آخر الموثقات

  • قسم الحروق
  • تمرد الحب
  • الخريف .. لا أحبه
  •  أنثى في الهواء
  • الفيديو الحقير
  • ق.ق.ج/ رحيلُ البياضِ
  • ق.ق.ج/ جُرح الشجرة
  • الألم يعلّمنا: لا شيء يبقى كما هو
  • اليوم العالمي للغة الإشارة.. لغة القلوب التي لا تعرف الحواجز
  • العملية التعليمية في عهد النبي ﷺ
  • ما يفوق الأحلام
  • حين يزهر المطر وتبتسم القرية
  • هل دراسة التاريخ هي نفسها دراسة للآثار
  • خدش للصورة القاسية
  • رفض وصال..
  • أحبك بكل ما فيك ..
  • النور لا يُخطئ… من صدق في طلبه
  • تجريف الماضي
  • دب قطبي!
  • حتما ستمل
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شحاتة
  5. قسم الحروق

دلوقت بَس أقدر أتكلِّم وأحكي عن كل حاجة شُفتها، أصل من وقت ما دخلت المُستشفى دي عشان أقضّي أول سنة بعد الامتياز؛ حطّوني في قسم الحروق، من وقتها وأنا بشوف حاجات تشيِّب الراس، بَس الحكاية كانت أشبه بالسباحة، ممنوع تفتح بوقَّك طول ما راسك تَحت المَيَّه، ومش مسموح إنك تاخد نَفس غير لمَّا راسك تخرج برَّه، وأنا ماكنتش أقدر أتنفّس أو أفتح بوقّي طول ما أنا جوَّه..

الحكاية بدأت من وقت ما دخلت المستشفى دي لأوّل مرَّة، واعذروني لأني هحتفظ باسمها ومش هَجيب سيرته، ولا حتى هلمَّح عن مكانها لا من قُريِّب ولا من بعيد.

يومها دخلت الاستقبال بشنطتي وعرَّفتهم بنفسي، سألتهم عن مكتب مدير المستشفى، ساعتها سيبت الشنطة وطلع معايا واحد من المُمرّضين ووصَّلني لحد باب مكتبه، شَكرته قبل ما يسيبني ويرجع تاني على الاستقبال، وقفت مبحلق في اليافطة اللي على الباب، واللي مكتوب عليها "مدير المستشفى".

أخدت نفس عميق ومدّيت إيدي خبَّطت على الباب، وبعد ما سمعت صوت من جوَّه بيقول: اتفضَّل؛ فتحت الباب ودخلت، مشيت لحد الشَّخص اللي قاعد على مكتب فخم وقدامه يافطة مكتوب عليها "دكتور عبد الستار السبع"، شكله كان بشوش وباين عليه الوقار، قرَّبت منُّه وقُلت له:

-صباح الخير يا دكتور، مع حضرتك دكتور أيمن محمود علي، طبيب الحروق الجديد.

ابتسم لي وهوَّ بيقوم من على الكرسي، مَد إيده ناحيتي وقال لي:

-أهلًا وسهلًا يا دكتور، نوَّرت المستشفى.

بعدها رجع مكانه على الكرسي من تاني، شاور لي ناحية كرسي من اللي قدام مكتبه وقال لي:

-اتفضل استريَّح، يظهر طريقك كان طويل.

ابتسمت وشكرته على ذوقه، ولمَّا قعدت رفع سماعة التليفون وطلب لي عصير ليمون، بعدها قال لي:

-عندنا عجز في قسم الحروق، نبطشيّة الليل مفيش فيها حد، عشان كِدَه بعتنا للإدارة الصحية يوفروا لنا دكتور.

هزّيت راسي وأنا ببتسم وقلت له:

-إن شاء الله أكون عند حُسن ظن حضرتك.

قطعنا الكلام لمَّا باب المكتب اتفتح، بعدها دخل واحد شايل صينية عليها عصير ليمون وكوباية مَيَّه، حطها قدامي وأخد بعضه وخرج وقفل الباب وراه، بصّيت لمدير المستشفى؛ اللي شاور لي ناحية الصينية وقال لي:

-اشرب ليمونك يا دكتور.

بدأت أشرب وهوَّ بدأ يكمل كلامه ويقول:

-اللي جاب الليمون ده يبقى عمك سعيد، بيشتغل ساعي هنا في المستشفى، أكيد هتحتاج مكان تسكن فيه، هوَّ يقدر يخلَّص لك الموضوع ده، هوَّ دايمًا بيساعد الدكاترة والممرضين اللي بييجوا من أماكن بعيدة إنهم يلاقوا سكن، وأنا كمان هبلَّغه ميقصَّرش معاك.

خلَّصت الليمون وحطيت الكوباية وقُمت من مكاني، ومدير المستشفى رفع سماعة التليفون من تاني وطلب عم سعيد، وفي أقل من دقيقة دخل علينا المكتب، ساعتها المدير قال له:

-دكتور أيمن يا عم سعيد، جديد ومش من هنا، عايزك تشوف له سكن وتقوم معاه باللازم.

شكرت مدير المستشفى ومشيت مع عم سعيد، وبعد ما خرجنا من المكتب قال لي:

-منوَّر يا دكتور أيمن.

بصّيت له وقُلت له:

-بنورك يا راجل يا بَركة.

-حضرتك هتكون في أنه قسم إن شاء الله؟

-قسم الحروق، هكون في نبطشية بالليل.

حَركته وقفت فجأة زي اللي رجليه لزقت في الأرض، بَص لي في صمت وعينيه وِسعت وكأنه شاف عزرائيل قدامه، استغربت رد فعله، كمّلت كلامي وقلت له:

-عارف إن كلمة حروق تخُض، تقريبًا ده تاني أبشع قسم في المستشفيات بعد المشرحة.

معلَّقش على كلامي، اتحرَّك من مكانه وكمل طريقه، مشيت معاه ونزلنا السلم، بعدها أخدت شنطتي وخرجنا من المستشفى، وبمجرَّد ما خرجنا شاور لتوكتوك فاضي، ولمَّا ركبنا طلب منه يوصَّلنا منطقة كنت بسمع اسمها لأول مرَّة.

وصلنا بسرعة لأن المنطقة قريِّبة من المستشفى، نزلنا من التوكتوك قدام بيت من خمس أدوار، صمّمت أدفع الأجرة، بعدها أخدني ودخلنا محل البقالة اللي في البيت، ساعتها اتكلّم مع البقال؛ واللي اتضح إنه صاحب البيت، عرفت منُّه إنه ساكن في بيت تاني وبيأجّر كل الشقق اللي في البيت ده، وإن في نُص دور فوق السطح عبارة عن أوضتين كل أوضة بحمّام، بيتأجروا لأي حد من برَّه بييجي يشتغل في المستشفى، أو في مدرسة من المدارس اللي موجودة. عم سعيد اتكلم معاه وقال له إني هأجَّر الأوضة الفاضية اللي على السطوح، وإني هدفع الأجرة من نهاية الشهر زي الناس اللي سكنت قبل كده عن طريقه.

أخدنا المفتاح وطلعنا فوق، ولما بقينا قدام الأوضة سألته عن عقد الإيجار، ساعتها قال لي إن الأوض دي بتتأجَّر من تَحت لتحت بدون عقد؛ لأن دَه مش دور رسمي.

سابني ورجع على المستشفى وطلب منّي أرتاح عشان أقدر أسهر في النبطشية، فتحت الأوضة وأخدت شنطتي ودخلت، قفلت الباب ورايا وفتحت النور، بصّيت بصَّة سريعة في الأوضة، كانت معقولة والسرير اللي فيها ماشي حاله، ركنت شنطتي ومددت على السرير، عيني راحت في النوم ومفوقتش غير على أذان المغرب، قُمت أخدت دُش وصلّيت وغيَّرت هدومي، والوقت اللي الفاضل كان يادوب ألحق أوصل فيه المستشفى.

نزلت وركبت توكتوك ووصلت المستشفى على الميعاد، وفي الرسيشبن لقيت اسمي موجود في دفتر الحضور والانصراف، مضيت قدامه لأول مرة وبعدها طلعت على قسم الحروق؛ اللي بالمناسبة كان آخر دور في المستشفى، كنت الدكتور الوحيد اللي في النبطشية ومفيش معايا غير كام مُمرّض، المسؤول عنهم كان اسمه طلعت، وبعد ما اتعرَّفت عليه واتكلمنا وعرفت منه الحالات اللي في القسم قُلت له:

-قوم بينا نلِف لفَّة على الحالات عشان نشوف أخبارها إيه.

من هنا بدأت شغلي بشكل رسمي، لفّينا على الحالات اللي كان عددهم أربعة، حالتهم كانت حرجة جدًا وشِبه ميئوس منها، لأن اللي بيتحجز في قسم الحروق بيكون حالة محتاجة رعاية مكثَّفة، أو حالة ميئوس منها، لكن على أي حال بروتوكول العلاج لكل حالة كان مظبوط والأدوية اللي ماشيين عليها مش محتاجة تغيير.

بعد ما خلَّصنا الجولة بتاعتنا رجعت مكتبي، والممرضين رجعوا على الأوضة بتاعتهم، ومنهم اللي راح في النوم كمان، الوقت كان بيفوت ببطء، حسيت بملل شديد، قرَّرت أقوم وآخد لفَّة على الحالات حتى لو كانت في غير ميعادها، لكن بمجرَّد ما قُمت من على الكرسي لمحت خيال حد واقف برَّه المكتب، كان ظاهر من تَحت عقب الباب، استغربت الحكاية، أصل برغم الهدوء اللي في القِسم، واللي حرفيًّا الواحد ممكن يسمع فيه دَبِّة النملة، لكني مَسمعتش أي حد ماشي في الممر برَّه. حاولت أقنع نفسي وأقول: عادي، جايز أكون سَرحت ولو للحظات ومَسمعتش، وبرغم كِدَه فضلت مستغرب حالة الجمود اللي مسيطرة على الشخص اللي واقف برَّه، بَس برضه قُلت جايز مُمرِّض جاي عايز حاجة ومُتردِّد يكلّمني؛ لأني جديد هنا ومش واخد عليا، فضلت واقف على أعصابي وعيني على خيال الرّجلين من تحت عقب الباب، انتظرت اللي واقف برَّه يخبَّط، ده اللي المفروض أي حد يعمله قبل ما يفتح الباب، لكن اللي حصل غير كِدَه، أوكرة الباب بدأت تتحرَّك ببطء شديد، فضلت مبحلق فيها لحد ما اتحرَّكت للآخر وسمعت تَكّة لسان الباب، بعدها الباب بدأ يتفتح بنفس بُطء الأوكرة، اللي اختلف صوت التزييق اللي كان بيرن في القسم كله وله صدى مُخيف، ولمَّا الباب اتفتح شُفت قدامي مَريض، كان واقف بالشَّاش اللي ملفوف حوالين جسمه ودماغه ومَراهِم الحروق طَابعة فيه، مكانش ظاهر منُّه غير عينيه ومناخيره وبوقّه، دي كانت أوّل مرَّة أشوف مريض حروق في الحالة دي بيقوم ويمشي وبيروح للدكتور بنفسه، الموقف خلَّاني أفكَّر أجازي فريق التمريض اللي نايم في العسل وسايب حاجة زي دي تحصل، اتحرَّكت من مكاني عشان أروح أشوف إيه الحكاية، لكن مع أوّل خطوة الباب بدأ يتحرَّك، المرَّة دي كان بيتقفل بنفس البُطء اللي اتفتح بيه!

اتمسمرت في مكاني، وقفت متنَّح وأنا حاسس إن ملامح المريض بتبتسم من ورا الشَّاش، تقريبًا كنت بفكَّر في كل حاجة في وقت واحد: إزاي الحالة بتعمل كِدَه؟ وإزاي الباب بيتقفل من نفسه؟ 

الباب اتقفل من غير ما أوصل لإجابة، جَن جنوني وجريت عشان أفتح الباب وأفهم الحكاية، لكن لمَّا فتحت الباب مالقتش أي حاجة، المريض اختفى وكأنه اتبخَّر، عيني جابت الممر من أوّله لآخره ومكانش له أثر، أخدت بعضي ورُحت على أوضة التمريض، لمَّا دخلت لقيتهم رايحين في النوم، قرَّبت من طلعت وهزّيته في كتفه، رفع راسه ناحيتي، ولمَّا شافني قدامه اتنطر وقام من مكانه وقال لي:

-تحت أمرك يا دكتور.

رفعت إيدي قدام وشُّه عشان مايكتَّرش في الكلام ويصحّي باقي التمريض، شاورت له يحصَّلني برَّه الأوضة، خرجت وانتظرته، ولمَّا خرج ورايا قُلت له:

-تعالى معايا نلِف على الحالات.

بَص في ساعة إيده وبعدها قال لي:

-لسَّه بدري على ميعاد المرور يا دكتور، وبعدين إحنا كنّا عندهم من ساعة والدنيا تمام، في حاجة حصلت ولا إيه؟

محبِّتش أحكي عن حاجة، لكني أصرِّيت إننا نمُر، مقدرش يكسَّر كلامي، مُجبرًا مشي ورايا، دخلنا العنبر اللي كان فيه الأربع حالات، كل اللي عملته إني بصّيت بتركيز في كل حاجة، ساعتها اكتشفت حاجة غريبة، المريض اللي شُفته مكانش موجود في الأربعة، أي نعم كلهم ملفوفين في شاش ومش باين من ملامحهم حاجة، لكن قدرت أقارن بين حجم جسمه وبين أجسام الحالات اللي قدامي، ومكانش في أي مقارنة.

صوت طلعت خرَّجني من ذهولي وهو بيقول لي:

-في حاجة أنت عاوزها يا دكتور؟

ردّيت بصوت هادي وقُلت له:

-أنت عارف بقى إن ده أوّل يوم ليَّا وعاوز أطمّن إن كل حاجة تمام.

-يادكتور وحّد الله، حضرتك عارف كويس أوي إن الحروق لمّا بتوصل للحالة دي المريض غالبًا مش بيعيش كتير، يعني كلها مسألة وقت، وكل الحكاية إننا بنرضي ضميرنا من ناحيتهم.

حطيت إيدي على بوقّه عشان يبطّل كلام وقُلت له:

-الله يخرب بيت الغباء.

بعدها شدّيته من دراعه وخرجنا من العنبر، ولمَّا طلعنا الممر قُلت له:

-أنت غبي ولا حكايتك إيه؟ في حد يقول قدام حالات بالشكل ده إنهم هيموتوا وإنها مسألة وقت!

-ماهي دي الحقيقة يا دكتور.

-مش كل الحقايق تنفع تتقال، لازم تختار تقول إيه وإمتى وفين وإزاي، ومن هنا ورايح لازم نراعي الحالة النفسية للمريض.

بَص لي وكأنه حَس بالذنب وقال لي:

-تحت أمرك يا دكتور.

حسّيت إني شدّيت عليه في الكلام، لكن حبّيت ألطَّف الجو فقُلت له:

-بالحق يا طلعت، أنت متأكّد إن مفيش في القسم غير الأربع حالات دول؟

استغرب كلامي وقال لي:

-يادكتور حضرتك استلمت كشف بالحالات المحجوزة في القِسم، مفيش غير الأربعة اللي موجودين، باقي العنابر فاضية، ما حضرتك سيد العارفين، مش بيتحجز غير الحالات الميئوس منها بَس.

هزّيت راسي بدون ما أعلَّق لأن كلامه هوَّ الواقع، أما اللي حصل معايا هوَّ اللي مش واقع ومالوش تفسير، بعدها طلبت منه يرجع أوضة التمريض لحد ميعاد المرور الجاي. 

أخدت بعضي ورجعت على مكتبي، قعدت ودماغي مشغولة وبسأل نفسي: إزاي شُفت اللي حصل وإيه تفسيره؟

مقدرتش أوصل لأي إجابة، الوقت فات بنفس البُطء والملل؛ لحد ما سمعت خبطة على الباب، ردّيت على اللي بيخبَّط وطلبت منه يدخل، ولمَّا الباب اتفتح؛ لقيت قدامي واحد من الاستقبال، وساعتها قال لي:

-في حالة حروق لسَّه واصلة الاستقبال يا دكتور، ياريت حضرتك تنزل ضروري.

أخدت بعضي ونزلت على تَحت، ولمَّا شُفت الحالة لقيتها بسيطة، واحدة سِت الزيت وقع عليها وهي بتحمَّر بطاطس، أي نعم الحرق كان من الدرجة التالتة؛ لكنُّه كان في الرجلين وبعيد عن الأماكن الحسَّاسة والدماغ وأي مكان ممكن يعمل خطورة، اكتفيت بإني كتبت لها على العلاج اللازم، وإنها تفضل 12 ساعة تحت الملاحظة وبعدها تقدر تروَّح بيتها؛ لأن الحالة لا تستدعي إنها تتجز في قسم الحروق.

لمَّا خلَّصت أخدت بعضي وطلعت على فوق، وصلت مكتبي وفتحت الباب، في المرَّة دي جسمي تلِّج ورجليّا كانت هَتهرب منّي، كُرسي مكتبي مكانش فاضي، دَه كان عليه مريضة ملفوفة في الشَّاش والمَرهم مبقَّع فيه، في اللحظة دي افتكرت كلام طلعت المُمرّض؛ لمَّا قال إن مفيش في القسم غير أربع حالات بس، وإن مفيش فيهم ستّات أصلًا، ده أنا كمان قرأت تقرير عن كل حالة؛ اللي شغّال في فرن عيش والنار مسكت فيه وحرقت جسمه بالكامل، واللي بيشتغل في بنزينة وحصلت فيها حريقة والنار مسابتش حتّة في جسمه سليمة، كل ده دار في عقلي وأنا بفكَّر في اللي بيحصل قدامي، حسّيت إن الحكاية بقت فوق طاقتي، فضلت مبحلق فيها لحد ما حسّيت بإيد بتخبط بهدوء على كتفي، نطّيت من مكاني وأنا ببُص ورايا، كان طلعت المُمرّض، أوّل ما لقاني اتفزعت قال لي:

-آسف يا دكتور لو أزعجتك، بس بكلّم حضرتك مردّتش عليّا.

معلَّقتش على كلامه، ولا فكَّرت كلّمني إمتى ولا إيه السبب اللي خلَّاني مسمعوش، كل ده لأنها كانت لسَّه قاعدة على الكرسي مكاني، دَه اللي خلَّاني أشاور ناحيتها وأقول لطلعت:

-شايف المريضة دي؟

طلعت برَّق لي وهو بيبُص ناحية الكُرسي وقال لي:

-فين المريضة دي يا دكتور؟

في اللحظة دي عرفت إن أنا بَس اللي شايفها، حسيت إني حطّيت نفسي في موقف مُحرج، ولمَّا طلعت حَس إنه أحرجني حَب يلطَّف الجو وقال لي:

-في مريضة بتغازل حضرتك ولا إيه يا دكتور؟

لمَّا لقيته بيهزَّر بصّيت له، بعدها بصّيت ناحية الكرسي من تاني، المرة دي لقيته فاضي، مَبقتش عارف أقول إيه، لكن طلعت كَسر الصمت اللي كنت فيه وقال لي:

-وحضرتك عرفت منين إنها مريضة مش مريض يا دكتور؟

استغربت سؤاله لأني حسّيت إنه بيتكلّم بجد، عشان كِدَه قُلت له:

-ليه بتسأل السؤال ده؟

-أصل كلهم هنا ملفوفين في شاش، حتى ملامحهم مش باينة.

-أظن يعني مش من الصعب الواحد يفرَّق بين تضاريس جسم الراجل وجسم الست، حتى لو ملفوفين في شَاش، وبعدين ليه بتسأل السؤال ده؟

-أصل رغم إن الكرسي فاضي، لكن عارف إنك كنت شايفها قاعدة قدامك.

حسّيت بكهربا في جسمي لمَّا سمعت كلامه، وفي نفس الوقت شُفت فيها مفتاح الصندوق اللي هيتفتح وهلاقي فيه تفسير اللي بيحصل معايا، عشان كِدَه قلت له:

-أنت لازم توضَّح كلامك دلوقت حالًا، تقصد إيه؟

-أقصد إني متأكّد من كلامك، ولمّا طلبت منّي نمُر على الحالات وبعدها سألتني عن حالة مش موجودة؛ عرفت إنك شُفتها، بَس في الحقيقة هُمَّا موجودين ومُش موجودين في نفس الوقت.

-ممكن تبطَّل ألغاز وتفهّمني تقصد إيه؟

-أقصد إن القِسم مليان بأرواح ناس كتير روحهم خرجت هنا، حالاتهم كان ميئوس منها وماتوا وهُمّا بينازعوا، وحضرتك عارف إن الحروق بتعتبر حوادث، واللي بيموت في حادثة بيمشي ويسيب أثر في المكان، قرينه يا دكتور بيفضل موجود وبيظهر من وقت للتاني، وياما ناس ماتت هنا.

ماكنتش قادر أقول له إنه بيخرَّف، لأن أنا اللي شُفت وهوَّ اللي فسَّر لي، لكن اكتفيت بإني سألته وقُلت:

-أنت بتشوف حاجات من دي هنا يا طلعت؟

ابتسم لي وهو بيقول لي:

-ياااه! بشوف حاجات من دي؟ صدقني بشوفهم أكتر من فريق التمريض اللي معايا، أومّال تفتكر ليه بنخلَّص المرور وندخل الأوضة نقعد فيها مابنخرجش؟ عشان بنشوفهم في الممر وفي العنابر الفاضية، وأحيانًا في أوضتنا، بَس تقدر تقول بقينا متعوّين على بعض، لا بيأذونا ولا بنعطيهم اهتمام، وبعدين متنساش حضرتك إن النبطشية بتاعتنا بالليل، يعني في توقيت الحاجات دي بتنشط فيه، أومّال ليه مفيش دكتور بيعمَّر في النبطشيَّة دي، ادخل يا دكتور مكتبك، واعمل حسابك إنك هتشوفهم كتير، متخافش منهم دول مش بيأذوا حد.

سابني ورجع على أوضتهم، وأنا أخدت بعضي ودخلت مكتبي، فضلت واقف جنب الشباك ومجاليش قلب أقعد على الكرسي مكان الحالة اللي شُفتها، معرفش ليه حسّيت دماغي اشتغلت بالمقلوب، عقلي استرجع أحداث كتير سمعتها عن أشباح بتظهر في المستشفيات والمشارح، وقناعتي عنها دايمًا إنها نتيجة تفكير ناس بتسرح بخيالها، حتى المستشفى اللي قضّيت فيها الامتياز مكانش بيحصل فيها حاجات زي دي في القسم، ولا جايز عشان أنا لسَّه جديد وكانوا مجزّأين القسم في المستشفى اللي فاتت، وكنت أنا في جزء حالات الحروق الخفيفة ومفيش فيه حد مات قبل كده، لحد ما جيت هنا وبقيت مسؤول عن كل الحالات واصطدمت بالواقع اللي المفروض هقضّي فيه سنة بحالها، أصل لأنّي جديد لازم آخد سنة كاملة في مستشفى هُمَّا اللي يختاروها، ومقدرش أغيَّرها قبل ما السنة دي تفوت.

دماغي مَفصلتش تفكير لحد ما النهار طلع، ساعتها عملت مرور على الحالات قبل ما أسلّم النبطشية، بعدها أخدت بعضي ونزلت، وعند الريسيبشن قابلت عم سعيد، أوّل ما شُفته افتكرت بصّته ليَّا والذهول اللي كان في ملامحه، ساعتها فهمت إنه كان خوف مش ذهول، قرَّبت منُّه وقُلت له:

-صباح الخير يا عم سعيد.

-صباح النور يا دكتور.

بعدها مقدرتش أقول حاجة، فضلت أبُص له بنفس الخوف اللي كان بيبُص لي بيه لحد ما قال لي:

-أنا هنصحك زي ما نصحت اللي قبل منك، أوعى تحكي لحد عنهم طول ما أنت موجود في المكان، أصل دي أسرار مرضى حتى لو المرضى دول ماتوا، ولو كشفت سرّهم وأنت في وسطهم هيغضبوا عليك.

كنت فاهم بيتكلّم عن إيه لكنّي عملت نفسي مش واخد بالي، لكنه كمّل كلامه وقال لي:

-في وقت من الأوقات كنت ساعي في المشرحة، سمعت حكايات ياما، وشُفت بعيني حاجات تشيّب الراس، لكن سمعت نصيحة من باشتمرجي بيشتغل هناك، قال لي أوعى تحكي عن اللي بتشوفه هنا، لأنهم هيبدأوا يأذوك، مفيش حد بيحب إن سرُّه ينكشف أو يتحكي عنه سواء حي أو ميّت، خصوصًا لو حكايته الناس هتمضغ فيها زي اللبانة أو هتسخر منها، ومن وقتها وأنا ماشي بالنصيحة دي، وأنت بنفسك قُلت لي إن قسم الحروق أسوأ حاجة في المستشفيات بعد المشرحة، أنا فاهم إنك بتتكلّم عن بشاعة الحروق والتشويه اللي بتعمله، لكن أنا فهمت كلامك بطريقة تانية؛ لأني افتكرت اللي كان بيحصل في المشرحة، وافتكرت اللي بيحصل في قسم الحروق هنا، أصل كان بييجي عليا وقت أشتغل في نبطشية الليل، ومن وقت للتاني كنت بطلَّع شاي في القسم فوق للدكتور، وشُفت بعيني اللي عرفت إنك هتشوفه لمَّا قُلت لي إنك في الحروق.

خلَّصت كلام مع عم سعيد وطلعت مضيت انصراف، خرجت من المستشفى وطلعت على الأوضة، ولمّا وصلت اترميت على السرير بهدومي، معرفش ليه حسّيت إنهم موجودين حواليّا، إحساس الخوف فضل مسيطر عليّا، غمَّضت عيني بالعافية ومَنمتش غير بعد وقت طويل، عشان أقوم من النوم على المغرب وأبدأ الحكاية من جديد.

من تاني يوم والحكاية بقت زي الفيلم اللي بيتعاد، حالة بتموت وبتدخل مكانها حالة تانية، أما هُمّا فكانوا بيظهروا وبشوفهم من وقت للتاني في الممر والعنابر، وكالعادة بشوفهم في مكتبي، ومش حالتين وبس؛ لأ، دَه عددهم بدأ يزيد، تقريبًا كِدَه أرواح أو قُرناء اللي ماتوا في القسم ظهروا وشُفتهم في الأيام اللي بعد كِدَه، لكن ماكنتش بحاول أهتم بوجودهم أو أتكلم عنهم حتى مع التمريض، وبقت حياتي عبارة عن جزءين، نبطشية في قسم الحروق طول ما أنا فيها جسمي بيشرب الخوف زي الاسفنجة، ونوم في الأوضة اللي مأجّرها مليان بالكوابيس اللي بشوفهم فيها، كل ده ولساني متلجّم وأنا واخد بنصيحة عم سعيد؛ لحد اليوم اللي قعدت فيه مع الدكتور عبد الستار مدير المستشفى وأنا بسلّم عليه عشان خلاص هسيب المستشفى وهمشي، واعتذرت له لمَّا طلب منّي أستمر معاهم؛ لكن بدون ما أحكي معاه في أي حاجة. أصل أنا خلاص كنت شايف واسطة تنقلني بعد السنة ما تخلص لمستشفى تانية متخصّصة في التجميل، لأني قرَّرت أبعد تمامًا عن الشغل في أقسام الحروق في المستشفيات العامة واللي بيحصل فيها.

-وإيه اللي خلَّاك تتكلم دلوقت وتحكي كل ده يا دكتور أيمن؟

-لأني خلاص مبقتش في وسطهم يا دكتور، لكنهم لسَّه في عقلي، صورهم مطبوعة في دماغي، أنا جوّايا خوف سنة كاملة ماكنتش قادر أتخلّص منُّه، حتى لمَّا غيَّرت مكان شغلي حاسس إنهم حوالين منّي.

-إحنا دكاترة وعارفين إن ده شيء طبيعي، أي نعم أنا نفساني وأنت دلوقت دكتور تجميل، بس أكيد تفهم حاجة زي دي، التراكمات مش بتروح مرَّة واحدة، دي بتاخد وقت طويل، الخوف دلوقت واخد مسار عكسي، وقتها كل ما كنت بتخاف كان بيتراكم جوّاك خوف جديد، لكن دلوقت كل ما بتخاف بيخرج من عقلك خوف كان متراكم فيه، الحكاية محتاجة شوية صبر، وفي نفس الوقت بلاش برضه تتكلّم عنهم.

-كلامك بيقول إنك بتؤمن بالأشباح والأرواح يا دكتور؟

-إجابتي على سؤالك هتكون على جزءين، أولًا عدم كلامك عنهم هيساعدك تنساهم، ثانيًا تقدر تقول الحياة خلّتني أؤمن بحاجات غصب عني، أنا كدكتور نفساني بتعدّي عليّا حاجات كتير، منها اللي بيكون ليه تفسير طبّي، ومنها اللي الطب بيعجز عن تفسيره، عايز أقول لك إن في حالات أنا شخصيًا فشلت أعالجها، ولمّا راحوا لشيوخ أو معالجين روحانيين اتعالجو. أنا أول مرَّة أقول الكلام ده، بَس اتجرّأت أقوله لمَّا جيت لي وحكيت لي حكايتك، أنت مخوفتش أقول عنَّك مريض نفسي، وأنا كذلك، أي نعم إحنا متخصّصين في الطب، لكن نظرياته وتطبيقاته العلمية مش بتغطّي كل حاجة في الكون، وأنت بنفسك اتأكّدت من حاجة زي دي، وعمومًا هكتب لك شوية أدوية مُهدّئة تاخدها، بس ياريت محدّش يعرف إنك جيت لي وبتاخد الأدوية دي، وأظن أنت فاهم ليه، الناس بتخاف من أي حد بيروح لدكتور نفساني، دول بيخافوا من الدكتور النفساني نفسه.

دي حكايتي؛ اللي حكيتها لدكتور نفساني رُحت له عشان أتخلَّص من أثر السنة اللي قضيتها في المكان دَه، ولولاه بعد ربنا ماكنتش هعرف أتخلَّص من أثر اللي حصل معايا، ودلوقت بحكيها تاني وأنا مطَّمن، بعد ما بقيت دكتور كبير وليَّا اسمي في مجال جراحة التجميل، وبعد ما ضمنت إني مش هرجع من تاني أشتغل في أقسام الحروق؛ اللي بتستقبل حالات ميئوس منها وبتموت فيها، وبتسيب مكانها أرواح وقُرناء وكل اللي حكيت عنه، والأهم من كل ده، إني اتجرَّأت أحكيها بعد ما اتأكّدت إنهم خلاص معادوش موجودين في عقلي، وإن دماغي فعلًا اتحرَّرت منهم.

تمت...

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↑1الكاتبمدونة غازي جابر
5↑1الكاتبمدونة خالد العامري
6↓-2الكاتبمدونة محمد شحاتة
7↑2الكاتبمدونة خالد دومه
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
10↑1الكاتبمدونة اشرف الكرم
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑41الكاتبمدونة مها اسماعيل 155
2↑14الكاتبمدونة نهاد كرارة194
3↑13الكاتبمدونة عبير بسيوني178
4↑11الكاتبمدونة هبة شعبان147
5↑11الكاتبمدونة خولة سعيدان171
6↑8الكاتبمدونة حنان الهواري112
7↑6الكاتبمدونة ابتسام محمد85
8↑4الكاتبمدونة يوستينا الفي71
9↑4الكاتبمدونة محمد جاد94
10↑4الكاتبمدونة رشا ماهر118
11↑4الكاتبمدونة نورا عماد131
12↑4الكاتبمدونة خالد عويس203
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1102
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي667
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني433
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة سمير حماد 406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب353077
2الكاتبمدونة نهلة حمودة207779
3الكاتبمدونة ياسر سلمي192093
4الكاتبمدونة زينب حمدي177107
5الكاتبمدونة اشرف الكرم139929
6الكاتبمدونة مني امين119198
7الكاتبمدونة سمير حماد 113748
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي104878
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين102812
10الكاتبمدونة مني العقدة99318

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

870 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع