوَّغ بجد.
ضحكت على كلامه وقُلت له:
-بذمِّتك يعني هتزوغ تروح فين في نُص الليل وإحنا على طريق سريع؟ بقول لَك إيه، سيبك من الكلام دَه وتعالى أصُب لَك معايا كوباية شاي.
بالمناسبة؛ عم بسيوني دَه يبقى مسئول الوحدة، يعني هوَّ اللي بيستلم بلاغات الحوادث، وهوَّ اللي بيمضي على خروج عربية الإسعاف لو حصل بلاغ بأي حادثة، يعني على أرض الواقع مدير وحدة الإسعاف.
صبِّيت كوبّاية شاي معايا لمحمود، بعدها كل واحد منّنا قعد على كرسي وبدأ يشرب، في اللحظة دي سألته:
-أنت بقالك قد إيه هنا يا محمود؟
أخد شفطة من الكوباية وبعدها قال لي:
-من حوالي شهرين.
-يعني جديد هنا وحالك من حالي.
-ومن وقت ما جيت مَحصلش إن وصلنا بلاغ بأي حادثة، ولا خرجت برَّه الوحدة.
-ياعم ربنا ما يجيب حوادث، وبعدين كَدَه أحسن من الجري على الطريق في التلج ده.
وقفنا كلام لمَّا سمعنا رنّة التليفون الأرضي، صوته كان جاي من مكتب عم بسيوني، في اللحظة دي بصّيت لمحمود وقُلت له:
-الحوادث جَت على السيرة، سخَّنت العربية ونبرت فيها؟
بَص لي بدون ما يعلَّق على كلامي، وساعتها صوت الرَّنة اتقطع وسمعنا سماعة التليفون وهي بتترفع، بعدها سمعنا صوت عم بسيوني وهو بيقول:
-آلو.
وبعد ما سكت لثواني كمِّل كلامه وقال:
-عند الكيلو كام؟
بعدها السَّماعة اتحطَّت والمكالمة انتهت، وبعد لحظات سمعنا خطوة هادية جاية ناحية المكتب اللي إحنا فيه، وخلال ثواني باب المكتب بتاعنا اتفتح، ساعتها شُفنا عم بسيوني واقف في إيده دفتر صغيَّر بيكتب فيه، وبدون ما يبُص ناحيتنا قال:
-في بلاغ عن حادثة عند الكيلو 105.
قالها وسحب الورقة اللي بيكتب فيها من الدفتر، في اللحظة دي محمود حط كوباية الشاي من إيده وقام راح ناحيته، أخد الورقة منُّه وبَص لي، حطيت الكوباية اللي في إيدي وقُمت، وساعتها عم بسيوني رجع مكتبه وقفل عليه.
خرجنا من المكتب وطلعنا على عربية الإسعاف، ركبنا ومفيش ثواني كُنا خارجين من الوحدة، ساعتها قُلت لمحمود:
-كان لازم يعني تفتح سيرة الحوادث؟
رد عليّا وهوَّ مركِّز في الطريق وقال لي:
-مُش عاوز تشتغل ولا إيه؟
-يابني هوَّ أنا ترزي ومش عاوز أشتغل؟ إحنا مُسعفين، شغلنا معناه إن في ناس متعوَّرة أو ميِّتة.
-بقول لَك إيه مَتقلبش دماغي يا مازن، الأعمار مكتوبة والقدر مكتوب، إحنا علينا نشوف شغلنا وبس، وبعدين إحنا هنقضّيها من هنا لحد الكيلو 105 كلام في الحكاية دي؟
لمَّا قال لي كِدَه افتكرت إن الطريق طويل، إحنا تقريبًا عند الكيلو 65، يعني قدامنا وقت لحد ما نوصل مكان الحادثة، وبعدها على ما نفحص الحالة ونطلب الشرطة تيجي تعاين، وبعدها يأمروا بنقل الحالة على أقرب مستشفى، حوار طويل محتاج إن محمود فعلًا يركز في الطريق عشان نِنجز.
حطيت لساني في بوقّي وقعدت ساكت، بصّيت من الشباك على الضلمة اللي الطريق غرقان فيها، وبعد حوالي نُص ساعة؛ لقيت محمود بيهدِّي وبيركن على جنب، بصِّيت ناحيته وسألته:
-وقفت ليه؟ العربية عطلت ولا إيه؟
فضِل مبحلق قدامه شويَّة وبعد كِدَه قال:
-فين الحادثة؟
-هوَّ إيه اللي فين الحادثة؟ هوَّ كان فرح واتفَض يعني ولا إيه؟ ما تكمّل لحد ما نوصل.
ساعتها بَص لي وقال لي:
-يابني إحنا في الكيلو 105 زي ما عم بسيوني كتب في الورقة.
رميت عيني ناحية اليافطة اللي على جنب الطريق، فعلًا كان الكيلو 105، دَه غير كمان إن كشَّافات العربية كانت ضاربة في الرَّقم وواضح قدامنا زي الشَّمس، عشان كِدَه قُلت له:
-الرقم مظبوط، معنى كِدَه إن عم بسيوني كان رايح في النوم وصحي على رنة التليفون وسمع الرقم غلط.
هَز راسه وهوَّ بيأكِّد على كلامي، وساعتها قال لي:
-طيِّب والعمل؟
-إحنا نكمّل شويَّة على الطريق جايز نلاقي الحادثة، ولو موصلناش لحاجة نرجع عند الكيلو 105 ونبلغ عم بسيوني وهوَّ يتصرَّف.
وفعلًا، كمِّلنا على الطريق وملقناش أي حاجة، رجعنا لنفس المكان ووقفنا، اتصلت على رقم الوحدة، انتظرت ثواني لحد ما المكالمة اتفتحت وسمعت صوت عم بسيوني، وساعتها قُلت له:
-إحنا عند الكيلو 105 ومَفيش أي حادثة على الطريق.
سكِت شويَّة وبعدها رد عليّا وقال لي:
_يعني إيه مفيش حادثة؟
_زي ما بقول لَك كده يا عم بسيوني، وصلنا المكان ومَفيش حاجة.
_متأكد يا مازن إنكم عند الكيلو 105؟
_اليافطة قدّامي وإحنا موجودين في المكان مظبوط.
_طيّب اتحرَّك على الطريق جايز تكون الحادثة في مكان تاني واللي بلَّغ عنها قال مكان غلط.
نَفخت بصوت واطي لأني كنت جايب أخري وبعدها قلت له:
_عملنا اللي بتقول عليه دَه قبل ما اكلمك يا عم بسيوني، ياريت تقول لنا نتصرف إزاي؟
_خلّيكم مكانكم دقيقتين وهكلّمكم.
قفلت المكالمة وانتظرنا الدقيقتين، بعدها عم بسيوني رن عليا من تاني، ولمَّا فتحت عليه قال لي:
_اتصلت بالرقم اللي وصلني منه البلاغ ولقيته غير متاح، يظهر إن الشبكة على الطريق واقعة.
قفلت المكالمة بعد ما طلب منّنا نرجع على الوحدة، وفي الطريق قُلت لمحمود:
_يعني الشبكة كانت موجودة وقت البلاغ ووقعت بعد ما وصلنا مكان الحادثة.
ساعتها محمود رد عليّا وقال لي:
_جايز بلاغ وهمي.
_للدرجادي؟
_ليه لأ. حد قاعد فاضي وقال يتسلّى، بلّغ عن حادثة وهمية وضرب عنوان وهمي، وبعدها قفل تليفونه.
_ومين اللي ممكن يعمل كده ويعرَّض نفسه للمسؤولية؟
_ولا مسؤولية ولا حاجة، جايز رقم بدون اسم، أو مكالمة من مواقع الانترنت اللي بتعمل مكالمات بأرقام وهمية، اللي عاوز يتسلّى مش هيغلب يا مازن.
أثناء كلامنا كنت ملاحظ حاجة غريبة، العربية من ورا كانت تقيلة، وكأن في حد موجود في مقصورة المريض، ده غير إني كنت سامع صوت الأجهزة شغّالة، زي ما تكون متوصَّلة في مريض وبتقيس له الضغط وضربات القلب.
عشان أقطع الشك باليقين، بصّيت من الفتحة الإزاز اللي بين كابينة السواق ومقصورة المريض، الشيزلونج كان فاضي، وفي نفس الوقت جهاز القلب كان بيعطي إشارات حيوية، ده غير إن جهاز التنفس الصناعي كان بيتحرّك وكأن واصله أنفاس حد.
بلعت ريقي لمَّا لقيت الأجهزة شغّالة من نفسها، وفي اللحظة دي محمود لاحظ إني مبحلق في المقصورة، عشان كِدَه قال لي:
_بتبُص وراك ليه يا مازن؟
في الوقت دَه عيني كانت على جهاز القلب والإشارات اللي بتظهر على شاشته، وبدون ما أشيل عيني من عليه قُلت له:
_اقف على جنب يا محمود.
بدون ما يسألني عن السبب بدأ يهدّي، بعدها وقف على جنب، فتحت باب العربية بدون ما أتكلم معاه ونزلت، مشيت لحد باب المقصورة وفتحته، وقفت قدامها وأنا مبحلق فيها وهيَّ فاضية، مأخدتش بالي إن محمود نزل ورايا غير لمّا قال لي:
_بتعمل إيه؟
مرفعتش عيني عن جهاز القلب، مش لأني لسّه مركّز مع الإشارات اللي بتظهر، بالعكس، الجهاز كان مقفول ومَفيش أي إشارات ظاهرة عليه، وده اللي خلَّاني أدخل في حالة من الذهول، وبرغم كِدَه جاوبت على محمود وقلت له:
_الأجهزة كانت شغّالة وكأنها واصلة في مريض.
بمجرَّد ما قُلت كِدَه محمود بص لي، فضل ينقل عينيه بيني وبين المقصورة الفاضية، بعدها قال لي:
_يظهر إن نبطشيّة الليل مأثّرة عليك يا زميلي، وبعدين أنا عاذرك، البلاغ الفِشِنك اللي خلَّانا نجري على الطريق في الفاضي يبرجل النافوخ.
كنت في موقف محدّش يحسدني عليه، عشان كده اخترت إني أسكت، لأني مَلقتش كلام يبرر اللي حصل، وفي نفس الوقت. كنت واثق إن اللي شُفته حقيقة، أصل محصلش إني شُفت حاجة وكانت هلاوس أو وهم قبل كِدَه.
قفلت باب المقصورة ورجعنا على الكبينة، كملنا طريقنا وكل واحد فينا مكانش بينطق، نور الفلاشر الأخضر كان بيكسر العتمة من حوالينا، وبعد ما مشينا مسافة طويلة في هدوء، سمعنا صوت كُحة شديدة، محمود وقف بالعربية وبصّينا لبعض شويّة، ساعتها سمعنا صوت الكُحة جاي من المقصورة، بصينا من الفتحة الإزاز، المقصورة كانت فاضية والأجهزة مقفولة، في اللحظة دي محمود قال لي:
_أنت سامع ولا أنا اللي بيتهيَّألي؟
ولأني كنت واثق إني سمعت الصوت قُلت له:
_مُش بيتهيّأ لك ولا حاجة. أنا سامع صوت حد بيكُح في المقصورة.
الصوت اختفى فجأة، انتظرنا كام دقيقة والصوت مظهرش تاني، دَه اللي خلَّى محمود يتحرَّك بالعربية، ولحد ما وصلنا الوحدة مفيش حد اتكلّم مع التاني، ولمَّا نزلنا من العربية؛ لقينا عم بسيوني واقف قدّام باب الوحدة، كان مِقنفِد من البرد وغرقان في الجاكيت اللي لابسه، ولمَّا قرَّبنا منُّه بَص لمحمود وقال له:
-إيه الحكاية بالظبط؟
محمود رَد وهوَّ متوتَّر وقال له:
-أكيد بلاغ وهمي يا عم بسيوني، الطريق مافيش عليه حوادث.
عم بسيوني معلَّقش على كلامنا، أخد بعضه ودخل على مكتبه، وإحنا مشينا ورا بعض ودخلنا المكتب اللي بنقعد فيه، وساعتها محمود طلَّع أمر التحرّك من جيبه وحطّه قدامه على الترابيزة، عيني وقعت على رقم 105، إحنا كنّا في المكان الصح فعلًا، لكن في حاجة غلط محدش فاهمها، دَه اللي خلَّاني أقول لمحمود:
-تفتكر إشمعنى الكيلو 105 بالتحديد اللي اتبلَّغ إن في حادثة عنده؟
-أكيد لو بلاغ وهمي زي ما بنقول يبقى اللي بلَّغ خَبَط أي رقم وخلاص. وبعدين شاغل بالك بالموضوع ليه؟ ما إحنا ياما وصلنا بلاغات فشِنك وطلعنا على الطُرق ورجعنا. كبَّر دماغك يا عم مازن.
مَعرفش ليه دوَّرت كلامه في دماغي واقتنعت بيه، وساعتها قفلت باب الكلام في حكاية البلاغ، وبرغم كِدَه الباب كان فيه ثغرة، والثغرة دي تخُص اللي حصل في مقصورة المرضى لمَّا الأجهزة اشتغلت من نفسها، ولمَّا سمعنا صوت حد بيكُح جوَّاها، لكنّي ما اتكلّمتش في أي حاجة تخُص الحكاية دي، خصوصًا إن محمود هوَّ كمان مجابش سيرتها.
تاني ليلة وصلت الوحدة قبل نبطشيِّتي بكام دقيقة، الاتنين اللي في النبطشيّة اللي قبل منّي سلّموني ومشيوا بمجرَّد ما شافوني، لأن البرد في الليلة دي كان تجاوز مرحلة التلج، لدرجة إن جسمي كلّه كان بيرتجف، وسمعت صوت أسناني وهيَّ بتخبَّط في بعضها من الرجفة..
قفلت باب المكتب وجريت على سخّان الشاي، ولَّعت على البراد ووقفت جنبه وأنا مقرَّب إيدي عشان أفِك صوابعي اللي كانت قرَّبت تتجمِّد، ساعتها الباب اتفتح، وسمعت صوت محمود بيقول لي:
-إيه حكايتك مع الشاي؟ ومتسألنيش تاني ولا تقول لي أعمل لك كوباية معايا، لمَّا سألتني السؤال دَه ليلة امبارح، طلعنا بعدها اتمرمطنا في البرد على الطريق وكل ده كان في الفاضي.
ماصدَّقت إن باب حكاية ليلة امبارح اتوارب، استغلّيت الفرصة وسألته بدون تردُّد:
-تفسَّر بإيه صوت الكُحَّة اللي سمعناها في مقصورة عربية الإسعاف ليلة امبارح؟
بصّيت له وأنا بسأله عشان أشوف رد فعله، ساعتها حسّيت إن وشُّه اتغيَّر وكأنّي نَكَشت منطقة في ذاكرته مكانش ينفع أقرَّب منها، ساعتها رَد عليّا وقال لي:
-أنا مش واثق إن كان اللي سمعناه صوت كُحّة ولا حاجة تانية.
استغربت ردُّه، عشان كِدَه ردّيت عليه وقُلت له:
-حاجة تانية إزاي يعني؟
-جايز مشكلة في عفشة العربية ولا في الشَّكمان هيَّ اللي عملت الصوت دَه، وبسبب الدوخة اللي كنا فيها ليلة امبارح اتهيَّأ لنا إنها كُحّة.
عرفت من نبرة صوته إنه بيحاول يتجاوز مَطب الخوف اللي قدَّامه، لأن نبرته كانت مهزوزة وهوَّ بيحاول يقنع نفسه باللي بيقوله قبل ما يقنعني، دَه غير نظراته اللي كانت رايحة جاية وكأنّه خايف يبُص في وشّي فترة طويلة عشان ما اكتشفش إنه بيحوَّر، دَه اللي خلَّاني أقول له بقلب جامد:
-أنت بتضحك على نفسك يا محمود، بَس أنا بقى مش هعمل زيَّك، أنا فعلًا سمعت صوت حد بيكُح. أقول لَك على حاجة أكتر من كِدَه، أنا متأكّد إن الأجهزَّة اللي في مقصورة المرضى كانت شغَّالة، وكمان واثق إن اللي حصل ليلة امبارح مش مجرَّد بلاغ وهمي، في حاجة مش مفهومة بتحصل، ولو مظهرتش دلوقت، هتظهر بعدين.
معرفش ليه مردِّش عليّا، فسَّرت سكوته على إنه مصدَّق كلامي ومقتنع بيه، بدليل إنه مَعترضش عليه ولا حاول يعارض كلمة من اللي قُلتها.
صوت الشاي اللي فار من البراد ونزل على السَّخان خلاني أفصِل كلام، رفعت البراد بسرعة وحطيته على الترابيزة، ساعتها قُلت لمحمود وأنا بحاول أفرِد ملامح وشُّه اللي تنَّحت من كلامي وقُلت له:
-الشاي فار وإحنا بنتكلّم في حتَّة كُحَّة، شكل اللي فاضل في البراد هيعمل كوبّاية واحدة وهنقعد نخمِّس فيها.
ملامحه اللي فضلت محتفظة بجمودها خلَّتني أتأكّد إن كلامي صح، محمود متأكِّد إنه سمع صوت حد بيكُح في المقصورة وبيحاول يقنع نفسه بحاجة عكس الحقيقية؛ لكنه مش عارف يعمل ده، عشان كِدَه صبِّيت كوباية الشاي وقعدت، وبعدها قُلت:
-هتقضّي النبطشية واقف ولا إيه؟
سحب كرسي ناحية الترابيزة وقعد، محبِّتش أكسر الصمت اللي كان مسيطر عليه، لكن بعد شويَّة لقيته بيقول لي:
-في أوّل أيام ليَّا في الوظيفة دي، كُنت ماسك نبطشيّة في وحدة إسعاف في مكان تاني، في الأيام دي الجَو كان تَلج برضه، وفي نُص الليل وإحنا قاعدين وصلنا بلاغ عن حادثة، ولمَّا طلعت مع المسعف اللي معايا ووصلنا المكان؛ لقينا عربية مقلوبة على جنب الطريق، والسواق اللي فيها نُصُّه طالع من الشبّاك وميِّت، وزي ما أنت عارف، بلَّغنا الشرطة وانتظرنا إنها تيجي تعاين وتأمر بنقل الجثة للمستشفى، بس بمجرَّد ما بلَّغنا الشرطة ولفّينا وشّنا للحادثة مالقيناش الجثة.
كلامه لفت انتباهي وخلَّاني أنسى كوبّاية الشاي اللي كانت قرَّبت تبرد، ساعتها ردّيت عليها وقُلت له:
-الجثة هربِت ولا إيه؟
-مافيش جثة بتهرب يا مازن.
-أومّال إيه الحكاية؟
-الحكاية وما فيها إن الجثة اختفت، دَه غير إن العربية نفسها مكانها اتغيَّر، كانت في الرمل بعيد عن الأسفلت وعليها أثار حريق، ولمَّا الشرطة وصلت وشافت الوضع، عرفنا إن العربية دي عملت حادثة من فترة، اتقلبت وولعت والسواق اللي فيها مات، حادثة قديمة يعني.
طريقة كلامه مكانتش بتقول إنه بيسرح بيّا، ودَه اللي خلَّاني سألته:
-طيِّب والرقم اللي وصلكم منُّه البلاغ؟
-لمَّا اتصلنا عليه كان غير موجود في الخدمة.
-والمُسعف اللي معاك، والمفروض إنه أقدم منَّك وأكيد عنده خبر بالحادثة اللي حصلت؟
-لمَّا خرجنا كان فاكر إنها حادثة تانية حصلت في نفس المكان، أصله كان منحنى طريق والأماكن اللي زي دي بتحصل عليها حوادث كتير، يومها مكانش مستوعب اللي حصل برضه، بَس علَّق على الحكاية وقال: "الدنيا فيها كتير؛ والطُرق بالليل مليانة حكايات صعب إن عقل الواحد يستوعبها لو بيشتغل في مهنة غير مهنتنا".
لحد ما محمود خلَّص الحكاية، ماكنتش قادر أوصل للسبب اللي خلَّاه يحكيها، خصوصًا إن من وقت ما جيت هنا وإحنا قاعدين فاضيين والليل طويل، يعني كان قدَّامه مُتَّسع من الوقت يحكي حكايات أكتر من دي كمان عشان يحرق الوقت، لكن فعلًا؛ الشيء بالشيء يُذكر، واللي حصل ليلة امبارح هوَّ اللي حرَّك ذاكرة محمود وخلَّاه يفتكر، وكمان حرَّك لسانه وخلَّاه يحكي.
المشهد ده انتهى وستارته نزلت على رنة التليفون في مكتب عم بسيوني، عن نفسي قلبي وقع في رجلي، وعرفت إن إحساس محمود كان نفس إحساسي لمَّا عين محمود وسعت من الخوف وهوَّ بيبُص لي.
بعد ثواني صوت الرنة اختفى، بعدها سماعة التليفون اترفعت، ومعاها ظهر صوت عم بسيوني وهو بيسأل حد عن المكان، وده معناه إن في بلاغ جديد عن حادثة.
بعد ما المكالمة انتهت سمعنا خطوات عم بسيوني وهو بيقرَّب من المكتب، والباب اتفتح، ساعتها شُفنا عم بسيوني، كان في إيده ورقة أمر تحرُّك، قرَّب من الترابيزة اللي قدامنا وساب عليها الورقة، وبدون ما يتكلّم لَف وشُّه ومشي، في اللحظة دي بحلقنا في الكلام المكتوب، واتصدمنا لمَّا لقينا مكان البلاغ في الكيلو 105.
بصّيت ناحية محمود وانتظرته يتكلّم، اتفاجئت إنه قام من مكانه وراح ناحية مفتاح عربية الإسعاف، استغربت رد فعله، افتكرت إنه هيرفُض أو على الأقل هيعترض بالكلام على اللي بيحصل، ساعتها قلت له:
_أنت بتعمل إيه؟
مد إيده ومسك مفتاح العربية، بعدها سحب كوفيّة صوف دايمًا بيكون سايبها جنب المفتاح، بعدها قال لي:
_زي ما أنت شايف، بَجهَز عشان نتحرَّك.
_نتحرَّك على فين؟ الكيلو 105؟ مش كفاية اللي حصل معانا ليلة امبارح هناك؟
لَف الكوفيَّة حوالين رقبته وبعدها رد عليّا وقال:
-وأمر التحرُّك اللي قدامك ده هتعمل فيه إيه؟ هتخالفه وتعرَّض نفسك للمسئولية؟
-ما إحنا نفّذناه امبارح وطلعنا وشُفت بنفسك اللي حصل، وبما إنه نفس الوقت ونفس المكان أعتقد مافيش حاجة هتتغيَّر عن ليلة امبارح.
-خلاص، بما إني أقدم منَّك في الشغلانة، يبقى أحب أقول لك إن أحسن حاجة إننا نطلع، وهناك بقى يحلها ربّنا، لو لقينا حادثة فعلًا يبقى عملنا شغلنا وأنقذنا روح بني آدم، ولو اللي حصل ليلة امبارح اتكرَّر، يبقى برضه عملنا شغلنا وريَّحنا ضميرنا.
لقيت نفسي بتجاوب معاه، مديت إيدي أخدت أمر التحرَّك من على الترابيزة، حطيته في جيبي واتحرَّكت وراه ناحية الباب، خرجنا من المكتب ومشينا ناحية عربية الإسعاف، لمَّا ركبنا محمود دوَّر العربية، وانتظرنا دقيقتين على ما الماتور يسخن، بعدها اتحرَّكنا ناحية الكيلو 105.
الطريق كان هادي ومفيش حاجة غريبة حصلت، حتى محمود كان دايس بنزين على الآخر، وكأنه واثق إن في حادثة فعلًا عند الكيلو 105، وإن في هناك حد مُصاب وبينازع وروحه متعلَّقة بين الحياة والموت وكل ثانية بتفرق مع حياته.
بمجرَّد ما وصلنا المكان لقينا عربية مقلوبة، وجنبها لقينا عربية واقفة وفي واحد واقف جنبها، كل ده كان ظاهر في ضوء فلاشر الإسعاف اللي كسر عتمة المكان، ساعتها نزلنا من العربية، محمود راح ناحية العربية المقلوبة وأنا مشيت ناحية الشَّخص اللي كان واقف، واللي غالبًا هوَّ اللي بلَّغ عن الحادثة، ولمَّا وصلت عنده قال لي:
-كُنت ماشي على الطريق ولقيت العربية مقلوبة، ركنت ونزلت أشوف فيها حد مُصاب ولا لأ، وفعلًا لقيت فيها واحد لسَّه فيه الروح، حاولت أفتح الباب واسحبه من برَّه، لكن حديد العربية مطبَّق والبيبان مش بتفتح، عشان كِدَه بلَّغت، كويّس إنكم متأخَّرتوش.
وقفت أسمعه وأنا بقول في نفسي: كويّس إن اللي حصل ليلة امبارح مُش بيتكرَّر، وبعد ما خلَّص كلامه قُلت له:
-أحسن شيء عملته إنَّك بلَّغت، أنت أصلًا مَينفعش تحرَّك حد عامل حادثة أو واقع من ارتفاع عالي، وارد جدًا يكون حصل عنده كسور وأي حركة غلط ممكن تضاعف من الكسور دي، والنتيجة إنه ممكن يتعرَّض لعاهة مزمنة أو إنه يفقد حياته تمامًا.
على ما ردّيت عليه كان محمود خلَّص معاينة العربية ووصل عندنا، ساعتها قُلت له:
-إيه الأخبار؟
-السواق لسَّه عايش، بس البيبان مُش بتفتح.
-ومستني إيه ما تبلَّغ.
-كدَه أو كِدَه إحنا لازم نبلَّغ الشرطة زي ما أنت عارف، وأنا عملت دَه لمَّا حاولت أفتح أوّل باب ومَفتحش معايا، وطلبت منهم يكون معاهم حد من الدفاع المدني عشان يخرَّج السواق.
مفاتش وقت طويل، يادوب ربع ساعة ولمحنا فلاشر عربيات الشرطة وهي بتقرَّب علينا، ولمَّا وصلوا رجَّالة الدفاع المدني قامت بالواجب وفتحت باب العربية اللي جنب السواق، وساعتها أنا ومحمود طلَّعنا النقّالة من عربية الإسعاف وحطيناها على الأرض جنب العربية المقلوبة، بعدها طلَّعنا السواق المُصاب بكل حذر، حطيناه فوق النقّالة ورفعناها وأخدناه على الإسعاف بعد ما الشرطة طلبت منّنا ننقله للمستشفى.
قعدت في المقصورة مع المُصاب وقفلت الباب عليّا، محمود اتحرَّك بالعربية، ساعتها فتحت الإزاز اللي ما بين المقصورة والكابينة، بعدها اتكلِّمت مع محمود وقُلت له:
-حاول تدوس بنزين شويّة.
مكدِّبش خبر وداس بنزين بعد ما قال لي:
-خلّي بالك أنت بس من الحالة اللي معاك، شوف لو محتاج جهاز التنفّس.
-ما تشغلش بالك، أنا هعمل اللازم طبعًا.
ركِّبت للمُصاب جهاز التنفّس، بعدها وصَّلتُه بالجهاز اللي بيقيس نبضات القلب، والحمد لله كل شيء كان طبيعي، وبعد شويّة قُلت لمحمود:
-مَطلعش بلاغ وهمي ولا حاجة.
-حصل، بالك أنت بقى لو كنت سمعت كلامك ومطلعناش، كان زمان الحالة اللي معاك دي في خبر كان، والدنيا هتتقلب وهيقولوا إنها ماتت بسبب الإسعاف اللي ماستجبش للبلاغ.
خلَّص كلامه وسكت لثواني وبعدها كمِّل وقال...
-فعلًا يا أخي، ولاد الحرام مسابوش حاجة لولاد الحلال، بلاغ النهاردة كان ممكن يتّاخد بذنب بلاغ ليلة امبارح، بس المُصاب دَه لسَّه ليه عُمر.
-تفتكر العربية بتاعته اتقلبت ليه؟ أصلًا الكيلو 105 مافيش عنده مُنحنيات خطيرة تخلّيه يتقلب، والطريق نفسه هادي وفين وفين لمّا بيكون في عربية رايحة أو جايّة عليه، يعني لو زحمة ممكن نقول كان بيحاول يتجاوز عربية أو بيفادِي حد واتقلب، لكن الشكل العام كِدَه إنه اتقلب من نفسه.
-دَه على أساس يعني إني كُنت راكب جنبه وشُفت اللي حصل؟ جايز كان سايق بسرعة وفردة كاوتش ضربت منُّه فاتقلب، وبعدين القَدَر مُش محتاج كل اللي بتقول عليه عشان يحصل، يعني مكتوب له يتقلب عند الكيلو 105، مهما كان السبب إيه.
كلامه كان صح، عشان كِدَه سيبته يركّز في الطريق وبدأت أتابع حالة المُصاب، لكن الوقت فات والعربية كانت لسَّه ماشية، عشان كِدَه رفعت صوتي وأنا بسأل محمود:
-إحنا مقرَّبناش نوصل ولا إيه؟
محمود مردِّش عليّا، برغم إن الإزاز بين المقصورة والكابينة مفتوح، وصوتي كان عالي لدرجة إنه يقدر يسمعني بوضوح حتى لو كُنّا ماشيين في مكان زحمة ودوشة، عشان كِدَه رفعت صوتي أكتر وقُلت له:
-أنت ياعم بكلِّمك، أنت نسيت ودانك عند الكيلو 105 ولا إيه؟
كأنّي كُنت بكلِّم صَنم، كان باصص قدّامه ودايس بنزين وبَس، معرفش ليه قلبي اتقبض في اللحظة دي، حاولت أحافظ على هدوئي وأسيطر على ضربات قلبي اللي بدأت تزيد، قُلت: جايز بيفكَّر في حاجة. كل واحد فينا عنده اللي مكفّيه برضه وأحيانًا بيفكّر في مشاكله وبيسرح وينسى الدنيا، بَس لقيتني براجع نفسي وبقول: لكن مُش لدرجة إنه يفكّر ويسرح وإحنا على الطريق وهوَّ دايس بنزين بالسرعة دي، كِدَه هنتحوّل من جوز مُسعفين لجوز مُصابين في حادثة محتاجين عربية إسعاف تيجي تشيلهم، وبعد تفكيري دَه؛ لقيتني بقول له بصوت عالي:
-أنت نِمت يا محمود ولا حكايتك إيه؟
برضه مردِّش عليّا، وكأن في حاجز غير مرئي اتحط بيني وبينه خلَّاه يتعزل عنّي، لدرجة إنه مكانش سامعني برغم إني بتكلّم معاه من مسافة أقل من مترين.
فصلت تفكير في محمود وعدم ردُّه عليَّا لمّا سمعت صوت كُحّة في المقصورة، بصيت ناحية المُصاب اللي كان نايم فوق النقّالة وغايب عن الوعي، فضلت مركّز معاه لحد ما سمعت صوت الكُحّة من تاني، ساعتها اتأكّدت إنها مش من المُصاب، الصوت كان جاي من الكُرسي اللي جنبي، واللي بالمناسبة كان فاضي؛ لأن مَفيش غيري أنا ومحمود، هوَّ سايق وسرحان، وأنا على حطّة إيدكم، قاعد لوحدي في المقصورة وبتابع المُصاب عشان لو حصل أي حاجة طارئة ألحقُه.
لمَّا الصوت اتكرَّر اتفاجئت بصوت محمود جاي من الكابينة وكان بيقول لي:
-حاول تشوف المُصاب اللي معاك يا مازن، الكُحَّة دي غلط على الكسور.
صدمني بكلامه، ساعتها ردّيت عليه بنرفزة وقُلت له:
-أما أنت أمرك عجيب يا أخي! يعني بتكلّم معاك من ساعتها ومُش سامعني وسمعت صوت الكُحّة؟
أخدت صدمة أكبر لمَّا رد عليَّا وسألني:
-أنت اتكلِّمت معايا إمتى؟
محاولتش أعلَّق عليه، اخترت إني أسكُت لحد ما نوصَّل المُصاب اللي معانا وبعدها نبقى نشوف الحكاية دي.
صوت الكُحّة اتكرَّر من تاني، وبرضه محمود علَّق عليها، في الوقت دَه قُلت أجيبها لُه على بلاطة بقى، عشان كِدَه قُلت له:
-المُصاب غايب عن الوعي، يعني لا بيكُح ولا بيتحرَّك أصلًا، يادوب نفس داخل ونفس خارج، الصوت موجود في المقصورة ولحد دلوقت مش عارف مصدره.
لمَّا قُلت له كِدَه لقيت العربيّة بتهدّي، ساعتها بَص ناحيتي من الفتحة اللي ما بينّا وقال لي:
-أنت بتهزَّر مُش كِدَه؟
-شايف إن معانا مُصاب بين الحياة والموت وهيكون وقت مُناسب للهزار صح؟
-أومّال تُقصد إيه بكلامك؟
-معنديش تفسير أصلًا للحكاية دي، زي ما إحنا معندناش تفسير للي حصل ليلة امبارح، بَس اللي أنا فاهمه إن المُصاب دَه لازم يوصل للمستشفى مهما كان اللي بيحصل.
خلَّصت كلامي وسألته:
-لسَّه قد إيه على المستشفى؟
بلع ريقه وبعدها بَص قدَّامه وقال لي:
-المستشفى عند الكيلو...
كلامه اتقطع لحد هنا، عينيه فضلت رايحة جاية على الطريق، ساعتها قُلت له:
-أنت نسيت مكان المستشفى ولا إيه؟
رد عليَّا وهو مبحلق في نقطة معيَّنة على جنب الطريق وقال لي:
-المستشفى عند الكيلو 150.
-وإحنا دلوقت فين؟
-إحنا عدّينا الكيلو 160.
اتنرفزت عليه وقُلت له:
-معانا واحد بيموت وأنت بتهرَّج صح؟
رد عليَّا بلهجة واحد مصدوم وقال لي:
-أنا مُش بهرَّج، إحنا فعلًا عدِّينا المستشفى من غير ما أشوفها، ومتسألنيش إزاي ده حصل.
انتظرت ثواني وأنا بحاول أستوعب كلامه بعدها قلت له:
-والحل؟
-ما فيش غير إننا نرجع من أول يوتيرن.
وهوَّ بيكلّمني سمعنا صوت الكُحّة من تاني، في المرَّة دي اتأكّد من كلامي إن الصوت جاي من مصدر مجهول، يعني لا منّي ولا من المُصاب، وبرغم كِدَه بَص قدامه وكمّل طريقه، وأنا رجعت أركّز مع الحالة من تاني وأتجاهل صوت الكُحّة اللي بدأ يتكرَّر كتير.
رجعنا على الطريق ناحية المستشفى، وبعد كام دقيقة تليفوني رن، كان رقم الوحدة، بحلقت في الرَّقم وأنا بقول في بالي: زمان عم بسيوني هيبستِفنا بكلمتين على تأخيرنا.
أخدت نفس عميق ورفعت التليفون ناحية ودني وفتحت المكالمة، ساعتها سمعته بيقول لي:
-أنتوا فين يا مازن؟
-إحنا في الطريق للمستشفى يا عم بسيوني، خلاص داخلين عليها.
-يا مازن أنتوا كان المفروض توصلوا المستشفى من ربع ساعة، اللي بيحصل ده تهريج.
مردّتش عليه، سكوتي ساب فرصة لصوت الكُحّة إنه يظهر بوضوح في المقصورة، افتكرت إن عم بسيوني هيعلَّق عليه لأنه كان واضح وكان عندي ثقة إنه سمعه، لكنّه سكت لثواني وبعدها قال لي:
-وصلوا المُصاب في أسرع وقت يا مازن.
بعدها قفل المكالمة، ساعتها قُلت لمحمود.
-شِد حيلك شويّة، عم بسيوني اتصل وسمَّعني كلمتين مالهومش لازمة.
المرَّة دي وصلنا المستشفى، سلِّمنا المُصاب في استقبال الحوادث وأخدنا بعضنا ورجعنا على الوحدة، دخلنا المكتب اللي بنقعد فيه، محمود ولَّع السخّان على براد الشاي وجاب كوبّايتين حطهم على الترابيزة، بعدها حط مفاتيح عربية الإٍسعاف مكانها وشال الكوفيَّة من حوالين رقبته، قعدت وأنا دماغي وخداني مشاوير وبفكَّر في اللي بيحصل، ولمَّا محمود صَب الشاي وقعد قُلت له:
-أنت فاهم حاجة؟
-أنا أقدم منَّك في الشغلانة دي، اللي أفهمه إني أسعِف المُصابين في الحوادث، إنما بقى عملوا حادثة ليه ولا إيه اللي بيحصل بعد الحادثة دي مش شغلتي.
-تقصد يعني إن بقى عندك مناعة ضد الحاجات الغير منطقية عشان أنت قديم في المهنة؟
رفع كوباية الشاي على بُقّه وأخد منها شفطة وقال لي:
-أنا يا صاحبي تجاوزت مرحلة المناعة اللي بتتكلّم عنها، تقدر تقول بقى عندي تناحة من اللي شُفته.
ساعتها دماغي ربطت بين كلامه دَه وكلامه ليَا ليلة امبارح، عرفت إنه اتعرَّض لمواقف غامضة كتير، لدرجة تخلّيه فعلًا يتجاوز اللي بيحصل، وفي اللحظة دي، دماغي سرحت في حكايات مُسعفين كتير اشتغلت معاهم قبل ما آجي هنا، كانوا بيحكوا مواقف مشابهة للموقف اللي محمود حكاه، واللي كُنت بتعامل معاها باعتبارها مجرّد قصص؛ الغرض منها إنهم يسلّوا وقتهم مُش أكتر، ساعتها أنا كمان رفعت كوبّاية الشاي على بُقَي، أخدت شفطة عشان جسمي يدفى من التلج اللي شِربُه على الطريق، بعدها قُلت لمحمود:
-قصدك يعني إننا هنشوف من دَه كتير؟
مجاوبش سؤالي، لكنه سألني سؤال لأوّل مرَّة وقال لي:
-أنت كُنت بتشتغل فين قبل ما تيجي الوحدة؟
-عادي، اشتغلت في وحدات إسعاف بس جوَّه المُدن، ماكنتش بتعامل غير مع الحالات المعروفة، زي واحد جاله غيبوبة سُكر وطلبوا له الإسعاف، أو جلطة مثلًا، بالكتير حد وقع من بلكونة أو شباك الدور التاني أو التالت.
-يعني دي أوّل مرَّة تشتغل في وحدة إٍسعاف على طريق سريع؟
-بالظبط، لكن كان معايا ناس اشتغلت في وحدات إسعاف على الطريق، وكانوا برضه بيحكوا مواقف زي الموقف اللي أنت حكيته ليلة امبارح.
هَز راسه ومعلَّقش على كلامي، في الوقت دَه سمعنا خطوات جايّة ناحية المكتب، حطيت كوبّاية الشاي من إيدي وبصّيت ناحية محمود وقُلت له:
-عمَّك بسيوني جاي ناحيتنا، زمانه هيفتح الباب دلوقت ويسمَّعنا كلمتين مالهومش لازمة.
وفعلًا باب المكتب اتفتح، ساعتها عم بسيوني دخل، وبعد ما بَص لنا لثواني وهو ساكت، طلب منّنا أمر التحرَّك اللي عليه توقيع استقبال الحوادث، واللي بيثبت إننا سلّمنا المُصاب هناك.
استغربت إنه ما اتكلِّمش في حاجة، عشان كِدَه بعد ما خرج قُلت لمحمود:
-كنت فاكره هيقعد يشِد في القُماش ويجيب من بعيد وقُريّب ويعيش علينا دور المدير، لكنه أخد الورقة ومشي من سُكات.
-على فكرة عمَّك بسيوني ده رغم إنه هادي ومش بيتكلِّم وتحِس إنه شخصية غامضة وتخاف منُّه، لكنه طيّب وقلبه أبيض.
-أنت يابني مُسعف ولا مِطيِّباتي؟ إيه الدراما اللي طالعة منَّك دي؟
-يا عم لا دراما ولا دياولو، أنا بقول لك اللي فيها وخلاص.
وإحنا بنتكلِّم، سمعنا صوت خطوات عم بسيوني من تاني وهوَّ جاي ناحية المكتب، ساعتها بصِيت لمحمود وقُلت له:
-شكلُه جاي يقول لنا على حادثة تانية في الكيلو 105.
محمود ابتسم وقال لي:
-مَفيش حوادث متخافش، أصلًا تليفون مكتبه مَرنِّش.
باب المكتب اتفتح، ساعتها عم بسيوني وقف يبُص لنا في صمت، بصّينا لبعض ونظرة كل واحد فينا زي ما تكون بتسأل التاني: إيه الحكاية؟ وبعد ثواني من سكوته اللي خلَّى قلبنا يُقع في رجلينا نطق وقال:
-الحالة اللي وصَّلتوها المستشفى ماتت.
حسيت بمرارة بتجري في ريقي، ومعاها حسّيت بنغزة في ضميري، أنِّبت نفسي وقُلت: أكيد إحنا السبب.
انتظرت عم بسيوني يقول أي حاجة تانية مع الخبر، لكنُّه قفل الباب بكل هدوء ورجع على مكتبه، بصّيت لمحمود بصَّة طويلة، وساعتها قال لي:
-مالك يا مازن؟ بتبُص لي وكأنّي قتلت المُصاب.
-جايز لو كنت وصلت المستشفى بدري عن كِدَه كان اتلحق.
قام من مكانه ورد عليّا بعصبية:
-بقول لك إيه يا مازن، إحنا ياما وصَّلنا حالات وماتت بعد ما وصلت، وفي حالات كانت بتركب الإسعاف وهي في كامل وعيها وماشية على رجليها وبتموت بعد ما توصل المستشفى، الرَّاجل اللي مات عُمره خلِص لحد كِدَه، وجايز اللي حصل معانا دَه يكون بسبب إننا نوصل متأخَّر بعد فوات الأوان عشان مكتوب له يموت في الوقت ده، ماتحاولش تشييِّلني ذنب أنا ماليش فيه، الواحد فيه اللي مكفّيه يا أخي.
كلامه كان فيه شيء من المنطق، عشان كِدَه مردِّتش عليه، بدأت أقتنع فعلًا إنه مالوش ذنب في اللي حصل، وأعتقد لو كان حصل منُّه تقصير كان عم بسيوني اتكلّم معاه، لكن واضح إن أنا اللي لسَّه أخضر في الشغلانة ومحتاج أنشف شويّة وقلبي يجمد، عشان كِدَه قُلت له:
-خلاص يا عم روَّق، الأعمار بيدِ الله ومفيش حد بيموت ناقص عُمر.
محمود أخد وقت على ما بدأ يهدى ويرجع لطبيعته، ولمَّا حسّيت إنه راق سألته:
-عم بسيوني عرف منين إن المُصاب مات؟
ساعتها ضِحك وقال لي:
-أنا عرفت إن عمَّك بسيوني قديم في الوِحدة وماسكها من زمان، وبتوع استقبال الحوادث يعرفوه، أكيد كان بيتابع معاهم في أي حاجة وعرف الخبر، عمومًا خلينا في شُغلنا مالناش دعوة عرف إزاي.
في الوقت ده كانت دايرة التفكير اتقفلت في دماغي ووصلت لنفس نقطة البداية، بدأت أفكَّر من تاني في صوت الكُحَّة اللي بيظهر في مقصورة الإسعاف ومكانش له تفسير، عشان كِدَه بصيت لمحمود وقُلت له:
-برضه موصلناش لمصدر الصوت اللي بيظهر في الكابينة.
-شاغل دماغك ليه؟
-أومّال أشغل دماغي بإيه؟
-بأي حاجة غير إنَّك تفكَّر في أي شيء غريب مالوش تفسير. يا مازن كل مكان على الطرق السريعة عبارة عن حصّالة متحوِّش فيها حواديت كتير، دَه اللي أنا اتعلِّمته من شُغلي، وأنت بُكره هتوصل للمرحلة اللي أنا وصلت لها.
-قصدك يعني يبقى عندي تناحة زي حالاتك؟ برغم إني شُفت الخوف على وشَّك ساعتها.
-حاول ميظهِرش خوفه وقال لي:
-كِدَه أو كِدَه هتوصل للمرحلة دي، اسمع من أخوك الكبير، أنا بختصر عليك طريق طويل من التفكير. متحاولش تفتح حصّالة حواديتها مَتخُصَّكش، خصوصًا لو مفاتيحها مش معاك، عشان هَتتعب في الفاضي.
كان بيكلّمني وأنا سامع خطوات بتقرَّب، انتظرت باب المكتب يتفتح، لكن الخطوات وقفت قدّام الباب ومافيش حد فتح الباب ودخل، بصّينا لبعض، ولقيت نفسي بقول له بصوت واطي:
-عمك بسيوني بيتصنَّت علينا ولا إيه؟
مَلحقش يجاوب على سؤالي، عشان سمعنا صوت الكُحَّة إيّاها اللي بنسمعها في مقصورة الإسعاف، تجاوزت حالة الخوف اللي سيطرت عليّا، اتنفضت من مكاني ومشيت بخطوات سريعة ناحية باب المكتب، فَتحته وبصّيت في كل مكان، مكتب عم بسيوني كان مقفول، ولمحته قاعد على مكتبه من الشبّاك، وفي نفس الوقت، مكانش في حد قدّام مكتبنا، وبالمنطق، لو عم بسيوني رجع على مكتبه بعد ما لقى نفسه بيكُح وهوَّ بيتصنَّت علينا كان زماني سمعت صوت خطواته، زي ما سمعتها وهو بيقرَّب من مكتبنا، وكان زماني برضه سمعت صوت باب مكتبه وهو بيتفتح وبيتقفل، المنطق بيقول كِدَه، وبيقول برضه: لو افترضنا إنه عم بسيوني، أكيد صوته مش هيكون مُطابق للصوت اللي بنسمعه في مقصورة الإسعاف للدرجادي! في اللحظة دي بصّيت ناحية محمود وحكيت له عن اللي حصل، لكنّي اتفاجئت بكلامه لمَّا قال لي:
-ما قُلت لك يا صاحبي، ما تفتحش حصّالة الحواديت اللي فيها مَتخُصَّكش، أنت اللي هتتعب.
دخلت وقفلت باب المكتب، دماغي اشتغلت من تاني، الدايرة عمَّالة توسع، أحداثها بتتنقل وكأنها عدوى وانتشرت، من الكيلو 105 لمقصورة الإسعاف، ومنها للوِحدة نفسها.
النبطشيَّة انتهت وفضل تفكيري متعلَّق باللي بيحصل، ولحد ما بدأت نبطشيِّة الليلة اللي بعدها، وفي نفس الوقت اللي وصلنا فيه البلاغين اللي فاتوا قلبي اتقبض، بس لمَّا فات ربع ساعة ومافيش بلاغ وصلنا حسّيت براحة، لكن الراحة دي مادامتش كتير، لأن تليفون مكتب عم بسيوني رن وبعدها لقيناه داخل علينا المكتب بتاعنا وبلّغنا بحادثة جديدة، وعطانا أمر تحرَّك مكتوب فيه الكيلو 105، نفس تفاصيل الورقة اللي فاتت، اللي اختلف بس هوَّ التاريخ.
اتحرَّكت بدون أي نقاش، ودَه بسبب إن مبقاش عندي ثقة إن كان بلاغ وهمي أو حقيقي، الموضوع حصل مرّتين، وفي مرَّة كان وهمي والتانية كان حقيقة، والمرَّة دي الله أعلم هنروح نلاقي إيه.
لمَّا وصلنا الكيلو 105 لقينا عربية مقلوبة فعلًا، وكان جنبها عربيّة تانية وواقف جنبها واحد، المشهد كان بيتعاد للمرّة التانية، نفس التفاصيل بتتكرَّر، لكن في ضلمة الطريق قُلت لنفسي: "أكيد اللي هيلاقي حادثة هيقف بعربيته جنبها وينزل ويبلَّغ، يعني مافيش حاجة غريبة، حاول يا مازن مَتحلِّلش كل حاجة على إنها برَّه حدود المنطق".
المرَّة دي محمود هوَّ اللي راح ناحية الشخص اللي بلَّغ وأنا رُحت أشوف العربية المقلوبة، حاولت أفتح البيبان لكن الحديد كان مكلبش في بعضه، رفعت تليفوني وطلبت الشرطة وبلَّغتهم بكل التفاصيل، وانتظرتهم يوصلوا ومعاهم حد من الدفاع المدني، في الوقت ده رجلي أخدتني لحد محمود والشخص اللي واقف معاه، وبمجرَّد ما قرَّبت منهم لقيت نفسي ببُص للشَخص ده وأنا مذهول، وبمجرَّد ما شُفته بدأت أرجع لورا غصب عنّي، كل ده كان بيحصل وأنا شايف نظرته ليّا ووشُّه اللي كان عليه ابتسامة غامضة.
بعد ما بَص لي وابتسم لي أخد بعضه وركب عربيته ومشي، ساعتها وقفت في مكاني لحد ما محمود قرَّب منّي وسألني:
-مالك يابني؟
فضلت مبحلق في عربية الشَّخص ده وهي بتبعد وبتختفي في ضلمة الطريق، ساعتها قُلت له:
-دَه نفس الراجل بتاع ليلة امبارح.
في اللحظة دي محمود ابتسم وقال لي:
-وإيه المشكلة، جايز واحد بيروح شُغله بالليل وصادف إنه شاف الحادثتين وبلَغ عنهم.
حسّيت إني كنت في كابوس وحد صحَّاني منّه، لساني اتلجلج وأنا بحاول أبرَّر تصرُّفي؛ فقُلت له:
-أومّال ليه كان بيبُص لي وبيبتسم لي ابتسامة صفرا؟
-يا مازن، الرّاجل لا بَص لك ولا ابتسم ولا وشُّه راح ناحيتك أصلًا، كل الحكاية إني عرفت منُّه إنه شاف الحادثة وهوَّ سايق وبلَّغ عنها، ولمَّا وصلنا أخد بعضه ومشي، زي ما عمل ليلة امبارح.
وقفنا كلامنا لمَّا الشرطة وصلت، وبعد ما طلَّعنا المُصاب من العربية المقلوبة أخدناه في الإسعاف على المستشفى.
قعدت مع المُصاب في المقصورة كالعادة، كُنت بتابع حالته لحد ما وصلنا المستشفى، والمرَّة دي وصلنا من أوّل مرَّة، سلِّمنا المُصاب في استقبال الحوادث ورجعنا على وحدة الإسعاف، وأوّل ما دخلنا مكتبنا حطيت برّاد الشاي على السخان وأنا حاسس براحة غريبة إننا متأخَّرناش على المُصاب زي ليلة امبارح.
بعد ما شربنا الشاي قرَّرت أخرج أقف قدام الوحدة شويَّة برغم إن الجَو كان تلج، لكن حسّيت إني عايز أخرج من خنقة المكتب.
طلعت وقفت برَّه، ساعتها لمحت خيال ظاهر من إزاز باب مقصورة الإسعاف، رجلي أخدتني لحد هناك برغم إن كان جوّايا خوف رهيب، بس هزمت خوفي وقرَّبت من العربية عشان كان فاض بيَّا وعاوز أفهم اللي فيها وأرتاح، ساعتها اتخشِّبت في مكاني وأنا شايفه بيبُص لي من إزاز الباب، كان نفس الشخص اللي بلَّغ عن الحادثتين ووقف يبتسم لي نفس الابتسامة اللي محمود أنكرها وإحنا عند الكيلو 105.
معرفش فات قد إيه وأنا مبحلق في وشّه، والأكتر من كِدَه إني سمعته بيكُح وهو بيبُص لي، والكُحّة كانت مُطابقة للصوت اللي بنسمعه، لكن المشهد ده انتهى لمّا لقيت إيد بتمسكني من كتفي، قلبي اتقبض وجسمي اتنفض، بصيت ورايا ولقيته محمود اللي قال لي:
-هتفضل مبحلق في الإسعاف كتير؟
رجعت بصيت للإسعاف من تاني، وشُّه كان اختفى، محبِّتش أتكلّم في حاجة عشان محمود ميحسِّش إني خفيف، مشيت معاه ورجعنا على المكتب، وبعد ما قعدنا بكام دقيقة سمعنا خطوات عم بسيوني وهوَّ جاي ناحيتنا، ولمَا دخل علينا المكتب قال لنا:
-المُصاب مات.
قُمت من مكاني وأنا حاسس بحالة غضب غريبة وقُلت له:
-ليه مات؟ إحنا وصلنا المُستشفى في أسرع وقت.
ساعتها رَد عليَّا بكل برود وقال لي:
-أنتوا فعلًا وصلتوا في أسرع وقت، لكن هوَّ اتأخَّر في البلاغ، لأنه كان عارف إنكم مش هتعملوا زي المرَّة اللي فاتت وهتوصولوا في الميعاد.
حسّيت إن كلامه بيفتح غطا الحصّالة المقفولة على الحكاية، عشان كِدَه استغلّيت كلامه وقُلت له:
-هوَّ مين دَه وإيه حكايته؟
لمَّا سألت السؤال ده لعم بسيوني، لقيته بيقرّب من الترابيزة وبيسحب كُرسي وبيقعد في مكتبنا على غير عادته، وساعتها قال لي:
-أنا هتكلّم معاك كلمتين يا مازن عشان أنت غير محمود، دماغك بتشتغل كتير وده بيعمل إرهاق وضغط عليك، وشُغلنا بيحتاج تركيز ودماغ صاحية، الحكاية ومافيها إن في التوقيت ده من كل شِتا بيوصلنا بلاغات عن حوادث بتحصل في الكيلو 105، وأنتوا الاتنين جُداد وأوّل مرَّة تسمعوا عن اللي هقوله، من كام سنة وكنا في الشتا زي الأيام دي برضه؛ وصلني اتصال عن حادثة في نفس المكان، وساعتها خرج اتنين مُسعفين زي حالاتكم كِدَه، وبعد ما شالوا المُصاب في الإٍسعاف اتصاب بدور كُحَّة شديد ومات قبل ما يوصل المستشفى، وتقريبًا دي الحادثة الوحيدة اللي حصلت وقتها، ومن الشتا اللي بعده في نفس الأيام وصلني بلاغ عن حادثة وطلع وهمي، ومن بعده بدأ يوصلني بلاغ وهمي كل سنة وبعده بلاغ واتنين، كلهم في نفس المكان ونفس الرَّقم هوَّ اللي بيبلَّغ، والموضوع لمَّا اتكرَّر على مدار كام سنة شغل دماغي، ولمَّا سألت واحد حبيبي في شركة الاتصالات عن الرقم وعرفت اسم صاحبه، لقيته مطابق لاسم المُصاب اللي مات في الحادثة، دَه غير إن مُسعفين قبلكم اشتكوا إنهم بيسمعوا صوت حد بيكُح من وقت للتاني في الأيام دي جوَّه مقصورة الإسعاف، لكنهم عارفين كويّس إن الطُرق بيحصل عليها حاجات كتير بالليل، وعارفين برضه إن عربية الإسعاف بتشيل حالات ياما وفي ناس بتموت فيها، فمكانش فارق معاهم وبيتعاملوا عادي.
خلَّص كلامه وطلَّع ورقة جرنال قديمة من جيب الجاكيت بتاعه، حطيها قدامنا على الترابيزة، ولمَّا بصّينا فيها لقينا خبر وفاة شخص في حادثة، صورته كانت نفس صورة الشَّخص اللي شُفناه مرّتين عند الحادثة بعد ما بلَّغ عنها، وكان نفس الشخص اللي شُفته من إزاز مقصورة الإسعاف بيبتسم لي وبيكُح. عشان كِدَه سألته:
-قصدك الشخص اللي مات هوَّ اللي بيعمل كل ده؟
-الشَّخص اللي مات بقى في ذمة ربنا يا مازن، لا يقدر يعمل ولا يضُر ولا ينفع، أنا بتكلّم عن قرينه اللي ساكن المكان اللي الحادثة حصلت فيه، وفي نفس الوقت ساكن الإسعاف اللي روح صاحبه خرجت فيه، وأنا لمَّا وصلني البلاغ عرفت إن الحكاية بدأت، عشان كده سيبتكم تمشوا ورا البلاغ الوهمي عشان أتأكّد أكتر إن حكاية كل سنة بتتكرر.
-وليه بيعمل كل ده؟
-العلم عند الله، القرين شيطان ماكِر، والشياطين وراهم إيه غير أذى بني آدم.
خلَّص كلامه وسابنا وخرج، لكن بعد ما فتح بنفسه حصَّالة حواديت الطريق وعربية الإٍسعاف والوِحدة، ساعتها محمود بَص لي وقال لي:
-جالك كلامي يا صاحبي؟
هزِّيت راسي وقلت له:
-أنت صح يا محمود.
مَنطقتش بأكتر من كِدَه، دماغي كانت سرحانة في مكر الشيطان دَه، اللي سبقنا بخطوة عشان يتسبّب في موت الحالة، وبدل ما يخلّينا نغلط في المكان زي ما حصل، أخَّر البلاغ عشان لمَّا نوصل في ميعادنا نكون برضه وصلنا بعد فوات الأوان.
كانت أوِّل وأغرب حكاية اتعرَّضت لها من وقت ما اشتغلت في وحدة إسعاف على طريق سريع، أي نعم شُفت حاجات تانية غريبة كتير؛ لكن دي كانت أغرب حاجة شُفتها، وبما إني لسَّه موجود في نفس الوِحدة ومعايا محمود، وفي نفس الوقت قرَّبنا على الأيام اللي حصلت فيها الحكاية دي، فإحنا كل ليلة والتانية بنقعد في انتظار إن تليفون عم بسيوني يرِن بالبلاغ الوهمي، وبعدها يدخل يعطينا أمر تحرُّك، ويبلَّغنا إن في حادثة حصلت، وطبعًا يطلُب مننا إننا نتحرَّك بعربية الإسعاف ونروح عشان نبدأ من جديد الحكاية اللي بتحصل كل سنة في الوقت ده عند الكيلو 105.
تمت...





































