-يا شخاليل؛ يا شخاليل.
-ياض الله يخرب بيتك يا أبو نُص لسان، إيه شخاليل اللي مش بتبطَّل تقولها لي دي، اسمي الشِّيخ خليل، جَك داهية فيك وفي عَبَطَك وفي لسانك اللي عاوز قَطعُه ده.
ضِحكت كالعادة على حوار الشيخ خليل مع حلاوة؛ واد عبيط ظَهر في المنطقة من فترة ومحدّش عارف جاي منين ولا أصله إيه، لكن كلامه المكسَّر ومَشيِتُه العارجَة وخِلقته المِشَلفَطَة؛ وهدومه اللي متنفعش كُهنَة يتمسح بيها الأرض خلَّت النَّاس تشفَق عليه، ومن يومها وهوَّ عايش في المنطقة والنَّاس طلَّعت عليه اسم حلاوة، بينام كل ليلة قدام بيت شَكل والنَّاس بتراعيه في الأكل، ولأنه بيلِف في الشوارع طول اليوم، دايمًا بييجي القهوة بعد العِشا ويبلَّغ الشيخ خليل بأخبار المنطقة، وآه، الشيخ خليل يبقى شيخ الجامع، ومتعوِّد يقعد على القهوة مع النَّاس كل يوم بعد صلاة العِشا، أي نعم مالوش في الدُّخان لكنُّه بيقعد يسلّي وقته في الكلام مع الناس، دَه غير إن القهوة في منطقتنا نضيفة ومالهاش في أي سكَّة بطَّالة تمنعه إنه يقعد عليها، عشان كِدَه أنا كمان كل يوم بخلَّص شُغلي في الشَّهر العقاري وبرجع البيت أتغدَّى وأريَّح شوية، بعدها بنزل أقعد على القهوة أشرب حجر معسِّل وكوباية شاي، ومفيش ليلة بتفوت غير لمَّا بشوف حلاوة جاي على القهوة بعد العِشا وبينادي على الشيخ خليل بنفس الطريقة؛ فبضحك على رد فعل الشيخ خليل؛ اللي وقتها بيعفَقُه من قفاه وبيكون في نُص هدومه لمَّا بيقول له: يا شخاليل، وتقريبًا دي من الحاجات اللي بتعدِل مزاجي وبتخلِّيني أنسى قرف الشُّغل طول النهار..
قعدت أكمِّل كوباية الشاي وحجر المعسِّل اللي بشرب فيهم، انتظرت الأخبار اليومية اللي حلاوة جايبهم وجاي، ساعتها الشيخ خليل سابه بعد ما كان عافقُه من قفاه وقال له:
-انطق يا غراب البين، جاي تقول إيه النهارده يا بُسطجي الأخبار المهبِّبة.
-بيت الباتعة يا شخاليل.
-ماله بيت الباتعة يا فقري؟
-شُفت بابُه مفتوح والنور والع فيه.
المَشهد الكوميدي اللي كان داير اتحوِّل لمشهد صامت، كل اللي في القهوة بصُّوا لبعض بدون ما حد فيهم ينطق، وأنا كُنت واحد منهم، لكن الصَمت اتكسر لمَّا الشيخ خليل أخد الواد حلاوة من دراعه وقال له:
-تعالى ورِّيني يا أبو نُص لسان، عارف لو طلعت بتقول كلام في الفاضي، هقطع لك باقي لسانك من لغاليغه.
الشيخ خليل أخد الواد حلاوة ومشي، بَس الصَّمت كان لسَّه مسيطر على المشهد، وبالنسبة ليَّا؛ كان دَه الوقت اللي بسيب فيه القهوة وبرجع البيت لأني بقوم بدري للشُّغل، حطيت إيدي في جيبي وطلَّعت تمن الشاي والمعسِّل وحطيته تحت كعب الكوباية زي ما أنا متعوِّد، بعدها سحبت نفسي بهدوء ورجعت على البيت، وبمجرَّد ما فتحت باب الشقة ودخلت؛ سمعت صوت رضوى مراتي جاي من الأوضة وبتقول:
-أنت جيت يا فريد؟
ردِّيت بصوت عالي عشان تسمعني وقُلت لها:
-لأ ماجيتش، أنا لسَّه على القهوة وباب الشقة بيتفتح لوحده!
برغم إن مزاجي مكانش رايق؛ لكن سؤال رضوى المعتاد بيضطرِّني أرُد عليها نفس الإجابة وبنفس الطريقة، أصل الباب هيتفتح إزاي لو مكنتش رجعت من القهوة.
رميت مفاتيحي على ترابيزة الأنتريه وقعدت على أول كرسي جنب الباب، سندت راسي على ضَهر الكرسي وبصِّيت في السقف، دماغي كانت بتودِّي وتجيب، ومحسِّيتش بنفسي غير ورضوى واقفة قدامي وبتقول لي:
-جاي النهارده من القهوة مزاجك وحش يعني، مُش عوايدك.
اتعدلت في قعدتي وبصِّيت ناحيتها وقُلت لها:
-الواد حلاوة العبيط، دخل القهوة على الشيخ خليل وقال له إنه شاف بيت الباتعة مفتوح والنور والع فيه.
ملامح وشّها اتقلبت، وبعد ما بصَّت لي شوية وعينيها مليانة خوف قالت:
-هي حكاية الباتعة دي حقيقة؟
كان عندها حق في سؤالها؛ لأن حكاية الباتعة كانت صفحة في تاريخ المنطقة واتقفلت من وأنا طفل، ومبقاش فاضل غير سيرتها اللي بتتحكي من وقت للتاني؛ وبالتالي رضوى سمعت حكايتها بعد ما اتجوّزتها وعاشت معايا هنا، زيَّها زي أي حد دخل المنطقة وسمع حكايتها في شكل حدّوتة، لكنها مش حدوتة ولا حاجة، عشان كِدَه الشيخ خليل اتخَض لمَّا سمع الخبر من الواد حلاوة والنَّاس نزل عليهم سَهم الله، وسؤال رضوى فضل يحفر في ذاكرتي لحد ما وصل لحكاية الباتعة، عشان كِدَه جاوبت على سؤالها وقُلت لها:
-الباتعة حقيقة بس كلام الناس هو اللي عمل منها حدوتة؛ لأن اللي بيحكي حكايتها دلوقت بيحُط البُهارات بتاعته، اللي بيضيف أحداث من دماغه؛ واللي بيشيل أحداث ويستبدلها بأحداث تانية، بَس أنا شُفتها بعيني وأنا طفل، سِت بشرتها سودة وجِسمها ضَخم، ملامحها تشبه ملامح الزنوج، عينيها واسعة ونِنَّها أسود وحوالين منُّه أبيض، ومع لون بشرتها ومواصفات عينيها نظرتها كانت مُخيفة، الكُل كان بيخاف يبُص في وشَّها، جوزها كان اسمه سعيد البغدادي؛ كان راجل طيِّب، عشان كِدَه طِفش منها وسابها مع بنتها اللي اسمها ياسمين واختفى، وعن نفسي لو عيني جَت في عينيها صدفة كنت بموت من الرُّعب، لحد ما كبرت شويَّة وبدأت أفهم إنها بتشتغل في السِّحر والأعمال، وساعتها فهمت ليه جوزها سابها والناس بيخافوا منها وبيتجنَّبوا يتعاملوا معاها، بَس هيَّ اللي مكانتش بتسيب حد في حاله، أي واحدة هتتجوِّز كانت لازم تراضيها، ودَه لأنها كانت ممكن تعمل لها عمل بعدم الخِلفة، وبالتالي أبو العروسة كان بيروح يعطيها مبلغ عشان متأذيش بنته، وفي الناحية التانية؛ كل شاب فرحُه كان بيقرَّب كان بيروح ويعطيها اللي فيه النَّصيب، الناس وقتها كانوا بيقولوا إن الباتعة عندها القدرة تربُط أي عريس ليلة دخلته بمجرَّد النظرة، وطبعًا مفيش عريس هيحِب إنه يتحط في موقف مش ولا بُد ليلة دخلته، حتى الشيخ خليل، كان بيتجوِّز وأنا لسَّه طفل، ساعتها رفض يروح للباتعة ويعطيها قرشين عشان ليلته تتِم على خير، أيامها كان واخدها بالدراع قبل ما ربنا يهديه ويستقيم ويبقى شيخ الجامع، وقال إنه مستحيل يدخل بيت الباتعة ويعطيها قرشين وكأنه بيطلب منها الإذن عشان يدخل على عروسته، بَس أهل العروسة لمَّا زاروه تاني يوم الفرح؛ لقوا بنتهم لسَّه بنت بنوت، وساعتها المنطقة عرفت إنه اتربط وكان يوم ما يعلم بيه إلا ربنا، عشان كِدَه راح بيت الباتعة وعطاها بزيادة عن اللي بتاخده من الناس، وبعدها الدنيا ظبطت معاه، كل ده خلَّى الناس تدفع لها إتاوات بكُل إرادتهم عشان يتجنَّبوا أذاها، لحد ما الموضوع بدأ يكبر، الباتعة بدأت تشتغل على تقيل، بدأ يدخل بيتها ناس غريبة عن المنطقة، الحكاية كانت مفهومة وواضحة زي عين الشَّمس، الناس دي جاية عشان تِعمل سِحر وأعمال، وشوية والدَّهب بدأ يملا صدر الباتعة ودراعاتها، والفلوس معاها بقت زي الرُّز، بَس اللي من نوعيِّة الباتعة مايملاش عينها غير التراب، كل ما فلوسها ودهبها كانوا بيزيدوا أذاها كان بيزيد أضعاف؛ لدرجة إنها سابتها من حكاية الرَّبط اللي كانت بتشتغل فيه لأنه معادش بيجيب همَّه، وبدأت تركِّز مع الشغل التقيل اللي فيه المصلحة، وبعد كل دَه الباتعة اختفت فجأة، أهل المنطقة قاموا من النوم لقوا باب البيت عليه قِفل من برَّه، ومن وقتها محدّش يعرف أراضيها فين هي وبنتها، بَس الأيام جابت بعضها واتقال إنها هربت بسبب مشكلة بينها وبين زبون، كان طالب منها شغلانة وأخدت منُّه مبلغ محترم ومفيش حاجة حصلت، ولمَّا هدِّدها أخدت بعضها وهربت، ومن وقتها والبيت مقفول ومحدش يعرف عنها حاجة، والأيام هيَّ اللي عملت منها حدوتة.
كانت أوِّل مرَّة أتكلم مع رضوى عن الباتعة بالتفاصيل دي؛ وبعد ما خلَّصت كلامي قالت لي:
-تفتكر الباتعة لسَّه عايشة؟
سؤالها مخطرش في بالي قبل كده، دَه اللي خلاني أفكَّر شوية قبل ما أجاوبها وأقول لها:
-الباتعة لمَّا سابت المنطقة كانت داخلة على أربعين سنة، وقتها كان عندي عشر سنين، وبما إني دلوقت في الأربعين يعني الباتعة عُمرها بتاع سبعين سنة.
-وسبعين سنة مش كتير، جايز تكون لسَّه عايشة وافتكرت البيت بعد السنين دي كلها ورجعت.
-ده احتمال وارد جدًا، أومال مين يعني اللي هيفتح البيت.
قطعنا كلامنا لمَّا سمعنا دوشة في الشارع، قُمت ناحية الشبَّاك وفتحته وبصِّيت منُّه، ساعتها لمحت الشيخ خليل وجنبه الواد حلاوة، ومعاهم كام واحد من اللي بيقعدوا دايمًا على القهوة بالليل، أول ما وقفوا قدام البيت بصُّوا ناحية شباك شقتي، ولمَّا الشيخ خليل لمحني شاور وقال لي:
-عاوزينك في كلمتين يا أستاذ فريد.
قفلت الشباك وبصِّيت ناحية رضوى اللي سألتني:
-خير يا فريد إيه الحكاية؟
ردِّيت عليها وأنا رايح ناحية باب الشقة وقُلت لها:
-علمي علمك، يا خبر بفلوس كمان شوية يبقى ببلاش.
خرجت من الشقة وقفلت الباب ورايا ونزلت، ولمَّا خرجت من البيت ووقفت معاهم عشان أشوف إيه الحكاية الشِّيخ خليل قال لي:
-بيت الباتعة فعلًا مفتوح زي ما قال الواد حلاوة، ولمَّا خبَّطنا على الباب ودخلنا شُفنا واحدة طبق الأصل من الباتعة، بَس سنّها صغيَّر، ولمَّا سألناها أنتِ مين قالت إنها ياسمين بنت الباتعة، وإنها رجعت بعد ما أمها ماتت عشان تعيش هنا.
كل ده كان منطقي وعادي، وده اللي خلَّاني أرد على كلامه وأقول له:
-فين المشكلة طيِّب يا شيخ خليل؟ واحدة ورجعت بيت أمها.
ساعتها رَد عليَّا بنرفزة وقال لي:
-طبعًا مشكلة، أنت ناسي الباتعة واللي كانت بتعمله؟ وعلى رأي المثل "اقلب القِدرَة على فُمّها تطلع البِنت لأمها"، وأكيد شاربَة من نفس المِسقى وبتعمل نفس اللي كانت بتعمله الباتعة، ورجوعها معناه إن اللي كان بيحصل في المنطقة هيرجع من تاني، يعني ريما هترجع لعادتها القديمة.
لمَّا قال كِدَه واحد من اللي واقفين اسمه الحاج محمد؛ صديق الشيخ خليل ودايمًا بيقعد معاه على القهوة، ساعتها رَد عليه باستظراف وقال له:
-خايف تترِبط تاني ولا إيه يا شيخ خليل؟
تعليقه مكانش في محلُّه، عشان كِدَه الشيخ خليل ساب الموضوع وقال له:
-مُش وقت هزارك البايخ دَه يا محمد، لازم نشوف حل للحكاية دي، إحنا ما صدَّقنا ارتَحنا.
قال كلامه دَه وبَص لي، عشان كِدَه سألته:
-إيه المطلوب منّي؟
-المطلوب نتأكِّد إن اللي في البيت تبقى بنت الباتعة.
استغربت كلامه وقُلت:
-الحكاية مش محتاجة تأكيد ولا حاجة، واحدة بتقول إنها نسخة طبق الأصل من أمها، ومعاها مفتاح القفل اللي على باب البيت وفتحت ودخلت، يعني أكيد بنتها.
-لأ وكمان لمَّا اتكلمت معاها قالت إن معاها عقد البيت والأوراق اللي بتثبت إنها بنت الباتعة.
-أومال عاوز إيه تاني عشان تتأكد؟!
-عاوزك تتأكد من عقد البيت بما إنك في الشَّهر العقاري، وكمان عاوزك تكلم حد من حبايبك في السِّجل المدني يشوف بيانات الباتعة وبنتها، نتأكد في شهادة وفاة للباتعة ولا لأ، ونتأكد كمان إن بنتها عايشة ومفيش شهادة وفاة باسمها عشان نعرف مين اللي في البيت، مش عاوزين الأيام اللي فاتت ترجع تاني.
-لو على السِّجل المدني بسيطة، نقدر من خلال الأسماء نتأكد، بَس يا ترى هنوصل لعقد البيت اللي هنتأكد منه إزاي؟
حَط إيده في جيبه وطلَّع كام ورقة وقال لي:
-كلنا كنا عند بيت الباتعة، وقُلنا للي بتقول إنها بنتها لو مشوفناش عقد البيت هتحصل مشكلة، وساعتها طلَّعت صورة نشوفها، بَس عاوزين نتأكد إن كانت الأوراق مظبوطة ولا لأ.
أخدت الأوراق منُّه وقُلت له:
-كده الحكاية بسيطة، الصُّبح تيجي الشُّغل عندي ونتأكد، بَس تيجي لوحدك يا شيخ خليل، مينفعش اللَّمة دي كلها تبقى في المكتب، كفاية الزحمة اللي هناك.
وبالفعل، بعد ما وصلت شغلي بساعة؛ لقيت الشِّيخ خليل عندي، طلبت منُّه ينتظر لحد ما أخلَّص الشغلانة اللي كانت في إيدي، ولمَّا فضيت وقف جنبي وطلَّعت الأوراق اللي كنت أخدتها منُّه، فتحت السيستم عشان أبحث برقم التوثيق اللي على العقد، لكن للأسف السيستم وقتها كان واقع، عشان كِدَه حطيت الأوراق على جنب وقُلت له:
-السيستم واقع يا شيخ خليل.
-واقع يعني إيه؟
-يعني مش راضي يفتح.
قرَّب وشُّه من شاشة الكمبيوتر وهو بيحاول يقرأ الرسالة اللي مكتوب فيها "تعذَّر الدخول" وبعد كام ثانية قال بنرفزة:
-افتح يا سيستم!
شدِّيته من دراعه عشان يبعِد وشُّه عن الشاشة؛ لأن ممنوع حد يشوف السيستم اللي بنشتغل عليه ويقرَّب من شاشة الكمبيوتر، ولو حد أخد باله هسمع كلمتين مالهومش لازمة، عشان كِدَه قُلت له:
-هوَّ إيه اللي افتح يا سيستم، هوَّ مغارة علي بابا! كل الحكاية إن الشبكة فيها مشكلة وشوية وهتشتغل.
انتظر وهو على آخره، بَس مفاتش وقت طويل والشبكة ظبطت والسيستم فتح واتأكّدت من العقد، لأن صورة الأوراق اللي معايا كانت نفس نسخة العقد الأصلي اللي على الميكروفيلم، عشان كِدَه قُلت للشيخ خليل:
-العقد سليم.
بص لي باستسلام وقال:
-يبقى معادش فاضل غير إننا نتأكد إن اللي في البيت هي بنت الباتعة فعلًا.
برغم إن كل حاجة بتأكّد إنها بنتها، لكن اتصَّلت بواحد حبيبي في السِّجل، وبعد ما أخد اسم الباتعة بالكامل؛ واللي الشيخ خليل كان كاتبه في ورقة، اتأكِّدت إن الباتعة ماتت فعلًا وفي شهادة وفاة صادرة باسمها من تاريخ قريِّب، لكن ياسمين بنتها مكانش لها غير شهادة ميلاد، وده معناه إنها عايشة وهي اللي موجودة في البيت.
في اليوم دَه خلَّصت شغلي وخرجت والصداع بياكل في دماغي، رجعت المنطقة عشان أبدأ روتيني العادي بتاع كل يوم، أتغدَّى وأريَّح ساعتين وبعدين أنزل القهوة، بَس بمجرَّد ما دخلت المنطقة حسيت بحاجة غريبة، الناس مكانش ليها غير سيرة بنت الباتعة اللي رجعت فجأة، دَه غير إني شُفت الشيخ خليل والنَاس قاعدين على القهوة قبل صلاة العصر، وده في حد ذاته شيء مش مُعتاد، أخدت بعضي ومشيت ناحية القهوة، وقبل ما أدخل قابلني الواد حلاوة، أوِّل ما شافني قال لي:
-النَّاس خايفة يا أستاذ فريد، بيقولوا إن بنت الباتعة هتعمل نفس اللي أمها كانت بتعمله.
معلَّقتش على كلامه، كملت في طريقي ودخلت القهوة، ساعتها الحاج محمد صديق الشيخ خليل قال لي:
-متأكد إن العقد اللي مع البنت دي سليم؟
-متأكد طبعًا، صورة طبق الأصل من العقد الأًصلي، وعليه نفس الختم الشخصي بتاع الباتعة.
بعد اللي قُلته لقيت كل واحد بكلمة، اللي يقول لازم نطردها من المنطقة، واللي يقول نبلَّغ عنها، دَه غير اللي شَطح بخياله وقال نحرق البيت وهي نايمة فيه، وده اللي خلاني ردّيت عليهم وقُلت:
-بَس بقى، ليه كل ده يعني! واحدة ورجعت بيت أمها بعد ما ماتت، ومش شرط تكون زي أمها، جايز البنت تكون حاجة تانية ومالهاش في الطريق ده، وبعدين إحنا ليه بنسبق الأحداث وبنقدَّر البلا قبل وقوعه، إحنا ننتظر ونشوف الدنيا هتمشي إزاي، لو لقيناها ماشية في نفس الطريق يبقى نُقف إيد واحدة ونطردها من المنطقة، ولو عاشِت في حالها يبقى لا ضَرر ولا ضِرار، ربنا سبحانه وتعالى نفسه قال: " وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى"، والباتعة اللي أذاها كان طايل المنطقة كلها ماتت، ليه إحنا هناخدها بذنب أمها بدون دليل؟!
كلامي خلَّى كل واحد يحُط لسانه في بوقٌّه، وبعد ثواني من الصمت الشيخ خليل بَص في ساعته وقال:
-طالما محدِّش علَّق على الكلام تبقوا موافقين، لمَّا نشوف آخرتها، بالإذن بقى عشان ألحق أذان العصر.
سابنا وخرج من القهوة وخرج معاه الحاج محمد، أما أنا فأخدت بعضي وقُمت عشان أطلع البيت؛ لأني مكنتش شايف من الصداع، ساعتها قابِلت الواد حلاوة، كان راجع ناحية القهوة، أوِّل ما شُفته ندَهت عليه وقُلت له:
-كُنت فين يا حلاوة؟
-كنت عند بيت الباتعة، أصل الشخاليل طلب منّي أبُص عليه من وقت للتاني وأراقبه.
-طيِّب كويس إنه راح الجامع قبل ما يسمعك بتقول عليه الشخاليل دي، كان زمانك دلوقت متعلَّق من قفاك.
-وأنا أعمل إيه يعني يا أستاذ فريد، أنا طريقة كلامي كده.
-أنت اللي عيِّل فقري، بتتكلم زي البرابند وبتيجي عند اسمه ولسانك بتاكله القطة.
مردّش عليا وحسيت إنه زعل من كلامي وحّس إني بتنمَّر عليه، عشان كده حاولت أجبُر بخاطره وقُلت له:
-بقول لَك إيه، ما تيجي نجوِّزك بنت الباتعة وتعيش معاها في البيت بدل ما أنت متبهدل في الشوارع.
-لأ يا عم الله الغني، أتجوز بنت واحدة دجالة وبتعمل سِحر عشان أخلِف عيال بقرون وديل.
ضِحكت على كلامه وقُلت له:
-يعني إيه عيال بقرون وديل؟
-عفاريت يعني.
-وعرفت منين إن العفاريت عندهم قرون وديل، أنت شُفتهم ولا إيه يا حلاوة؟
-لأ مشُفتش عفاريت أنا بس بقول اللي النَّاس بتقوله.
-طيِّب يلا اجري شوف مصلحتك عاوز أطلع آكل لقمة وأنام.
كمِّلت في طريقي ودخلت البيت، ولمَّا طلعت وفتحت باب الشقة؛ لقيت رضوى منتظراني في الصالة والغدا مرصوص على ترابيزة السفرة، قفلت الباب ودخلت قعدت على الترابيزة لأني كنت واقع من الجوع وقُلت لها:
-الأكل برِد بس مش مهم، أنا واقع من الجوع.
رضوى قامت من مكانها وقرَّبت منّي وسحبت الكرسي اللي جنبي عشان تقعد وتتغدَّى معايا وهي بتقول:
-اتأخرت ليه يا فريد؟
-قعدت شوية على القهوة.
-غريبة، أول مرَّة تيجي من شغلك على القهوة.
اختصارًا لأسئلة كتير؛ حكيت لرضوى عن اللي حصل في القهوة، قُلت لها إني كان لازم أقعد مع الناس وأشارك معاهم، لأني واحد من أهل المنطقة وأمرهم يهمني، وبعد ما عِرفِت الحكاية قالت لي:
-طالما دي ياسمين بنت الباتعة يبقى لازم متفضلش في المنطقة.
بلعت اللقمة اللي في بوقّي وقُلت لها:
-حتى أنتِ يا رضوى! إحنا ليه بنحكم على النَّاس ونحاسبهم من قبل ما يرتكبوا ذنب؟!
-يعني هي هتطلع لمين غير لأمها!
-لمَّا تبقى تطلع لأمها يبقى يحلَّها الحلَّال، وبعدين خلاص؛ الزمن دَه غير أيام زمان، واللي كانت بتعمله الباتعة معادش ينفع يتعمل، الدنيا اتغيَّرت ومفيش حد هيقبل بحاجة زي دي.
خلَّصت غدا واتوضيت وصلِّيت العصر، بعدها دخلت أريَّح ساعتين كالعادة، بَس بمجرَّد ما غمَّضت عيني شُفت نفسي في مكان غريب، أرض واسعة كلها رَمل وحصى وحوالين منها جِبال عالية، وعلى مدى بصري مكنتش شايف مخلوق في المكان غيري، حرارة الجَو عالية والشَّمس حامية، ومع الوقت استوعبت إني واقف حافي، حاولت أتحرَّك من مكاني؛ لكن الحصى اللي في الأرض مَنعني أكمِّل، ودَه لأني حسيت إني بدوس على إزاز مكسور، ولأني حسِّيت بألم مفاجئ بصِّيت من تاني في الأرض، لكن المرَّة دي لقيتني واقف في بِركة دَم، المنظر كان مخيف، عشان كِدَه الخوف كلبشني في مكاني ومقدرتش أتحرَّك، وبمجرد إدراكي لعجزي عن الحركة حسيت بإيد بتمسكني من كتفي، ضربات قلبي زادت فجأة، حرَّكت رقبتي بالعافية عشان أبُص على كتفي، ساعتها لمحت كَف إيد لونها أسود، أطراف صوابعها غرقانة حِنَّة، وبرغم خوفي بصِّيت ورايا عشان أعرف إيد مين اللي على كتفي، ساعتها بَس جُرعة الخوف الزيادة اللي أخدتها هي اللي خلتني أتحرَّك من مكاني، ودَه بسبب إني شُفتها، كانت بتبُص لي ببشرتها اللي باللون الأسود وعينيها الواسعة وبياضها المُخيف اللي حابِس النِّن جواه، الباتعة؛ وبرغم إني مشوفتهاش من وقت ما كنت طفل؛ لكن لسَّه شكلها المُخيف محفور في ذاكرتي، ساعتها حسِّيت بنفس الرعب اللي كنت بحسُّه زمان لمَّا ببُص في عينيها..
حاولت أهرب من قدَّامها لكن حسِّيت بالعجر مرَّة تانية، جسمي قشعر لما لمحت ابتسامة مخيفة ظهرت على ملامحها، الابتسامة ظَهرت لمَّا بصَّت ناحية بِركة الدَّم اللي كنت واقف فيها ورفعت وشَّها ناحيتي، وبدون ما أفكَّر بصِّيت في الدَّم ورفعت وشِّي ناحيتها من تاني، لكن اتفاجئت إني واقف لوحدي، الباتعة مكانش لها أثر، معادش فاضل غيري أنا وبِركة الدَّم، حتى المكان ملامحه اتغيَّرت، الجِبال اختفت وظهر مكانها بيوت المنطقة، عشان أتفاجئ إني واقف في منطقتنا وبِركة الدَّم موجودة في شارع من شوارعها.
فَتحت عيني فجأة والكُحَّة بتقطَّع في صدري، أنفاسي كانت شِبه مقطوعة، الوقت كان بيفوت ببطء، وبرغم إني قُمت من النوم مفزوع لكن الدنيا كانت لسَّه مضلِّمة من حواليا، مفاتش وقت طويل وسمعت خطوات سريعة بتقرَّب مني، بعدها لقيت إيد بتخبطني على ضهري خبطة خفيفة، ومعاها سمعت صوت رضوى وهي بتقول:
-بسم الله، مالك يا فريد، لحظة أجيب لَك كوباية مَيَّه.
مغابِتش ثواني ورجعت بكوباية مَيَّه، أخدت منها شفطتين وبعدها الشَّرقة اللي عندي راحت، ساعتها رضوى قالت:
-خير اللهم اجعله خير، كُنت بتحلم ولا إيه؟
أخدت نفس عميق عشان أتخلَّص من القلق اللي عندي وقُلت لها:
-أنا حلِمت بالباتعة، وفي الحلم كانت بتبُص لي نفس بصّتها بتاعة زمان.
-طيِّب استعيذ بالله، دَه مجرَّد حلم عشان سيرتها اللي اتفتحت فجأة لمَّا بنتها رجعت.
كلامها كان مظبوط، سنين طويلة والباتعة محدش يعرف عنها حاجة، ولمَّا سيرتها اتفتحت عرفنا إنها ماتت، وطول السنين دي لا شُفتها في حلم ولا فكَّرت فيها، مكنتش بفتكرها غير لمَّا حد يحكي حدوتة عنها، يبقى أكيد سيرتها اللي اتفتحت فجأة خلَّت عقلي الباطن يتسلَّى بيَّا.
لحد هنا الدنيا كانت تمام، بَس اللي مُش تمام وكُنت قلقان منُّه هي بركة الدَّم اللي كُنت واقف فيها، وأنا على حد علمي إن الدَّم في المنام مُش خير، عشان كِدَه قُلت لرضوى:
-بَس ظهور الباتعة في الحِلم كان معاه ظهور بِركة دَم.
-أولًا يا فريد دَه مُش حلم دَه كابوس، وثانيًا عاوز تشوف إيه وأنت جوَّه الكابوس، ورد بلدي مثلًا! أكيد هتشوف كل حاجة حواليك مخيفة، متفكَّرش كتير وقوم يلّا، الليل دَخل والعِشا اتصلَّت من شوية.
بصِّيت ناحية شباك الأوضة ولقيت الدنيا ضلمة برَّه، للمرَّة الأولى اللي أتأخَّر فيها بالشكل ده لمَّا بنام بعد ما أرجع من شغلي، عشان كده نَفخت وقُلت لها:
-ليه سيباني نايم كل ده؟!
-أنا دخلت أصحِّيك في ميعاد كل يوم لقيتك رايح في النوم وتعبان فقُلت أسيبك، مجاتش على يوم يعني.
معلَّقتش على كلامها، قُمت من السرير وغسلت وشي واتوضيت وصليت المغرب والعِشا، بعدها نزلت على القهوة، قعدت على ترابيزة فاضية وطلبت شاي وحجر معسِّل، ولمَّا بدأت أشرب فيهم، لقيت الشيخ خليل وعم محمد صديقه داخلين القهوة وقعدوا على الترابيزة اللي متعوِّدين يسهروا عليها كل ليلة، حاولت أركِّز معاهم وأعرف بيتكلِّموا في إيه، وبالمناسبة دَه لا طبعي ولا فضول منّي، كل الحكاية إني عاوز أعرف في حاجة جديدة حصلت ولا لأ، بَس لقيت كلامهم عادي وبعيد تمامًا عن حكاية الباتعة وبنتها، عشان كِدَه كبَّرت دماغي، فضلت أسحب في حجر المعسِّل وأنفخ الدخان ومعاه أطرُد خوفي من الكابوس اللي شُفته، والأيام بدأت تفوت على كده، الدنيا كانت هادية ومفيش أي حاجة بتحصل، حتى أخبار المنطقة اللي حلاوة بيجيبها كل ليلة للشيخ خليل كانت بعيدة تمامًا عن الحكاية دي، لحد ما في ليلة كنت قاعد على القهوة كالعادة وسمعت صوت الواد حلاوة وهوَّ جاي يجري ناحية القهوة وبيندَه:
-يا شخاليل؛ يا شخاليل.
كتمت ضِحكتي لمَّا شُفت رَد فعل الشيخ خليل على كلام حلاوة؛ اللي أوِّل ما وصل عنده عَفَقُه من قفاه كالعادة وقال له:
-يا أخي كرَّهتني في اسمي، جاي تقول إيه تاني يا جلَّاب المصايب.
-البت ياسمين بنت الباتعة، شُفتها واقفة على باب البيت وكأنها مستنيَّه حد، فضلت مراقبها من بعيد لحد ما جَت عربية لونها أسود؛ فخمة أوي يا شخاليل، ونزل منها واحد ودخل معاها البيت جوَّه.
كلام الواد حلاوة خلاني أفتكر الأيام الأخيرة للباتعة قبل ما تسيب المنطقة، لمَّا من وقت للتاني كان في عربية تيجي تقف قدام بيتها، وطبعًا معروف الناس اللي فيها كانوا عايزين إيه من الباتعة، بَس اللي حصل النهارده بيثبت حاجة مهمة، وهي إن ياسمين بنت الباتعة بدأت من النقطة اللي أمها انتهت عندها، عشان كِدَه الشيخ خليل بَص لي وقال:
-جالك كلامي يا أستاذ فريد، أظن كده الحكاية باينة زي نور الشَّمس، ما هي بنت الباتعة هتطلع إيه يعني.
خلَّص كلامه وطلب من الحاج محمد يقوم معاه، وقبل ما يخرج من القهوة بَص لي من تاني وقال لي:
-جاي معانا ولا مُش جاي يا أستاذ فريد.
مكانش ينفع أرفض؛ سيبت الشاي وحجر المعسِّل وخرجت معاهم وأنا بقول في بالي: "آه لو أطول زُمَّارة رقابتك يا حلاوة الكلب؛ كان لازم يعني تيجي قبل ما حجر المعسِّل يخلص!".
مشينا لحد ما وصلنا عند بيتها، وفعلًا لقينا العربية واقفة قدام البيت، عشان كِدَه الشيخ خليل دخل من الباب وندَه عليها:
-ياسمين، يا ياسمين.
اللي خَرج من البيت كان صاحب العربية، ساعتها بَص لنا من فوق لِتحت وكمل طريقه وركب عربيته ومشي، ومفيش ثواني وخرجت ياسمين، ودي المرَّة الأولى اللي أشوفها فيها بعد ما رجعت، فعلًا صورة طبق الأصل من الباتعة، بصَّت لكل واحد فينا بقرَف وبعدها بصَّت للشيخ خليل وقالت:
-خير يا شيخ خليل، متجمَّعين يعني بربطة المعلم، إيه مناسبة الزيارة الكريمة؟
طريقتها بتقول إن عينها قويَّة زي أمها ويمكن أكتر كمان، عشان كِده الشيخ خليل اتلجلج وهو بيرُد عليها وقال:
-مين اللي كان معاكي يا ياسمين؟
في اللحظة زي حطَّت إيدها في وسطها وقالت:
-يخصَّك في إيه عشان تسأل، ولي أمري ولا كاتب عليَّا عشان تحاسبني، بيتي وأنا حرَّة فيه، لمَّا يبقى يدخل بيتك تبقى تسأل.
ساعتها الحاج محمد اتدخَّل في الحوار وقال لها:
-إيه اللي بتقوليه دَه يا ياسمين، الشيخ خليل كلنا بنعتبره كبير المنطقة، وبعدين إحنا خايفين عليكي، مهما كان أنتِ بنت وعايشة لوحدك وميصحِّش راجل غريب ييجي ويدخل عندك البيت.
كلام الحاج محمد خلَّاها تطبق المثل اللي بيقول: "خدوهم بالصُّوت ليغلبوكم"، لأنها بالبلدي كِدَه شَرشَحت لنا وقالت:
-أنا صاغ سليم وأشرف من الشرف، واللي يبُص لي أدِب صباعي أجيب حَباب عينيه من جوَّه، ولو فاكرين إنكم لمَّا تتجمَّعوا عند بيتي برابطة المعلم هخاف وهحبس نفسي في البيت وهمنع الناس إنها تيجي عندي تبقوا غلطانين، أنا ولا أتخن شَنب يهزِّني، أنا بنت الباتعة، ويلا اتِّكل على الله منَّك له ومشوفش وِش حد فيكم هنا تاني.
بَعدها بصَّت للشيخ خليل وقالت له:
-وبطَّل تخلّي حلاوة الأهبل دَه ييجي يبُص على البيت كل شوية!
خرجنا من بيتها وإحنا في نُص هدومنا ورجعنا على القهوة، طول الطريق الشيخ خليل مكانش على لسانه حاجة غير إن كلامه كان على حق، ودلوقت فعلًا عرفنا إن كلامه على حق، بَس مين اللي كان يقدر يمنعها تدخل بيتها وبأي سبب وفي أي قانون، عشان كده لمَّا قعدنا على القهوة تاني الشيخ خليل قال:
-إحنا نروح نبلَّغ في القسم.
ساعتها ردّيت عليه وقُلت له:
-وهتروح تبلَّغ تقول إيه إن شاء الله، كان عندها ضيف معاه عربية فخمة زي ما قال حلاوة؟
-وتفتكر يعني الضيف دَه جاي ليه غير لو كان للأعمال والسِّحر اللي الناس كانت بتيجي لأمها عشانه.
-عن نفسي مش مستبعد حاجة زي دي، بَس برضه مفيش معانا دليل، ولو بلَّغنا ومفيش إثبات إحنا اللي هنشيل الليلة.
-يعني رأيك إيه؟
-رأيي نستنَّى لحد ما يبقى في دليل يدينها، ساعتها نبلَّغ عنها ونخلص منها ونريَّح المنطقة من الشَّر اللي منتظرها.
بعد اللي حصل الأيام فاتت طبيعية كالعادة، لحد ما الواد حلاوة جاب لنا خبر جديد، بَس الخبر كان من برَّه المنطقة، ساعتها عرفنا إن في بنت كانت بتلعب قدام بيتهم في وقت متأخر، وفجأة توكتوك وقف قدامها وفي إيد اتمدَّت منُّه خطفت البنت وطار، وعلى ما أمها خرجت كان التوكتوك اتبخَّر، وبرغم إن في كاميرا قريِّبة من البيت لكن التوكتوك كان من غير أرقام، دَه غير إن مفيش حد نزل منُّه ولا وشُّه ظهر عشان حد يتعرَّف عليه.
كان خبر عادي بنسمعه من وقت للتاني، عشان كِدَه الناس قالت: ربنا يجازي ولاد الحرام وقفلوا الموضوع، بَس اللي مكانش عادي، إن بمرور الأيام الواد حلاوة كان بيجيب أخبار ياسمين بنت الباتعة، والأخبار كلها كانت عبارة عن إن عربية فخمة واقفة قدام بيتها، لكن الجديد إنها كانت بتخرج مع الناس اللي في العربية وبتمشي معاهم، وبعد يوم أو اتنين العربية كانت بترجَّعها البيت تاني، واللي انتشر في المنطقة وقتها إنها سلكت طريق غير طريق أمها، قصدي يعني مطلعش ليها في السِّحر والدَّجل، وكل اللي بتعمله إنها ماشية شمال، وإن الزبون بييجي يتفق معاها وبعدها بتروح تقضي معاه ليلة أو اتنين مقابل فلوس، بَس كل الكلام دَه بالنسبالي كان زي الحكايات اللي الناس كانت بتحكيها عن الباتعة أمها، حواديت متدخلش دماغ عيِّل صغيَّر، وده لسبب بسيط، ياسمين بنت الباتعة صورة طبق الأصل من أمها، يعني لو في واحد بيدوَّر على واحدة شِمال يقضّي معاه ليلة أو اتنين أكيد هيدوَّر على واحدة سِت جميلة، والسبب دَه خلاني أستبعِد الكلام اللي بيقولوه، عشان كِدَه في ليلة لمَّا رِجعت من القهوة لقيت رضوى بتتكلم معايا وبتقول لي:
-هي الناس هتسكت على المسخرة دي كتير؟
ولأن كلام الناس مكانش داخل دماغي مكنتش فاهم رضوى تقصد إيه، عشان كده سألتها:
-مسخرة إيه اللي بتتكلمي عنها؟
-ياسمين بنت الباتعة، أنت مش سامع الناس بتقول إيه.
-أها. لأ سامع يا رضوى، بَس مش مقتنع بالكلام ده، البنت دي وارثة اللي أمها كانت بتعمله ويمكن ألعن كمان، وحكاية إن من وقت للتاني عربية تقف قدام بيتها دي معناها إنها بتلعب على تقيل.
-تقصد إيه؟
-أقصد إن في سِر هينكشف مع الوقت، مفيش حاجة بتفضل مستخبية.
الأيام كانت بتفوت ومفيش حاجة بتتغيَّر، والناس على القهوة مكانش وراهم حاجة غير سيرة ياسمين بنت الباتعة، وبرغم كل دَه مكانش في دليل إنها بتعمل حاجة مخلَّة بالشرف، خصوصًا إن العربيات لمَّا بتقف قدام بيتها وحد بيدخل عندها مكانش بيكمِّل خمس دقايق وبيخرج، والوقت ده لوحده كفيل ينفي الكلام اللي النَّاس بتقوله عنها لأنه مش كفاية عشان حاجة تحصل فيه، يعني تقدر تقول إن دخول الشخص عندها لأي سبب غير اللي النَّاس بتقوله، دَه غير كمان إنها لمَّا بتمشي مع الناس محدش بيعرف هي بتروح فين، يعني مفيش شاهد على إنها بتعمل حاجة.
كل ده كان بيدور في دماغي في يوم وأنا قاعد على القهوة وبسمع كلام الناس، اليوم دَه كان يوم خَميس، وفي العادة إني بتأخَّر على القهوة في الليلة دي لأن مفيش عندي شغل الصُّبح بدري، ومن كُتر التفكير الوقت أخدني لحد ما الناس مشيت ولقيت نفسي لوحدي على القهوة، القهوجي بدأ يلِم الكراسي قدامي عشان يلفت انتباهي إنه خلاص هيقفِل، مديت إيدي في جيبي وطلَّعت الحساب وسيبته على الترابيزة ومشيت، بَس مكانش عندي رغبة أرجع البيت وأدخل في حوار مع رضوى؛ اللي ما بقت تصدَّق تشوفني وتسألني عن بنت الباتعة، عشان كِدَه قرَّرت أتمشَّى لحد ما رضوى تنام على الأقل، بَس لأن دماغي بقت مشغولة بالحكاية دي؛ لقيت رجليا وخداني ناحية بيت الباتعة، ولمَا دخلت الشارع؛ اتفاجئت إن الدنيا ضلمة ونور العِمدان مطفي، الحكاية دي مفلتتش انتباهي لأني افترضت إن لمبات العمدان قديمة واتحرقت فجأة، كملت في طريقي لحد ما وصلت قدام بيت الباتعة، ومع أول خطوة قدام البيت لقيت نفسي هتزحلق، وده لأني دُست في شيء لزج موجود في الأرض مقدرتش أشوفه بسبب الضلمة، مسِكت نفسي عشان توازني ميختلِّش، ساعتها رجلي خبطت في حاجة موجودة في الأرض، مديت إيدي في جيبي طلَّعت تليفوني وفتحت نور الكشاف، عشان أتفاجئ إني واقف في بِركة دَم، بمجرَّد ما شُفت المنظر صورة الكابوس ظَهرت قدام عيني، اللي بيحصل كان نسخة بالكربون من الكابوس، نَفس بركة الدَّم، حتى الشيء اللي رجلي خبطت فيه بدون ما أشوفه كان كَف إيد ياسمين بنت الباتعة، واللي كان مطابق لكِف إيد الباتعة لمَّا مسكتني في الكابوس من كتفي، نفس الصوابع السودة بالحِنَّة اللي على أطرافها، وبرغم كل ده أخدت وقعت عشان أستوعب إني واقف جنب جثة ياسمين بنت الباتعة اللي مطعونة في بطنها ونزفت لحد ما ماتت، وكأن الكابوس كان إشارة على اللي هَشوفه!
الدنيا ضلِّمت أكتر من حواليا، جسمي كان بيتنفض من الخوف، ملقتش قدامي غير إني أبلَّغ عن اللي شُفته، طلبت رقم الشرطة وحطيت التليفون على ودني لحد ما المكالمة فتحت، وساعتها قُلت بصوت مهزوز وأنا مبحلق في الجثة:
-آلو، عاوز أبلغ عن جريمة قتل.
مفاتش وقت طويل والدنيا اتقلبت والناس قامت من النوم، الإسعاف شال الجثة وأنا طلعت معاهم على القِسم، كُنت المشتبه فيه الوحيد اللي قدامهم، لأن جزمتي كلها دم ومكانش في حد غيري، وهناك قُلت لهم إن مفيش دافع يخليني أقتلها، وفرضًا لو أنا القاتل كنت ههرب مش هبلَّغ عن نفسي.
الوقت فات وهُمَّا متحفِّظين عليا لحد ما يفرَّغوا الكاميرات اللي في المكان، ولما التفريغ وصل أخلوا سبيلي، وده لأن الكاميرات أثبتت إني دخلت الشارع والجثة كانت موجودة في الأرض، ومُش دَه بس السبب، الأهم من كِدَه إن من بين الكاميرات كان في كاميرا تصوير ليلي، واللي رصدت الشَّخص اللي اتعمَّد يكسر لمبات العمدان بعد ما الناس دخلت بيوتها، عشان يحوِّل الشارع لكتلة ظلام، والشَّخص دَه كان حلاوة، وبعدها رصدته وهو بيتدارى في بوابة بيت من البيوت لحد ما في عربية من إياهم دخلت الشارع ووقفت ونزلت منها بنت الباتعة، ولمَّا العربية مشيت خرج حلاوة في الضلمة وقرَّب من بنت الباتعة وطعنها بسكينة كان مداريها في هدومه، بعدها حط السكينة في هدومة من تاني ووقف يتفرَّج عليها وهي بتطلَّع في الروح، ولمَّا السِّر الإلهي خرج منها سابها ومشي، وبعدها بدقيقتين بالظبط دخلت أنا في الكادر.
بعد الحكاية دي الناس في المنطقة كانت بتخبَّط كف على كف، خصوصًا إن حلاوة اختفى بعدها، محدش كان مصدَّق اللي حصل، والناس على القهوة كالعادة كل واحد فيهم بيفسَّر الموضوع من وجهة نظره، لدرجة إن الحاج محمد وهو قاعد جنب الشيخ خليل قال:
-يا ناس أنا مش مصدَّق، بقى الواد حلاوة العبيط اللي مبيعرفش ينطق الشيخ خليل وبيقولها شخاليل يعمل العاملة دي!
-جرى إيه يا محمد هو أنا ناقصك يا أخي، يعني حلاوة يروح وتمسكهالي أنت! وبعدين أهو اللي حصل، واحد عبيط مالوش أصل ولا فصل وخلَّصنا من شر واحدة ربنا وحده عالم كانت هتعمل إيه بُكره، اقفلوا بقى السيرة دي.
الناس قفلت السيرة وكل واحد خلَّص قعدته ورجع على بيته، لكن تاني يوم وأنا في الشُّغل واحد حبيبي من السِّجل كلمني وقال لي إن حلاوة سلِّم نفسه، وإنه شافه بعينيه وهو داخل القسم لأن السِّجل في نفس المبنى، ولمَّا قفلت معاه المكالمة أخدت إذن وخرجت من الشغل، رجعت المنطقة ولقيت الناس متجمَّعة على القهوة والخبر واصلهم، ولأن الفضول كان جايب آخره معايا طلعت على القسم أنا والشيخ خليل، كنا عاوزين ندخل زيارة لحلاوة ونعرف منُّه السبب اللي خلاه يعمل كده، لكن للأسف مقدرناش ندخل عنده، ومكانش قدامنا غير إننا ننتظر يترحَّل على النيابة ومن بعدها تتحدِّد جلسة محاكمة، وفعلًا، الأيام فاتت وياسمين بنت الباتعة اندفنت والجلسة اتحدِّدت وحضرناها، بَس للأسف حلاوة مكانش في القفص بين المتهمين، وقبل ما نسيب القاعة ونمشي الحاجِب نَدَه على القضية الأولى وقال: حَسن سعيد البغدادي!
الاسم رَن في ودني، دَه نفس اسم جوز الباتعة اللي سابها وطفش منها من سنين طويلة، ساعتها رَد واحد من القفص كنا بنشوفه لأول مرَّة وقال:
-أفندم!
برغم إن الصوت كان مختلف، لكنه نفس قمشة صوت حلاوة، عشان كِدَه الموضوع لَفَت نظرنا كلنا، قعدنا من تاني عشان نفهم الحكاية، وساعتها القاضي سأله:
-أنت متَّهم بقتل أختك ياسمين سعيد البغدادي، إيه أقوالك في الاتهام المنسوب إليك؟
الكلام نزل علينا زي الصاعقة، بصينا للقفص وساعتها شُفنا واحد بيقرَّب من الحديد عشان يتكلِّم، كان نفس مواصفات جٍسم حلاوة لكن وشُّه مختلف، وساعتها قال:
-أنا ابن سعيد البغدادي وأخو ياسمين من الأب، أبويا طفِش من الباتعة مراته الأولى بسبب شغلها في السِّحر والدَّجل وأذى الناس، بَس قبل ما يهرب حاول إنه يخليها تبعِد عن الطريق اللي ماشية فيه، لكنها هدِّدته، ومكانش قدامه غير إنه ينفِد بجِلده، ساعتها راح بلد تانية واتجِّوز تاني وبدأ حياة جديدة، بعدها أنا جيت للدنيا ومن بعدي جَت أختي نورا، بَس أبويا كان باله مشغول على ياسمين لأنها مهما كانت بنته، حتى بعد ما سابوا المنطقة وصل لمكانهم وكان بيتابع أخبارها من بعيد، وخلال الفترة دي عرف إن الباتعة بدأت تشتغل على تقيل وتسخَّر سحرها في فتح المقابر والتنقيب عن الكنوز، ودَه طبعًا بمساعدة ناس كبيرة في الشغلانة كانوا بيستخدموها في فك الرَّصد اللي على المقابر، الحكاية دي سبِّبت صدمة لأبويا؛ لأن الشغلانة دي غير إنها حرام فهي خطر، والخطر دايمًا هيكون طايل بنته، لكن الصدمة الأكبر لمَّا أبويا عرف إن ياسمين نفسها اتعلِّمت من أمها وبقت تشتغل في فَك الرَّصد، ووقتها عرف إن الرحمة اتنزعت من قلبها زي ما اتنزعت من قلب الباتعة، لأن الرَّصد كان بيتفَك بقرابين بشرية بتندبح على باب المقابر ودمَّها بيصفى قدامها إرضاءً للجِن اللي بيحرسها، ولحد هنا أبويا قرَّر يتدخَّل عشان ينقذ ياسمين من مصير مُظلم، والنتيجة إن ظهور أبويا من تاني خلَّى الباتعة توصِّي عليه الناس اللي بتشتغل معاهم، ساعتها خطفوه وعرفت إنه اتقدِّم قربان على باب مقبرة، والحكاية موقفتش لحد هنا، الباتعة طلبت من النَّاس اللي بتشتغل معاهم يوصلوا لبيتنا، من وقتها وحياتنا اتقلبت جحيم، أمي ونورا أختي اتخطفوا، لكن أنا قدرت أهرب، وهروبي مُش جُبن لأ، أنا هربت عشان أعرف آخد حق أبويا، وحق أمي وأختي اللي عرفت بعدها إنهم اتقدموا قرابين، بَس الأيام فاتت والباتعة ماتت، ودخلت المنطقة في شخصية واحد عبيط مقطوع مالوش أهل، دَه طبعًا بعد ما وصلت لواحد من اللي بيعملوا الماسكات والأقنعة، طلبت منُّه يعمل لي الماسك اللي لبسته ودخلت بيه المنطقة اللي فيها بيت الباتعة عشان محدش يعرف شَكلي الحقيقي، واتدرَّبت كتير على الماشية العارجة اللي النَّاس في المنطقة تعرفها، دَه غير إني قدرت أغيَّر صوتي وأحبُك دور حلاوة العبيط، وفي وقت بسيط بقيت واحد من أهل المنطقة بدون ما حد يعرف أنا مين وظهرت فجأة ليه، وأنا عملت كل ده عشان اتأكِّدت إن ياسمين بنت الباتعة راجعة المنطقة تاني، والسبب إنها هناك هتقدر تستدرج أطفال أكتر عشان القرابين، ومن وقت ما بدأت أشوف العربيات الفخمة اللي بتقف قدام بيتها عرفت إن الحكاية بدأت، حتى أوِّل حالة اختفاء طفلة حصلت في منطقة قريِّبة بعد رجوعها بكام يوم، وفي الفترة اللي مكنتش بعمل فيها حاجة غير إني بتابع ياسمين بنت الباتعة، قدرت أوصل لأسماء بعض الناس اللي بتشتغل معاهم وقُلت عنهم في تحقيقات النيابة، أنا كنت أقدر أبلَّغ بدون ما ألطَّخ إيدي بدمّها، وعارف إن مهما كان دافع القتل فهو جريمة قتل، بَس مكانش سَهل عليا إن أبويا وأمي وأختي يتحوِّلوا لقرابين، لأ ومن مين، من أختنا وأمها اللي المفروض أم أختنا، أنا نفسي لو كنت وقعت في إيدهم كانوا قدِّموني قربان للجشع والطمع اللي بيجروا وراه، من وقت اللي حصل وأنا جوايا بُركان مُش هيخمَد غير بالانتقام، أنا مش فارق معايا إن كان تصرُّفي صَح أو غلط، اللي كان فارق معايا إني أطفي النَّار اللي جوَّايا حتى لو نهايتها موتي، ما أنا كِدَه أو كِدَه عايش ميِّت بعد اللي حصل، أنا مُعترف إني قتلت ياسمين، بَس معترض على كلمة أختي.. ياسمين مش أختي حتى لو كُنَّا من أب واحد وشايلين نفس الأسم، اللي تعمل كِدَه مينفعش تكون أختي، عشان كِدَه أنا معترف إني قتلت بنت الباتعة.
كل اللي في القاعة كانوا في حالة صمت رهيبة، محدِّش كان مصدَّق الحكاية اللي اتحَكت، عشان كِدَه الشِّيخ خليل بَص لي من غير ما ينطق، وفي اللحظة دي القاضي وقف الجلسة وقال الحكم بعد المداولة، بَس كنت عارف إنه الحكاية هتلبس حلاوة، أو خلوني أقول هتلبس حَسن سعيد البغدادي، لأنه اعترف بالقتل، والقتل جريمة مهما كان الدافع أو المبرر، عشان كده لمَّا القاضي استأنف الجلسة حكم عليه بـ 15 سنة، وكلنا فهمنا إنه راعى الظروف والظلم اللي وقع عليه واللي أكيد مثبوت عنده في أوراق التحقيق، والأيام بعدها أثبتت إن كلام حسن سعيد البغدادي مظبوط، لأن في ناس من اللي قال عليها وقعت فعلًا واتقبض عليهم، واتأكدنا إن الطفلة اللي اتخطفت من منطقة جنبنا اتقدمت قربان على باب مقبرة، ومن وقتها ومحدِّش بقى بيحكي حواديت الباتعة القديمة، لأن الناس نسيتها ومبقاش على لسانها غير حكاية بنت الباتعة، اللي طلعِت ألعَن من أمها، ولو كانت كمِّلت في المنطقة بدون سرَّها ما ينكشف، ربنا بَس أعلم باللي كان ممكن يحصل.
تمت...