أنا فتَّحت عيني لقيت نفسي هِنا، طارح من طين الأرض زي أي شَجرة أو زرعة موجودة في المَشتل، قايم نايم في المكان، ودني أخدت على صوت الضفادع اللي عايشة في الترعة، وصوت صرصار الحقل اللي ما بيصدَّق الليل يدخُل؛ عشان يظهِر موهبته التلقائية في العزف، باختصار؛ أنا جزء من كل حاجة هنا، ولو إن المَشتل مُش بتاعي، دَه مَشتل أبويا نوح، الراجل البَرَكة اللي ربنا مرزقوش بعيال، عشان كده اتبنَّاني وخلَّاني زي ابنه، خصوصًا إن أبويا مات قبل ما اتولد بشهرين، وأمي ماتت وهي بتولدني، وكان نصيبي إني أدخل الدنيا وأنا مقطوع من شجرة، لكن ربنا بيسبِّب الأسباب، بيقطع من هِنا وبيوصِل من هنا، النصيب جابني في طريق أبويا نوح، عيشت معاه في الاستراحة اللي بانيها في المشتل، خصوصًا إنه متجوِّزش بعد مراته الله يرحمها، لأن جوازه هيكون بدون فايدة لأنه مُش بيخلِّف، اعتبرني ابنه وبقيت أقول له "يابا"، ولما عودي اشتَد بقيت أتابع المَشتل مكانه، خصوصًا بعد ما بدأ يمرَض، جِسمه بدأ ينشف زي عود الحطب اللي اتخلع من جذوره واترمى في الشَّمس، وبَعد ما لَف على كُل الحُكَما مَلقاش عندهم حل للداء اللي سكن جسمه، ومن يومها بقيت متعوِّد على صوته المَبحوح وهو بيندَه اسمي، لكن من كام يوم لقيته بيندهَ عليا وبيقول لي:
-تعالى يا رضا؛ تعالى.
وقتها كُنت برتِّب أصاري الزرع اللي موجودة قُرب الاستراحة، انتبهت لصوته؛ ولما بصِّيت لقيته واقف في شباك الأوضة اللي بقى بيقضّي أغلب وقته فيها من وقت ما بدأ يتعب، سيبت اللي في إيدي وجريت ناحيته، ولما قرَّبت عند الشباك قُلت له:
-أأمرني يابا نوح.
-ادخُل يا واد يا رضا، عايزك في كلمتين.
دخلت عنده زي ما طلب، ساعتها طلب منّي أقعد جنبه على الكنبة، نفّذت طلبه بدون كلام زي ما اتعوِّدت أعمل، وانتظرت عشان أعرف الكلمتين اللي ندَه عليا مخصوص عشان أعرفهم، وبعد ما بَص لي شوية في صمت قال:
-أنت كبرِت يا رضا وعودَك اشتَد، وأنا السِّن غدر بيّا وسوس العمر نَخر في عضمي، أنت ابني اللي مُش من صُلبي، والأب يابني اللي ربّى مُش اللي خلِّف، الله يرحم والديك ويرحمنا جميعًا.
كلامه كان غريب بالنسبالي، أول مَرَّة أسمعه بيقول كلام من النوعية دي، أول مرَّة أشوفه ضعيف بالشكل دَه، أنا اتعوِّدت أشوف أبويا نوح وهو رايح جاي في المَشتل، رجليه بتهِز الأرض من تحتيه وبتخلّي سَعف النَّخل وغصون الشَّجر يرتجفوا، وبسبب طريقة كلامه الغريبة؛ والبَحَّة اللي كانت زايدة في صوته على غير العادة سألته:
-حِسَّك في الدنيا يابا نوح؛ إيه لزمة الكلام ده؟
-إحنا مُش هنغيَّر الواقع، دي الحقيقة اللي محدِّش يقدر ينكرها، كلنا راكبين قَطر العمر، اللي مش هيقف غير في المحطة الأخيرة؛ القَبر يا رضا، ولو حد نَط من القَطر رقبته بتنكسر ويبقى انتحر، وفي الحالتين النهاية واحدة؛ الموت، يبقى ليه نعترض على سُنِّة الحياة؟
-إحنا نشوف حكيم واتنين وتلاتة يابا نوح، أنا أوِّل مرَّة أشوفك مُستسلم بالشكل دَه!
-الحكيم مش هيحس بقُرب الأجل زي صاحبه يا رضا، وأنا خلاص أيامي قرَّبت.
الدموع اتجمَّعت في عيني لكنّي مسِكت نفسي، محبِّتش أظهر في موقف ضعيف، كفاية الضَّعف اللي شايفة في نبرة أبويا نوح، بَس مش من السَّهل تحِس إنك هتفقد الإنسان الوحيد اللي لِك في الحياة، مهما مرِّيت في الحياة بتجارت خلَّت عودك ينشف وقلبَك يجمَد، لكن في النهاية الواحد مننا لحم ودَم، والحياة مهما داست على الواحد وعضمه نِشف لازم بيفضل محتفظ بنقطة ضعف، وأنا نقطة ضعفي هي أبويا نوح، عشان كِدَه علَّقت على كلامه:
-ربنا يخليك يابا نوح، غُمَّة وتنزاح إن شاء الله.
معلَّقش على كلامي، كل اللي عمله إنه رفع شَلتِة الكنبة اللي أنا قاعد فوقها من الجَنب وطلَّع ظرف أصفر، مَد إيده جوَّاه وسَحَب منُّه شوية ورق، بَص فيهم وحطهم في الظرف من تاني، وبعدها ناولني الظرف بالأوراق اللي فيه وقال لي:
-أنا ماليش وريث من صُلبي، بَس أنت ابني والعُكّاز اللي كُنت بتسنِّد عليه طول السنين اللي فاتت، أنا كَتب لَك المَشتل بيع وشرا وأنا واثق إنك هتحافظ عليه.
أوقات المواقف بتكون أكبر مننا، عشان كِدَه مكانش عندي كلام أقوله، اكتفيت بإني قُمت وبوست إيده وقُلت له:
-المَشتل هيفضل شغَّال بحسَّك يابا نوح.
أوِّل مرة أصدَّق إن الإنسان بيقدر يحِس إن أجله قرَّب، سمعت كتير عن ناس قالت إنها قرَّبت تموت، وبعدها بكام يوم ماتت، بَس كنت بقول إن دي مجرَّد صدفة، أصل الأعمار بيدِ الله والموت عِلمُه عند علَّام الغيوب، ومصدَّقتش الحكاية دي غير لما شُفتها بتتحقق في أبويا نوح، لأنه مات بعدها بكام يوم، ساعتها بَس فتحت الظرف الأصفر، طلَّعت الأوراق اللي فيه وقرأتها، أيون أنا بعرَف أقرأ وأكتب كويس، لأن أبويا نوح دخَّلني المدرسة لحد ما وصلت أولى ثانوي، ولأن دماغي كانت في المَشتل أكتر من التعليم؛ اخترت أسيب الدراسة وأتابع شُغل المشتل، خصوصًا بعد ما شُفت التَّعب بيتغلِّب على أبويا نوح كل يوم أكتر من اليوم اللي قبله.
اللي لفَت نظري؛ إن كان في ورقة مع أوراق البيع والشرا اللي تخُص المشتل، الورقة كانت عبارة عن وصية، والوصية إلى حدٍ ما تبان غريبة على أي حد، لكنها مكانتش غريبة عليا، لأن أبويا نوح الله يرحمه كتب وصية يطلب فيها إني أدفنه في المشتل، وفسَّرت طلبه ده على إنه ارتباط بالمكان، أصل الإنسان بيعِز عليه يفارق المكان اللي عاش حياته فيه، حتى لو هيفارقه بسبب الموت.
لمَّا خبر موت أبويا نوح اتعرف البلد كلها اتلمَّت، أبويا نوح كان محبوب من طوب الأرض زي ما بيقولوا، ومن بين الحضور كان عمدة البلد، اللي لقيته بيطلب من الغفير اللي معاه يروح لسليمان التُّربي ويطلب منُّه يفتح مدفن أبويا نوح، وساعتها بلَّغت العمدة بالوصية، ولحد هنا الناس اتقسمت نُصِّين، منهم اللي قال إن إكرام الميِّت دفنه، وإن المقابر هي المأوى الأخير لكل الأموات، وإن إكرام أبويا نوح إنه يندفن في مدفنه جنب المرحومة مراته، ومنهم اللي كان في صَف الوصية، وخصوصًا عم حمدان صديق عُمره، وقالوا إنه مش هيكون أوّل ولا آخر واحد يندفن برَّه المقابر، ياما ناس اندفنت في جناين بيوتها أو في أماكن تانية اتوصّوا يندفوا فيها، لكن القرار النهائي كان قراري، لأني بقيت صاحب المَشتل، دَه غير إن الوصية كانت متوِّجهة ليّا، عشان كِدَه دفنت أبويا نوح في آخر المشتل، عملت له قَبر ما بين البير المردوم؛ والترعة اللي المشتل بيتروي منها.
بعد ما دفنت أبويا نوح؛ قفلت المشتل 3 أيام بلياليهم؛ حداد على روحه، وفي الليلة اللي المفروض هَصبح أفتح فيها المَشتل من تاني، صوت الضفادع كان غريب، كان بيدخل ودني في شكل صرخات، زي ما يكونوا خايفين من شيء بيطاردهم في الترعة، ليلتها كنت نايم في الأوضة اللي أبويا نوح كان عايش فيها أيامه الأخيرة، فَتحت الشباك وعيني فضلت رايحة جاية في المشتل، المكان كان ضلمة وملاحظتش أي شيء غريب، حتى الترعة اللي موجودة في الناحية التانية ملاحظتش عندها حاجة، وده اللي خلاني قفلت الشباك من تاني ورجعت أكمّل نوم، وبمجرَّد ما حطيت راسي على المخدة، سمعت خطوات برَّه الاستراحة.
كل حاجة اتبدِّلت من بعد أبويا نوح، حتى الأصوات اللي كنت متعوِّد عليها مبقتش هي الأصوات، مكنتش متعوِّد إني أسمع حاجة من دي بتحصل في المشتل، أصل مفيش مجال مثلًا إن كلاب تدخل أو تخرج، خصوصًا وإن المَشتل لُه سور وبوابة بتتقفل، ومن الناحية التانية الترعة ماشية في خط موازي مع المَشتل، ومع العلم إن في سور ارتفاعه مِتر تقريبًا بيفصل المشتل عن الترعة.
للمرَّة التانية فَتحت الشباك وبصِّيت من تاني، المكان برضه ضلمة والدنيا هادية، حتى فروع الشَّجر مكانتش بتتهَز، ودي أكتر حاجة خلتني أتوغوِش، أنا متأكِّد إن اللي سمعته مُش تهيؤات، الخطوات كانت بتدوس فوق الحَطب الناشف اللي كوِّمته جنب الاستراحة قبل موت أبويا نوح الله يرحمه، لكن لظروف الدفنة والعزا مكنتش لسَّه اتخلَّصت منُّه، وبعدين أنا ودني عمرها ما تتوه عن صوت دوسة أي رِجل فوق الحَطب!
أخدت بعضي وخرجت من الاستراحة، اتمشِّيت قدامها عشان لو أي حد أو حتى كَلب دخل المَشتل أقدر أشوفه، لكن ودني مكانتش سامعة صوت خطوة غير خطوتي، ولمَّا اتأكِّدت إن الدنيا أمان؛ أخدت بعضي ورجعت على الاستراحة، ويادوب بحُط رِجلي على عَتبة الباب؛ وسمعت صوت خبط على بوابة المَشتل.
وقفت في مكاني وانتظرت أتأكد إن كان في حد بيخبَّط فعلًا؛ ولا دي تهيؤات زي اللي خلتني أخرج من الاستراحة، بعد ثواني سمعت الخبط مرَّة تانية، كان شيء غريب، الدنيا كلها عارفة إن المَشتل مقفول حداد على روح صاحبه أبويا نوح، وحتى لو ده اليوم الأخير للحِداد؛ فالدنيا لسَّه ليل والنهار مَطلِعش، ولما الخَبط اتكرَّر للمرَّة التالتة؛ أخدت بعضي ومشيت ناحية البوابة، فَتحت الشباك الحديد اللي فيها وبصِّيت برَّه، ساعتها شُفت واحدة سِت، شَكلها كان بيقول إنها في التلاتينات، وهدومها والطرحة السودة اللي لبساهم بيقولوا إنها سِت غلبانة وعلى قد حالها، أول حاجة فكَّرت فيها إنها جاية تطلب حاجة لله، وعارفة ومتأكِّدة إني هَبحبح إيدي معاها من باب الصدقة على المرحوم، بَس صَدقة إيه دي اللي أصحابها بيخبطوا ويطلبوها في انصاص الليالي، بَس قُلت أوقِف بَكَرة الأسئلة اللي بدأت تُكُر في نافوخي وسألتها:
-عاوزة إيه يا سِت؟
قرَّبت من الشباك وقالت لي بلسان تقيل:
-عاوزة صبَّارتين.
كانت بتتكلم بالعافية، ومقدرش أقول إن طلبها غريب، لكن توقيته هو اللي غريب، أصل اللي بيطلب صبَّار من المَشتل عندنا بيكون عاوزه عشان يزرعه قدام المدافن، وعمرها ما حصلت إن حَد خبَّط على بوابة المَشتل وطلبه في توقيت زي ده، ولأنّي دايمًا بكون عامل حسابي على كام أصريِّة صبَّار جاهزين؛ فكان عندي خَمس أصاري جوَّه، لكن قبل ما أتكلم في أي حاجة سألتها:
-صبَّار إيه اللي بقى بينطلب في انصاص الليالي ده؟
-يعني عندك ولا مُش عندك؟
-عندي يا ست، قولي عايزة كام واحدة؟
-عايزة اتنين.
-طيِّب دقيقة واحدة وأكون جايبهم.
قفلت شباك البوابة ودخلت جبت الصَّبار ورجعت، فَتحت البوابة وناولتها الصبارتين، ولسَّه كنت هقول لها إن الصبَّارة بخمسة جنيه؛ لقيتها بتطلع من جيب جلابيتها عشرة جنيه وبتناولهاني.
الفلوس كانت طبعة قديمة ودايبة ومُش هتمشي، لكن عشان شَكل السِّت بيقول إنها غلبانة وعلى قد حالها متكلِّمتش، اعتبرتهم صدقة على روح المرحوم، حطيت الفلوس في جيبي وقُلت لها:
-يلزم خدمة تاني يا سِت؟
شَكرتني وبعدها عملت طَرحتها السودة حواية، حطتها فوق راسها وفوق منها صبَّارة، والصبارة التانية أخدتها بين إيدها ومشيت، وقفت أبُص عليها وهي بتبعِد، ولما اختفت من الشارع قفلت البوابة وأخدت بعضي ودخلت، وفي طريقي ناحية الاستراحة، لقيت نفسي بتمسمر في مكاني لمَّا شُفت الخَمس صبَّارات موجودين في مكانهم!
في اللحظة دي لقيت نفسي عامل زي عقرب الساعة اللي دايرة الكهربا فَصَلِت عنُّه، حتى رقبتي مقدرتش تتحرك يمين أو شِمال، عيني فضلت مبحلقة في أصاري الصبَّار وفضلت أعيد وأزيد في عددهم، هُمَّا نفس الخَمس أصاري اللي حاططهم بإيدي قبل موت أبويا نوح.
غصب عني لقيتني بحط إيدي في جيبي، عشان أطلَّع الورقة أُم عَشرة جنيه اللي أخدتها من السِّت، بس لقيت إيدي بتخرج فاضية، بَحلقت فيها وسألت نفسي: أومال إيه اللي كان في أيدي وأصاري الصبَّار رجعت من تاني إزاي؟!
كانت حاجة تِمَخوِل النافوخ، خلتني رجعت من تاني عند بوابة المَشتل، فَتحتها وبصِّيت في الاتجاه اللي السِّت مشيِت منُّه، مكانش ليها أي أثر، وفجأة لقيت نفسي بحوِّل تركيزي جوَّه المشتل، وعملت دَه لما سمعت نفس الخطوات من تاني، كان في حد بيدوس على الحَطب اللي ناحية الاستراحة، قفلت البوابة وأخدت بعضي وجريت على جوَّه، وساعتها بَس شُفت السِّت وهي ماشية ناحية السُّور القُصيَّر اللي بيفصل بين المَشتل والترعة، ولمَّا وصلت عنده نطَّت من فوقه ونزلت في منحدر الترعة ناحية المَيَّه، أخدت بعضي وجريت ناحيتها برغم إن رجليا مكانتش شيلاني، ولقيت لساني غصب عندي بينده عليها:
-أنتِ يا سِت رايحة فين؟ هَتغرقي!
لمَّا وصلت عند السور ملقتش ليها أي أثر، حتى مَيِّة الترعة كانت هادية، مفيش أي شيء يوحي إن حَد بيغرَق، أو غِرِق حتى، أصل الغَرق مُش بيحصل في لحظة، دَه الغريق بيفضل طالع نازل في المَيَّه طول ما لسَّه فيه الروح، بيطبِّش وبيحاول زي ما بيقولوا يتعلَّق في قشَّاية، لحد ما يفقد الوعي وجسمه يتقل من المَيَّه وبعدها يتسحب لِتَحت، وفي الثواني اللي أخدتها لحد ما أوصل للسور الست متلحقش تنزل المَيَّه وتغرق.
من الليلة دي كل حاجة بتحصل خلَّتني أحِس بذهول، لكن جوايا كان في إحساس تاني مسيطر عليَّا، وهو إن موت أبويا نوح أثَّر عليا لدرجة إني بقيت أهلوس، بَس لقيتني براجع نفسي وقُلت: كان من الأولى أشوفه في حِلم مثلًا، أو لو هتحصل لي هلوسة بسببه كان من الأولى أشوفه بنفسه، إنما ليه أشوف السِّت دي!
الحيرة وانشغال البال مبيخلُّوش الواحد يحِس بالوقت، لأني محسِّتش بنفسي غير والفَجر بيأذِّن عليا، وبعد شوية النهار بدأ يِشَقشَق، كُل دَه وأنا واقف جنب السور اللي بيفصل ما بين المَشتل والترعة، لمجرَّد بَس إني بحاول أفهم اللي بيحصل!
في النهاية قرَّرت أفوق من التوهان اللي كُنت فيه، لأن النهار خلاص طلع وكان لازم أفتح بوابة المَشتل، أيام الحِداد التلاتة خلصوا، والمَشتل لازم يرجع يشتغل والحياة تستمر، وأعتقد لو في إمكانية نكلِّم بيها الأموات وكلِّمت أبويا نوح في قبره كان بنفسه طلب منّي أفتح المَشتل، أصل المَشتل متقفَلش يوم واحد على أيامه الله يرحمه.
بعد ما فتحت البوابة؛ أول حاجة عملتها إني دخلت عند حوض الرَّي، شغَّلت ماكينة الرَّي وبدأت أسحب مَيِّة الترعة وأملاه، بعدها بدأت أسقي الزرع العطشان، واليوم فات بشكل طبيعي لدرجة إني نسيت اللي حصل معايا في الليلة اللي قبلها.
قفلت بوابة المَشتل لمَّا الليل دخل، بالتحديد في الوقت اللي كانت بتتقفل فيه دايمًا، بعدها دخلت الاستراحة وأخدت دُش بعد يوم شُغل طويل، أكلت لقمة خفيفة ودخلت أنام، بَس المرَّة دي دخلت أنام في أوضتي اللي كنت متعوِّد أنام فيها، وبعد شوية وقت لقيتني بفتح عيني على صوت كُحَّة، رفعت راسي من على المخدة ورَميت ودني ناحية الصوت، فات وقت طويل من غير ما أسمع حاجة، وقبل ما أرجع للنوم سمعت صوت الكُحة من تاني!
جِسمي نِشف من الخوف وأعصابي سابِت، ودَه لأن اللي سمعته كان صوت كُحة أبويا نوح!
بعد معافرة؛ قدرت أتحرَّر من حالة الخوف اللي سيطرت عليا، نزلت من السرير ومشيت ناحية باب الأوضة، توازني مكانش مظبوط وكأني ماشي على عودين مكرونة مسلوقين، والخوف بيعمل أكتر من كِدَه، بَس قاومت كل حاجة وكملت ناحية أوضة أبويا نوح، أصل الصوت كان جاي من هناك، وعلى باب الأوضة، وقفت وحسيت إن أعصابي اللي كانت سايبة هربت من جسمي تمامًا، وده لأني لما زقِّيت الباب وفَتحته شوية شُفت كفوف رجلين، كان في حد مِمَدِّد على السرير، فَتحت الباب أكتر عشان الرؤية توضح وأفهم إيه الحكاية، بَس أحيانًا فِهم الشيء بيكون طاقة جهنم اللي بتتفتح على البني آدم، ودَه لأن اللي شُفته نايم على السرير كان أبويا نوح!
إيدي سابِت أوكرة الباب فجأة واترَمَت جَنب جسمي ولا كأنها إيد واحد ميِّت، ولولا إن مُخّي فضل واعي عشان يستوعب اللي شايفه قدامي؛ كان زماني وقعت في الأرض زي الحَبل الدَّايب.
أخدت نَفَس عميق وبلَعت ريقي وبدأت أقرَّب، خطواتي كانت تقيلة؛ زي ما أكون تِمثال حجارة بيحاول يغيَّر مكانه، لكن في النهاية كُنت واقف قدام سرير أبويا نوح، عيني كانت عليه وهو نايم، عينيه كانت مقفولة ومنفوخة، بوقُّه كان موارب وأسنانه ظاهرة، واللي لاحظته إن لون بشرته كان بادئ يتحوِّل للأخضر، عشان أُدرِك بعد وقت طويل من الذهول إني واقف قدام جُثِّته!
الغريب في الحكاية إنه كان نايم في جلابية قديمة، محصلش إني شُفته لابسها قبل كِدَه، برغم إني شايفه بعيني قبل ما يندفِن وهوَّ في الكفن؛ لما دخلت أرمي عليه نظرة الوداع الأخيرة، بَس لقيت نفسي بحُط كل دَه على جَنب وبسأل نفسي السؤال الأهم؛ هو إزاي أبويا نوح خرج من قَبره!
أحيانًا الواحد لازم يكون أقوى من المواقف اللي بتحصل قدامه، أصل المواقف عاملة زي الحواجز، وإحنا عاملين زي الخيل اللي مطلوب منه يتجاوز كل حاجز يقابله، ولو مكانش عندنا القدرة إننا نتجاوزها، المصير الوحيد اللي منتظرنا هوَّ السقوط، ودَه هيحصل لما رجلينا تصطدم بالحاجز اللي مقدرناش نتجاوزه، الحياة علمتني كِدَه، وبسَبب قناعتي دي؛ خرجت من أوضة أبويا نوح ومن الاستراحة بحالها، مشيت في المَشتل لحد ما وصلت عند القَبر، اللي كان سليم وزي ما هوَّ، أصل مُش هخبِّي عليكم، لمَّا سألت نفسي إزاي أبويا نوح خرج من قبره؛ لقيت في بالي وَسوَسة نَفس بتقول لي: إن اللي عمل دَه حد من اللي عارضوا إنه يندفن برَّه المقابر، قُلت جايز دخل المَشتل ونَبَش القبر وطلَّع الجثة، وبعدها لبِّسها الجلابية دي ودخل بطريقة ما وأنا مشغول للاستراحة وحط الجثة على السرير، خصوصًا وإني عارف إن الجثث لما تبدأ تتحلل بشرتها بتبدأ تتحوِّل للون الأخضر، زي ما شُفت بعيني الجثة على السرير، لكن لما لقيت القَبر سَليم وبحالته، عرفت إن الجثة اللي على السرير مش موجودة غير في عقلي الباطن، بَس السؤال اللي نفسي ألاقي إجابة عليه، إيه اللي يخليني أشوف كل ده؟ وإيه علاقة السِّت بالحكاية؟
نزلت في الأرض قدام القَبر وحطيت إيدي الاتنين فوق منُّه، بعدها حسِّيت إني مخنوق والدموع هتنزل من عيني، وِدَه لمَّا بدأت أقول:
-وحشتني يابا نوح، يا ترى مرتاح في رقدِتك ولا تَعبان، أنا عارف إن قَلبك طيِّب وعمرك ما أذيت حَد، ولو قلبَك مُش طيِّب مكانش زمانك انتشلتني من الضياع اللي كان منتظرني، عرَّفني إيه الحكاية؛ ليه شُفتك بالمَنظر دَه؟ ومين السِّت اللي طلبت الصبَّار وإيه حكايتها، أنت دلوقت في دار الحَق، بقى مكشوف عنك الحجاب وقادر تشوف اللي مُش بنقدر نشوفه، بَس المُشكلة إن الميِّت لا بيرجع عشان يحكي، ولا بيقدر يتكلم معانا عشان نفهم منُّه إيه الحكاية، وأنا متأكِّد إنك عرفت السِّر ورا اللي بيحصل.
قُلت الكلمتين دول وربَّعت دراعاتي فوق القبر ودفنت وشّي فيهم، حسيت بتُقل في دماغي وأنفاسي بدأت تِتقَل، وفي اللحظة دي عينيا بدأت تقفل، ومبقتش حاسس بالوقت ولا دريان بالدنيا من حواليا، وكأني انفصلت عن العالم عشان أسمع صوت أبويا نوح وهو بيقول لي:
-مكانش عندي عِلم بكُل اللي حصل واللي بيحصل يا رضا، بَس لمَّا الحجاب انكشَف كُل حاجة بقت واضحة، كل اللي على وِش الدنيا واخدين فِكرة غلط عن الموت، بمجرَّد ما الروح بتتحرر من الجسد بتبدأ الحياة الحقيقية، لأن الروح أزلية، موجودة قبل خلق الجسد وبتفضل باقية بعد ما يفنى، عشان كِدَه لمَّا جيت هِنا قدرت أشوف اللي كان مستخبي ورا ضهري، لازم تعرف إني مكانش ليَّا يَد في حاجة، وبما إنك ورثتني فأنت ورثت أمانة ومُهمة لازم تعملها، لأني لو كنت أعرف الحكاية قبل موتي كان زماني عملت اللي المفروض عليك تعمله، انبِش في التراب يا رِضا، عشان ضميري وضميرك يرتاحوا، وعشان حَق أشجان يرجع واللي قتلوها ودنِّسوا أرضنا ياخدوا جزاءهم.
حسيت إن التُّقل اللي فوق دماغي اترفع فجأة، رفعت وشي وفتحت عيني وبصيت حواليا، الليل كان بدأ ينكسِر في السما والنهار زي ما بيقولوا كان قاب قوسين أو أدنى، معرفش الوقت دَه كله فات إزاي، زي ما أكون نِمت ودخلت في حِلم سمعت فيه اللي قاله أبويا نوح.
قُمت من الأرض وحسيت إن عضمي مكسَّر، ومعرفش ليه حسيت إني مُش مرتاح وأنا في الناحية دي من المَشتل، جِسمي كان تاعبني ومكُنتش حاسس براحة، مُش عشان نِمت في الطَّل جنب القبر غصب عنّي، لأ؛ أنا فعلًا فتحت عيني وكنت حاسس إن المكان هِنا مُش مُريح، قلبي كان مقبوض قبضة غريبة، أخدت بعضي ورجعت على الاستراحة، طول الطريق كُنت بفكر في الكلام اللي سمعته من أبويا نوح، وبسأل نفسي وبقول: يا ترى مين أشجان ومين دول اللي قتلوها، وإيه علاقة اللي حصل معاها بالمَشتل هنا؟
أول حاجة عملتها إني دخلت أوضة أبويا نوح، السرير كان فاضي والجثة مكانتش موجودة، ودي حاجة كُنت متوقعها لمَّا لقيت القبر على حاله؛ عرفت إن شُفت اللي شُفته بسبب إن أبويا نوح مُش مرتاح في تُربته، وكلامه اللي سمعت لما عيني غفلت هناك؛ معناه إن كلِّفني أقوم بالمهمة اللي هتكون سبب راحته، لكن مكُنتش عارف إيه هي المُهمة ولا فين ولا إزاي، كنت زي واحد عينه متغمِّية وبيلعب مسَّاكة، ومطلوب منُّه يوصل للي المفروض يمسكهم.
مفكَّرتش كتير، ودَه لأني عارف كويس إن أول الطريق بيبدأ من النقطة اللي الواحد واقف فيها، عشان كِدَه بدأت من الأوضة اللي أبويا نوح قضَّى فيها أيامه الأخيرة، ولأني عارف مخزن أسراره اللي عُمري ما حاولت أقرَّب ناحيته؛ وهو الصندوق الخشب اللي فوق الدولاب، قرَّرت إني أفتح الصندوق، ولولا الأحداث اللي بدأت تِحصل؛ عُمري ما كنت قرَّبت من أسرار أبويا نوح حتى بعد موته.
سحبت كرسي خشب من اللي في الأوضة وحطيته قدام الدولاب، طلعت فوقه ومديت إيدي ناحية الصندوق، وزنه كان خفيف على عكس ما توقَّعت، عشان كِدَه نزِّلته بكل سهولة على الأرض، بعدها زحزحت غطا الصندوق وفتحته، كان مليان أوراق قديمة، بدأت أدوَّر فيها وأنا مقتنع إني بدوَّر على إبرة في كومة قَش، بَس في البداية لازم أتعب عشان أوصل لطرف خيط.
الأوراق كلها كانت تخُص أبويا نوح الله يرحمه، شهادة ميلاد قديمة مكتوبة بخط الإيد، صورة بطاقته الوَرق، شهادة جوازه من المرحومة مراته وشهادة وفاتها، أوراق من اللي كلنا بنحتفظ بيها، وفضلت على الحال دَه لحد ما قرَّرت أقفل الصندوق وأرجَّعه مكانه فوق الدولاب، بَس قبلها لمحت ورقة بتاريخ قديم، تاريخها كان قبل تاريخ ميلادي بشهور، والورقة كانت عبارة عن عقد إيجار المَشتل، الطرف الأول وهو المؤجِّر كان أبويا نوح، والطرف التاني المستأجر كان واحد اسمه يعقوب الساعي.
أنا تقريبًا أعرف كل شيء عن المَشتل من وقت ما بقيت أشتغل فيه، لكن قبل كده معرفش عنه حاجة غير اللي عرفته بالصدفة من كلام أبويا نوح، بَس عُمره ما جاب سيرة إن المَشتل كان متأجَّر لحد، وأول مرة اسم يعقوب الساعي ده يعدّي قدام عيني. بدأت ألِف في العقد وأقرأ الكلام المكتوب فيه، العقد كان مدته سنة واحدة، واللي لفت نظري إن من ضمن الشهود على العقد كان سليمان التربي!
عصرت دماغي زي القماشة المبلولة؛ عشان أوصل للسبب اللي يخلّي تُربي يشهد على عقد إيجار المَشتل، لكن دماغي كانت ناشفة ومنزلش منها نُقطة إجابة توحّد ربنا. دَه اللي خلاني أأجل فَتح المشتل ساعة واحدة بَس، لأن الساعة دي قرَّرت أعمل فيها مشوار مهم، وهو إني أروح بيت عم حمدان صديق أبويا نوح الله يرحمه ومعايا عقد الإيجار.
لمَّا وصلت بيت عم حمدان؛ خبَّطت على البوابة وانتظرت، وبعد شوية البوابة اتفتحت، وأول ما شافني ابتسم وقال لي:
-إزيك يا رضا، عامل إيه ياللي من ريحة الغاليين.
-أنا بخير والله يا عم حمدان.
-شكلك بيقول إنك جاي على الصبح كده في حاجة مهمة.
كان بيكلمني وعينه على عقد الإيجار اللي ملفوف في قبضة إيدي، وما صدَّقت إنه فَتح باب الكلام وقُلت له:
-عندي موضوع كنت عاوز أعرفه منك.
-طيِّب ادخل يا رضا البيت بيتك، هتفضل واقف على الباب ولا إيه!
دخلت وراه وقعدنا في أوضة الضيوف، وبعدها قال:
-خير يا ابن الغالي.
-في حاجات غريبة حصلت معايا من ليلتين في المشتل.
عقد حواجبه لمَّا استغرب من كلامي وقال:
-غريبة زي إيه يعني؟
-سمعت خبطة على بوابة المشتل في نُص الليل، ولما فتحت لقيتها واحدة سِت شكلها غلبان ولسانها تقيل، طلبت منّي صبارتين من اللي بيتحطوا قدام المدافن، ولمَّا عطيتها الصبارتين وأخدت الفلوس ودخلت؛ لقيت الصبارتين موجودين في مكانهم والفلوس مكانتش في جيبي، ومرَّة تانية لمحتها وهي بتعدِّي من فوق السور اللي على الترعة ونزلت في الميَّه، ولمَّا جريت أشوفها ملقتهاش، والأغرب من كده يا عَم حمدان إني شُفت جثة أبويا نوح فوق سريره بعد ما اندفن، ولما جريت على القَبر أتأكد إن مفيش حد نَبش القبر لقيته سليم، ولما عيني غفلت جنبه سمعت صوت أبويا نوح بيقول لي إنه مكانش يعرف حاجة، وإنه معرفش الحكاية غير بعد ما مات، واتكلم عن واحدة اسمها أشجان وقال إني لازم أفضل ورا الحكاية عشان حقها يرجع من اللي قتلوها ودنسوا أرضنا.
مع كل كلمة بقولها كانت تجاعيد وِش عم حمدان بتظهر أكتر من شِدِّة الاستغراب، وبعد ما سمع الحكاية منّي لقيته بيقول:
-كلام إيه اللي بتقوله دَه يا رضا؟
-ده اللي حصل، وم
====
-ما أنا قُلت لَك، أبويا نوح في كلامه قال إنه مكانش يعرف حاجة، وده معناه إن اللي حصل في المشتل كان وقت غيابه، يعني في الفترة اللي المَشتل كان متأجَّر فيها.
-وأنت ليه متأكد إن سبب اللي بيحصل حاجة حصلت في المَشتل، ما جايز المرحوم مش مرتاح لسبب تاني.
-لأن بعيد عن المرحوم وكلامك؛ الست ظهرت مرتين في المَشتل، ودَه معناه إن حاجة غريبة حصلت خلال السنة اللي المرحوم سافر فيها، وارتبطت بالمَشتل وبالست دي.
وقبل ما يعلَّق على كلامي سألته:
-أنت تعرف أشجان اللي أبويا نوح اتكلِّم عنها؟
عقد حواجبه أكتر وقال:
-أنا لا أعرف أشجان ولا أفراح، ولا عُمره جاب لي سيرتها، وبعدين أنت ناوي تعمل إيه بعد كلامك ده؟
-العمل عمل ربنا يا عم حمدان.
خرجت من عنده وأنا دماغي زي الساقية اللي اتعلَّق فيها تور صحته عفيَّة ومبيتعبش، حسيت بتوهان غريب، لما يجيلك ميِّت في حِلم أو رؤيا ويكلِّفك بأمانة مُش بتبقى لا على حامي ولا على بارد، من ناحية بتكون عاوز تأدِّي الأمانة، ومن ناحية تانية بتكون عاوز الميِّت يرتاح في نومته.
رجعت على المشتل وفتحت البوابة، اليوم كان ماشي بشكل طبيعي، لكن لاحظت إن من وقت للتاني؛ رجلي كانت بتاخدني ناحية القبر، وفي آخر مرَّة رجلي أخدتني لحد هناك وقفت في مكاني، بَس عيني مكانتش على القَبر، أنا كُنت مركِّز مع البير المردوم، ودي كانت أول مرَّة تحصل، جايز الظروف لمَّا اتغيَّرت الواحد بدأ ينتبه لحاجات مكانش بياخد باله منها في الظروف العادية، واللي كنت بفكَّر فيه وقتها، هو إيه سبب وجود البير في مَشتل لازق في التِّرعة؟!
اللي أعرفه إن الآبار بتكون في الصحرا والأماكن البعيدة عن مجاري المَيَّه، يعني مفيش سبب منطقي يخلي أبويا نوح يحفر بير، ولَّا هو اشترى المَشتل والبير ده كان موجود فيه وردَمه لأن الترعة كفاية ولا إيه الحكاية بالظبط!
لمَّا الحيرة بتمسك في الواحد بيكون زي السمكة اللي اترَمت صاحية في الشواية، مُش بيهداله بال غير لما يفهم الحكاية، وده السبب اللي خلاني أرجع من تاني بيت عم حمدان، ولما قعدت معاه في أوضة الضيوف سألته:
-هو عادي إن المشتل يتحفر فيه بير؟
-أما أنت أمرك غريب يا رضا، قضيت حياتك في المَشتل وحافظه أكتر من أوضتك وجاي تسألني السؤال ده! إيه اللي جَد عشان السؤال دَه ييجي في بالك؟
-اللي جَد أنت عارفه يا عم حمدان.
-يبقى خلِّيني أريَّح بالك، لمَّا أبوك نوح الله يرحمه هو ومراته رجعوا من السفر، اتفاجئ إن المستأجر بيطلب منُّه يجدد عقد الإيجار، ولأن المرحوم مكانش حيلته غير المَشتل وعايش في الاستراحة اللي فيه؛ رفض يجدد، خصوصًا إنه موافقش على إيجاره غير لظروف السَّفر، ولمَّا رفض يجدد العقد المستأجر سلِّمه المَشتل، واتفاجئ بالبير المردوم، ساعتها حصلت مشكلة بينهم، والمستأجر قال له إنه حفر البير عشان يعمل نظام ري حديث، بَس ردَمُه طالما هيسلِّم المَشتل.
خرجت من بيت عم حمدان بعد ما عرفت اللي فيها، وبرغم كده مكُنتش مقتنع بكلامه، بيني وبينكم، المَرء على دين خليله، وعم حِمدان كان صديق أبويا نوح الله يرحمه، قُلبه طيِّب زيَّه، ومعندوش نيِّة سيئة ناحية حد، بَس اللي بيحصل من بعد موت المرحوم يجبر الواحد إنه يحُط حُسن النية على جَنب، أو خلينا نقول يقطع الشَّك باليقين، عشان كِدَه قرَّرت أحفر البير، وبمجرَّد ما أخدت القرار دَه، افتكرت من تاني كلام أبويا نوح؛ لما طلب مني أنبُش في التُراب، جايز الصندوق مكانش هو المقصود بكلامه، لكنه الطريق اللي بدأت منُّه، واللي من خلاله وصلت لحكاية البير، واللي بالتأكيد هوَّ التراب اللي المفروض أنبش فيه.
لمَّا الليل دَخل؛ قفلت بوابة المَشتل زي العادة، بعدها رجعت على الاستراحة، بَس مُش عشان أرتاح من شغل اليوم زي كل مرَّة، دَه أنا رُحت عشان أخلع الجلابية اللي على جسمي وألبِس جلابية قديمة، بعدها أخدت الفاس وخرجت مشيت ناحية البير.
في نُص الطريق حسيت بحد ماشي ورايا، صوت خطوته كان واضح جدًا، وقفت في مكاني وانتظرت، وفي اللحظة دي صوت الخطوات قرَّب، كان بيلف حوالين مني، والغريبة؛ إني كُنت ملاحظ أثار أقدام بتظهر في الأرض من العَدم، حجمها كان صغيَّر، دي مُش مقاس رِجل راجل أبدًا، اللي بيحصل قدامي معناه إن في حد بيلِف حواليا وأنا مُش شايفه، ساعتها بَس سمعت نفس صوت السِّت، بلهجتها المهزوزة ولسانها التقيل:
-اللي قدامك مُش بير، دي حفرة ملعونة، وأنا اتربطت بيها بدون ذنب!
بمجرَّد ما قالت الكلمتين دول صوت خطواتها اختفى، ولأني مبقتش أستغرب حاجة، مشيت في طريقي عشان أكمّل مهمتي، وقبل ما أوصل عند البير بأمتار بسيطة، شُفت الست في مَنظر غريب، كانت ظاهرة بنُصَّها الفوقاني من البير، أما نُصَّها التحتاني، فكان مدفون في التراب.
مكُنتش مستوعب اللي شايفه قدامي، السِّت كانت زي الشَّجرة اللي جذورها مغروسة في التراب، الخوف سيطر عليا من المنظر وخطواتي بدأت تتقل، محبِّتش أستسلم لإحساس الخوف وأتراجع، كملت ناحية البير، كل ما كنت بقرَّب منه خطوة، كانت السِّت بتنسحب لِتَحت في التراب، وعلى ما وصلت للبير كانت الست اختفت تمامًا من قدامي.
طلعت فوق التراب ورفعت الفاس وبدأت أحفر، مع كل خبطة فاس الدنيا كانت بتتكشف قدامي، لأني لما استمريت في الحفر، اكتشفت إن حيطان البير من طوب أحمر، وبعد ما استمرِّيت وحفرت أكتر، لقيت في قُماش بيتعلَّق في سِن الفاس.
حطيت الفاس على جنب ومسكت القماش بإيدي، بدأت أسحبه بكل قوتي لحد ما خرج من تَحت التراب، القُماش كان عبارة عن كُتلة معقودة في بعضها، ولمَّا فكّيتها وبصِّيت فيها، لقيت الذهول بيسيطر عليا، وده بسبب إني كنت ماسك في إيدي الجلابية والطرحة بتوع الست اللي خبطت على المشتل في نُص الليل وطلبت صبارتين، حتى لمَّا حطيت إيدي بالصدفة في جيب الجلابية؛ طلَّعت منها نفس العشرة جنيه القديمة!
يعني إيه! الست دي مُش عايشة؟ ولا عايشة وهدومها مدفونة هنا! هي إيه الحكاية بالظبط!
خرجت من الحفرة وأنا حاسس إن الحكاية بتتعقَّد أكتر، زي ما يكون كل لغز بقابله بيسلمني للغز تاني، أخدت هدوم الست ورجعت على الاستراحة، ولما دخلت في النور ونفضت الهدوم من التراب اللي عليها، اكتشفت إن عليها بُقع دَم اسودَّت بمرور الزمن، ولحد هنا سألت نفسي سؤال تاني، دَمها ده ولا دَم حاجة تانية؟!
محسِّتش بنفسي غير وأنا لابس هدومي وخارج من بوابة المَشتل، كان معايا شنطة سودة فيها هدوم السِّت اللي لقيتها في الحفرة، الوقت كان قبل الفَجر بوقت بسيط، رجلي أخدتني لحد بيت عم حمدان، وهناك خبطت على البوابة لحد ما فتح، وأول ما شافني قال لي:
-إيه حكايتك يا رضا؟
مردِّتش على سؤاله، كل اللي عملته إني فَتحت الشنطة وطلَّعت منها الهدوم وقُلت له:
-أنا حفرت في البير، حيطانه كانت من الطوب الأحمر، وعلى بُعد مترين لقيت الهدوم دي، نَفس الهدوم اللي الست كانت لبساها لمَّا طلبت منّي الصبّارتين، وفيها نفس الورقة أم عشرة جنيه اللي أخدتهم منها وفجأة اختفوا، وهي نفسها الهدوم اللي كانت لبساها لما شُفتها نازلة الترعة، وظهرت لي للمرَّة التالتة فوق البير قبل ما أحفر وهي لبساها، لكن في الحقيقة إن الهدوم كانت تَحت التراب وعليها بُقَع دَم!
كُنت بتكلِّم وعم حمدان ماسك الهدوم وبيقلِّب فيها، الخوف والقلق كانوا ظاهرين على ملامحه، وبعد ما اتأكِّد من كلامي ومن الدم اللي في الهدوم قال:
-معناه إيه اللي حصل دَه يا رضا؟
-معناه مُش عندي يا عم حمدان.
-أومال عند مين؟
-عند سليمان التربي، مُش هو اللي جاب المستأجر، والمستأجر هو اللي حفر البير وهو اللي رَدَمُه، يبقى سكّتنا سليمان التربي، هو اللي يقول لنا على كل حاجة، ولو متكلِّمش هاخد الهدوم دي وهطلع على البوليس، وهُما بقى يشوفوا صرفة معاه.
-وأنت متأكد إنه هيتكلم؟ أصلًا الحكاية دي فات عليها زمن وجايز يقول إنه مش فاكر حاجة.
-حتى لو مش فاكر الورق يفكره، توقيعه موجود على عقد الإيجار، وشهادتك مع شهادتي نثبت إن البير اتحفر واتردم في الفترة اللي عقد الإيجار كان ساري فيها.
لمَّا لقيته متردد كملت كلامي وقُلت له:
-أنا مُش هسكت يا عم حمدان، وأنت كلام لازم تيجي معايا، اللي مش مرتاح في تربته دَه صاحب عمرك ولُه حق عليك، واللي في إيدك دي هدوم عليها دَم، عارف يعني إيه دَم؟
وقفت أنتظر رده على كلامي لحد ما قال لي:
-خليك واقف ثواني، هغيَّر هدومي وجاي معاك.
في خلال دقايق كنا متحرَّكين ورايحين ناحية المقابر، ولما وصلنا عند الأوضة اللي سليمان التربي عايش فيها، خبطنا على الباب وانتظرنا لحد ما الباب اتفتح، أول ما شافنا قدامه بَص لنا وقال:
-إيه مناسبة الزيارة إن شاء الله، ناوين تنقلوا المرحوم للمقابر ولا إيه؟
محبِّتش الطريقة السخيفة اللي كان بيتكلم بيها، واختصارًا للكلام، طلَّعت الهدوم من الشنطة وقُلت له:
-إحنا جايين عشان الأمانة دي يا سليمان، يا ترى تعرف عنها حاجة؟
أول ما سليمان شاف الهدوم وشه اتقلب، زي ما يكون شاف شياطين المقابر كلها متجمَّعين قدامه في لحظة واحدة، وبمجرد ما لاحظت دَه على وشُّه عرفت إنه عارف اللي فيها، خصوصًا لما قال بنبرة مهزوزة:
-أنت بتتكلم عن إيه يا رضا وضَّح كلامك.
-أنت اللي ملامحك أوضح من كل حاجة يا سليمان يا تُربي، أنا مشيت ورا الأحداث اللي بدأت تحصل معايا في المشتل بعد ما أبويا نوح مات، لحد ما حفرت البير ولقيت فيه الهدوم اللي فيها دَم، البير اللي حفره يعقوب الساعي، اللي ظهر فجأة وأجَّر المشتل لحظة ما صاحبه كان مسافر.
-أنت جاي تكلمني في حاجة فات عليها وقت قد عُمرك وأكتر! أنا مُش فاكر حاجة من اللي بتقول عليها.
-لو أنت فعلًا مُش فاكر، أو عامل نفسك مُش فاكر، العقد موجود يا تُربي وتوقيعك عليه، ده غير إن الهدوم دي لما تروح للبوليس، الدم اللي عليها هيتحلل وهيتعرف هو اتسفَك إمتى بالظبط، وابقى قول بقى للبوليس مُش فاكر لما يسألوك عن يعقوب الساعي.
كلامي كان زي القُطة اللي أكلت لسانه، وقف متخشِّب قدامنا ومقدرش ينطق، بَس بعد وقت طويل من تبادل النظرات والخوف اللي كان بيطُل من عينيه قال:
-أنا كُنت بعمل اللي بينطلب مني، وباخد القرشين اللي بيطلعوا من ورا الشغلانة.
ساعتها عم حمدان نَطق وقال له:
-اسلَك يا تُربي، شغلانة إيه وإلا هنخرج من هنا على البوليس.
تهديد عم حمدان مع تهديدي، خلوه يكشف صندوق أسراره، لأنه بعدها قال:
-أنا معرفش يعقوب الساعي معرفة شخصية، كل الحكاية إني بشتغل مع شيخ من اللي بيعملوا أعمال وفي نفس الوقت بيفتح مقابر، من وقت للتاني بيطلب مني عضمة عشان يعمل عليها عمل، أو يطلب منّي أدفِن عمل، وفي مرَّة كنت عنده عشان آخد منُّه عمل أدفنه؛ لقيته بيقول لي إن في تاجر آثار كبير بيشتغل معاه، وإن التاجر ده قال له إنه حلم بمقبرة جنبها مجرى مائي، ومن هنا لهنا الشيخ قال له إن المقبرة دي موجودة تحت مَشتل، اللي هو المشتل بتاعكم، والصدفة خدمته إن في الوقت ده الحاج نوح ومراته كانوا هيسافروا، ومن هنا جَت فكرة تأجير المشتل، عشان كل حاجة تبان طبيعية، ساعتها راح يعقوب الساعي وأجَّر المشتل وكل حاجة خلصت، بَس خلال السنة معرفوش يوصلوا للمقبرة، والشيخ قال إن الرصد اللي عليها قوي وبيضلِّل الخُدَّام اللي مع الشيخ، لحد ما لجأوا للدم، وساعتها اتفقوا إنهم يقدموا قربان بشري في المشتل، القربان دخل للمشتل بعد نُص الليل عن طريق الترعة، اتحط في قارب كان جاي من البَر التاني، وكان معاه الشيخ وناس تبع يعقوب الساعي، وأنا كُنت معاهم، ولما دخلنا المشتل اكتشفت إن القربان واحدة سِت متخدَّرة، وعرفت من الناس إنها سِت غلبانة مقطوعة من شجرة وعقلها تعبان ومحدش هيسأل عليها، ساعتها واحد من اللي تبع يعقوب الساعي دبحها، دمها اتصفى في وعاية نحاس، والشيخ أخد الدم وبدأ يرُشُّه في الأرض وهو بيقول كلام كنت بسمعه منه دايمًا لكن مش بفهمه، بعدها أخد الهدوم اللي على الست ومسح إيده فيها واحتفظ بيها معاه، وفي الوقت ده واحد من اللي مع يعقوب الساعي دخل الاستراحة وجاب ملاية سرير، سترنا بيها جسم الست ورجعنا بيها على القارب، وكانت مهمتي هنا إني أدفن الجثة في مقابر الصدقة ولا من شاف ولا من دري.
الدَّم كان بيغلي في عروقي، مكنتش مصدق إن في ناس اتنزعت من قلبها الرحمة للدرجة دي، اللي عاوز يهبِش أثار مش من حقه، واللي عاوز يهبِش فلوس حتى ولو متعاصة بِدَم غيره، عشان كده طبقت في لياقته وقُلت له:
-كل ده يطلع منك أنت يا ملعون! بدل ما تبقى أمين على الأموات اللي بتدفنهم، تقوم تبقى لعنة عليهم!
عم حمدان شدِّني وخلَّصه من إيدي وهو بيقول:
-امسك أعصابك يا رضا، متضيَّعش نفسك في كلب زي ده.
بعدها بَص له وقال:
-إيه اللي أنت مخبِّيه تاني يا جلَّاب المصايب.
بعد ثواني من الصمت أتكلم وقال:
-أنا كُنت فاكر إن الأسرار زي الأموات، اللي بيندفن منهم مبيرجعش تاني، أتاري الأسرار لا بتموت ولا تنفع تندفن.
ردّيت عليه بعصبية وقُلت:
-بطّل فلسفة وقول البير اتحفر ليه واتردم تاني على الهدوم دي؟
-لأن بعد وقت طويل الشيخ قدر يوصل لمكان المقبرة، ولما بدأوا يحفروا كان عقد الإيجار قرَّب ينتهي، ساعتها الحاج نوح كان رجع هو ومراته من السفر ورفض يجدد العقد، ومكانش في حل غير إن الحفرة تتردم، بس الشيخ ردمها على سِحر اتعمل على جلابية من هدوم الحاج نوح، اتاخدت من دولابه في الاستراحة، عشان مع الوقت يمرض وميقدرش يشتغل، وميكونش قدامه غير إنه يأجر المشتل أو يبيعه، ويعقوب الساعي يحط إيده عليه من تاني، وبالمرَّة هدوم الست بدمّها اتحطت في الحفرة وهي بتتردم عشان تفضل متدارية لحد ما يرجعوا ياخدوا المشتل من تاني.
كان بيحكي وفي شريط بيعدي قدام عيني، السنين الطويلة اللي المرض أكل فيها أبويا نوح لحد ما نشِف زي عود الحطب، ونيّته الصافية اللي مخلَّتوش يفكر ينبش في الحفرة، كل ده وفي ناس قاعدة بتتفرج من بعيد، زي المفترس اللي راقد ومتربِّص ومنتظر اللحظة اللي فريسته هتقع فيها، الناس دي واخدة فكرة عن الحياة إنها غابة، القوي فيها يقدر يبلع الضعيف ويقول مشوفتوش، لكن الأرض نفسها بييجي عليها الوقت اللي بتظهِر فيه الكنوز اللي في بطنها، فما بالكم بقى بأسرار وحقوق الناس اللي بتندفن في بطنها، ولحد هنا طبقت في رقابته من تاني وأنا بقول له:
-يعني أبويا نوح مات بالسِّحر يا كفرة!
للمرَّة التانية عم حمدان يبعدني عنُّه، وفي اللحظة دي سليمان التُربي زقنا بعيد عن باب الأوضة وهو بيقول:
-أنتوا مش عرفتوا اللي عاوزين تعرفوه؟ روحوا بقى لحال سبيلكم.
بعدها قفل باب الأوضة في وشنا، أخدنا بعضنا وخرجنا من المقابر، النهار كان على وشك إنه يطلع، بَس وقتها لا أنا رجعت على المَشتل، ولا عم حمدان رجع على بيته، إحنا الاتنين أخدنا بعضنا وطلعنا على قسم البوليس، لأن اللي حصل المفروض ميتسكتش عليه، وهناك بلَّغنا بكل حاجة، لدرجة إنهم اتحفَّظوا علينا لحد ما يتأكدوا من صحة أقوالنا.
خلال الفترة اللي قضيناها في القسم؛ سليمان التربي اتقبض عليه، بَس متقبضش عليه في الأوضة اللي عايش فيها، إحنا عرفنا إنه بعد ما مشينا أخد بعضه وساب الأوضة وهرب، بَس هُمّا جابوه بطريقتهم، ولما اتقبض عليه اعترف بكل حاجة، قال على مكان الشيخ، اللي بالمناسبة مكانش يعرف اسمه الحقيقي، وعن طريق الشيخ وصلوا ليعقوب الساعي، واللي برضه مكانش دَه اسمه الحقيقي، لأن اتضح إن كل مكان بيدخل يأجر فيه بيت أو أرض عشان يدوَّر تحتها على أثار، كان بيدخل باسم جديد وبطاقة مزورة جديدة، لكنه دخل عندنا المشتل بالاسم ده.
بعد اعتراف سليمان التربي خرجنا من قسم البوليس، وبعدها الحكومة انتدبت لجنة من وزارة الأثار، كملوا حفر في الأرض، وأثناء الحفر السِّحر اللي اتعمل لأبويا نوح خرج، كان معمول على نفس الجلابية اللي شُفت جثته نايمة بيها على السرير، وكأنه ظَهر بيها عشان يعرَّفني حكاية العمل بطريقة ماكنتش مُدركها وقتها، ولحد هنا عرفت سبب إنه مكانش مرتاح في المكان دَه، ولا أنا كنت مرتاح فيه آخر مرة كنت واقف جنب القبر، أصل الأماكن اللي فيها بصمات للشيطان مبتبقاش مُريحة، والشيطان بيعشِّش زي العنكبوت في المكان اللي السحر مدفون فيه، وبالمناسبة، اللجنة أثبتت إن مفيش مقبرة موجودة تحت أرض المَشتل، والشيخ اللي مع اللجنة قال إن الناس اللي زي دي شياطينهم بتضللهم أكتر ما بترشدهم، ياما ناس بيوتهم وقعت وهُما بيحفروا تحتها عشان مقابر وهمية ومش موجودة، وياما حُفَر انهارت على اللي فيها وهُما بيدوَّروا على كنوز مالهاش أثر، بَس الجَشع زيُّه زي السرعة الزيادة، الاتنين هيوصَّلوك لنهاية مؤلمة عُمرك ما كُنت تتمنَّاها، واللي حفر الحفرة دي شَخص عارف إنها ممكن تنهار عليه في أي لحظة، عشان كده بنى الطوب الأحمر عشان يأمِّن نفسه، بَس الأمان في الاستقامة مُش في الجري ورا الأفكار الشيطانية.
بالمناسبة، بعد ما اتأكدوا إن مفيش مقبرة تحت المشتل، أخدوا سليمان التربي عشان يدلّهم على القبر اللي دفن فيه جثة الست، اللي كان قدامه أصريِّتين صبار طالعين من مشتلنا، أصلي مش هتوه عن الأصاري اللي أبويا نوح كان بيزرع فيها صبَّار المقابر من زمن الزمن، وفي اللحظة دي فهمت ليه بداية ظهور الست كانت مرتبطة بالصبَّار.
العمدة وناس كتير من أهل البلد لما عرفوا كانوا موجودين، وأنا وعم حمدان طبعًا كنا هناك، القبر اتفتح والجثة اللي فيه خرجت واتنقلت على المشرحة، وبعدها الشيخ اعترف إنها واحدة غلبانة مالهاش أهل اسمها أشجان، من بلد بعيدة عن بلدنا، واعترف برضه إنه اتعوِّد يصطاد الناس اللي زي دي عشان يبقوا قرابين، بما إن مفيش وراهم حد يدوَّر عليهم، لكنه نسي إن الحقوق بتدوَّر على أصحابها، سواء كانوا عايشين أو أموات.
بعد ما اتعرفت صاحبة الجثة وبلدها، الجثة راحت عشان تندفن هناك في قبر من قبور الصدقة، والمصادفة الغريبة، إننا عرفنا وقتها إن أشجان اختفت فجأة بعد ما واحد عطف عليها بعشرة جنيه مرَّة واحدة، بَس اتضح إنه كان بيستدرجها، لأنه كان الطُّعم اللي الشيخ بعته عشان يخليها تفهم إنه بيعطف عليها، لحد ما يستدرجها في الوقت والمكان المناسبين، لدرجة إنها ماتت والعشرة جنيه في جيبها وملحقتش تصرفها، ولحد هنا الحكاية اتقفلت، سليمان والشيخ والتاجر على وشك إنهم يواجهوا مصيرهم العادل، وأنا فتحت المَشتل من تاني وعلَّقت عليه يافطة وكتبت عليها بالخط العريض "مَشتل نوح"، لأني هعيش طول عمري وأنا شايل جميله طوق في رقبتي، لأنه فعلًا أبويا اللي مخلّفنيش.
الحياة رجعت تمشي بشكل طبيعي من تاني، لكن أنا اللي قناعتي بقت ثابتة أكتر، وبقىى عندي يقين زيادة إننا مُش على قيد الحياة زي ما إحنا فاهمين، وإن الأموات بيقدروا يعرفوا اللي منقدرش نعرفه، بدليل إن أبويا نوح عاش عُمره وهو مُش عارف اللي مدفون في أرضه، وأنا نفس الحكاية، ولولا إنه بلَّغني بالحكاية في حلم بعد ما مات، وإن موته كان هو الزلزال اللي خلى الأرض تعلن عن اللي مدفون فيها، ومش بعيد كمان إن روحه هي اللي خلَّت أشجان تظهر، بدليل إنها مظهرتش غير بعد موته، كُنت هعيش عُمري كله وأنا فاكر إن اللي في المشتل بير قديم ومردوم زي ما كان أبويا نوح فاكر، لكن أديني حكيت لكم الحكاية من طَقطق لسلامُ عليكم، وزي ما بنقول الحاضر بيعلِن الغايب، الميِّت في الحكاية دي هو اللي بيعلِن الحَي.
تمت...