يادوب بدأت آخد نَفَسي، أصل كانت دي المرَّة الأولى اللي أركب فيها طيارة، ويادوب الطيَّارة أقلَعت؛ وحسِّيت إن ودني مَسدودة، وكأنها اتمَلَت مايَّه، وبقيت حاسس فيها بألم فظيع، لكن مع الوقت بدأت أتعوِّد، واتضحلي إن صديقي "شاهين" اللي أنا مسافر معاه؛ كان عمَّال يكلمني، لكن كنت زي ما بيقولوا كده ضايع، ماكنتش سامعه، إنما هو بقى متعوِّد على السَّفر وركوب الطيارات؛ فالموضوع كان بالنسبة له عادي، ولما لاحِظ إني مش معاه؛ غَمَزني في كتفي كده وقالي:
-"علاء".. يا "علاء"، أنت مُش معايا يابني ولا إيه؟
بعِدت وشي عن شباك الطيارة وبصِّيتله، وبعد شوية كده قولتله:
-لأ أبدًا أنا معاك.
-معايا آه، طيب كُنت بقول إيه؟
-بقولك إيه، سيبك من جَو امتحانات الميد تيرم ده، قولي كنت بتقول إيه لأني يادوب بدأت أسمع وأنت بتنادي عليا.
-ده طبيعي يابني لحد أول مرة يركب طيارة، بَس مع الوقت هاتتعوِّد، كُنت بقولك بقى إن الحياة في أفريقيا مُختلفة جدًا، وطبعًا أنا هِنا مُش بقصد الطبيعة والحيوانات، والكلام اللي في بالك دَه، إطلاقًا، أنا بقصُد الناس والعادات، بالَك أنت، هتقابل هناك حاجات مُخيفة، هتلاقي هناك ناس السِّحر بالنسبة لهم زي صباح الخير عندنا كِدَه، بيؤمنوا به وبيصدقوه بشكل غريب، يعني هناك مثلًا، لو واحدة حبَّت واحد، بتخليه ييجي غصب عنه.
استغربت كلامه جدًا، المفروض إني مسافر معاه في شُغل، ولأول مرَّة، يعني الطبيعي يكلمني في تفاصيل الشُّغل، يفهِّمني الدنيا عاملة ازاي، مُش يكلمني في سِحر وكلام فارغ من دَه، مُش عارف ليه حسيت برهبة من السَّفَر، ولقيت قلبي اتقَبَض، لكن ركزت في آخر حاجة قالها، وبدأت أهرب من خوفي وأقولُّه:
-بقولك إيه يا "شاهين"، أنت بَدل ما تكلِّمني في الشُّغل بتكلمني في سِحر وكلام فاضي، ولا أنت عارف إن الطريق لأفريقيا طويل وبتسلِّي رحلِتَك، إيه اللي لو واحدة حبَّت واحد بتخلِّيه ييجي غصب عنه؟ ما الكلام ده موجود في مصر عادي، وموجود في كل مكان، أي حد يقدر يمشي في الطريق دَه لو عاوز.
لكن لقيته بيصادِر على كلامي وبيقولي:
-أنت عندك حق في اللي بتقوله، لكن الموضوع في أفريقيا مُختلف، أبشع أنواع السِّحر موجودة هناك، الفودو، السِّحر الأسود، مفعول الحاجات دي هناك مُش بيخيب، أنا حبِّيت أكلِّمك في الحاجات دي، عشان تبقى مُهيَّأ نفسيًا لو شوفت حاجة من دي قدامك هناك، دي كل الحكاية مُش أكتر.
قالي الكلمتين دول، وبعدها سَحَب المَنَامَة من ضَهر الكرسي اللي قدامه، وقبل ما يحطها على عينه قالي:
-أنا هنام شوية، ولما يبدأوا في توزيع وجبات الأكل صحِّيني.
ومفيش دقيقتين؛ ولقيته بيشخَّر، تقولش الباشا بيقيِّل في أوضة الضيوف في بيتهم!
بدأت أسلِّي نفسي وأنسى اللي سمعته، سحبت مجلَّة من ضهر الكرسي اللي قدامي، ولقيتها كلها باللغة الفرنسية، قلِّبت فيها شوية ومفهمتش حاجة، اتفرَّجت على شوية صور فيها، حيوانات ومحميات طبيعية، وشوية صور لناس أفارقة، وبعدها حطيت المجلة مكانها، وبدأت أبُص تاني من الشباك، وبرغم كل المحاولات دي، لكن كلام "شاهين" كان لسه بيرن في وداني.
مفيش حاجة قطعت تفكيري؛ غير المُضيفة وهي بتقولّي:
-حضرتك تحِب إيه؟ فراخ ولا لحمة؟
بصراحة؛ اللي سمعته من "شاهين" كان قافل نِفسي، عشان كده قولتلها:
-أي حاجة
بعدها غمزت "شاهين" في كتفه، رَفَع المنامة من على عينه وهو بيتَّاوِب، وقالي:
-إيه وصلنا؟
-قوم يا عَم، هتاكل إيه؟
المهم؛ أكلنا وشربنا شاي، وقضِّينا باقي الرحلة نتكلم في الشغل، وفي المُدَّة اللي هنقعدها هناك؛ لحد ما نصرَّف البضاعة اللي معانا، الحمد لله، الكلام مكانش فيه أي حاجة من اللي قالها "شاهين" قبل ما ينام، وفضِلنا على الحال دَه، لحد ما الطيارة نِزِلِت.
بعدها خلَّصنا إجراءتنا؛ أخدنا الشُّنَط بتاعتنا وطلعنا من المطار، وكان في انتظارنا عربية باعتها الشَّخص اللي بنشتغل معاه، ركِبنا وأخدتنا على بيت، في منطقة عرفت إن اسمها "وودستوك"، وعرفت لما وصلنا؛ إن البيت دَه هو اللي إحنا ها نُقيم فيه فترة وجودنا هنا.
حالة البيت كانت زي أغلب البيوت، قديم لكن حالته إلى حدٍّ ما كويسة، أصل أنا لَمَحت الشارع بعيني؛ ولقيت إن البيوت شبه بعضها، دا غير طبعًا البشرة اللي باللون الأسود، واللي معروف بها الأفارقة، لكن دَه ما يمنعش إني لقيت بعض العَرَب؛ رايحين جايين في الشارع، ولما "شاهين" شافني مستغرب قالّي:
-المنطقة هنا بيسكنها كتير من المُقيمين، يعني هتلاقي هِنا عَرَب كتير، ومصريين كمان، والبيت ده؛ عبارة عن حاجة زي فندق كده، أنا أقَمت فيه كتير قبل كده، هايعجبك.
ويادوب بيخلَّص كلامه، ولقينا عربية بتًقَف جنب العربية اللي كنا راكبين فيها، وساعتها نزل منها شَخص، كان بيسلِّم على "شاهين"؛ عرفت إن دَه الشَّخص اللي شغال معانا من جنوب إفريقيا، أنا طبعًا عرفته لأني شوفته في الصورة قبل كده؛ لكن دي المرة الأولى اللي أقابله فيها على أرض الواقع.
مكنتش فاهم حاجة من كلامه مع "شاهين"، أصل أنا مُش مُتمرِّس في اللغة الفرنسية أوي، بَس بعد ما خلَّصوا كلامهم، لقيت "شاهين" بيقولي:
-ده مسيو "سينزو"، طبعًا عارفه.
مديت إيدي سلِّمت عليه وأنا بابتَسم، وبعدها "شاهين" كمِّل كلامه:
-مسيو "سينزو" حاجز لكل واحد أوضة في البيت، النهاردة ها نرتاح، وبُكره هاخرج معاه نشوف التُّجار اللي هياخدوا مننا البضاعة، وأنت ها تفضَل في البيت عشان تهجِّز الطلبيات اللي هبلَّغك بيها، بالحَق، بيقول إن البضاعة موجودة في المخزن اللي في ضَهر البيت.
بعدها مسيو "سينزو" ده قال كلمتين مش فاهمهم، لكن الشكل العام؛ إنه كان بيندَه على حد في البيت، وكان تخميني صحيح؛ لأني بعدها شوفت بنت خارجة من البيت، وجاية ناحيتنا، وقَفِت تتكلِّم معاه، وبعدها لقيتها بتاخد الشُّنَط بتاعتنا؛ عشان تدخَّلها البيت.
دَخَلنا وراها بعد ما مسيو "سينزو" مِشِي، عَرَّفت كل واحد فينا فين أوضته، طبعًا "شاهين" هو اللي كان بيتعامل معاها، ولقيته فجأة بيبُصِّلي وبيقولي:
-عينك، إيه يا عم "علاء"؟
-إيه يابني مالك؟
-عينك ها تبلع البنت؟
-بطل هزارك البايخ ده يا "شاهين".
-خلي بالك دي مسيو "سينزو" قال إن عندها 13 سنة، واسمها "آچارا".
بصيتله باستغراب كده، لكنه كمِل كلامه وقالي:
-بَس هُما هنا بيكبروا بسُرعة غير عندنا.
كبَّرت دماغي من كلامه، دخلت أوضتي وحطِّيت شنطتي، وبعدها غيَّرت هدومي وريَّحت على السرير، عيني بدأت تروح وتيجي بين الحيطان، لقيت حاجات متعلَّقة، سلسلة خشب كبيرة فيها ناب عاج، وخيط مربوط فيه قَرن خروف تقريبًا، وحاجات فيها خَرَز أزرق، كل ده بالنسبالي كانت حاجات غريبة، وبعد شوية لقيت باب الأوضة بيخبَّط، قومت عشان أفتح؛ ولقيت "آچارا" واقفة على الباب، كان في إيدها صينية عليها عيش وجبنة وفول، أكل مصري يعني، ابتسمتلي وأخدت منها الصينية، حطيتها على ترابيزة جنب السرير، ومكانش ليا نِفس آكل أي حاجة، رجعت أفرِد جسمي على السرير من تاني، بَس من إرهاق السَّفر والطيارة؛ لقيت نفسي بنام، لكن بعد ما غمَّضت عيني شوية، لقيت نفسي بقوم على صوت صريخ!
اتفزعت من مكاني، وقَفت ألِف حوالين نَفسي، عشان أشوف صوت الصريخ ده جاي منين، أصل الصوت زي ما يكون جاي من كل اتجاه، لكن الأكيد إنه كان من برَّه الأوضة، فتحت الباب وأنا قلبي مقبوض، خرجت من الأوضة، ومشيت في الممر؛ لحد ما طلعت في الصالة اللي برَّه، وساعتها لقيت "آچارا" قاعدة على كرسي، جسمها متشنِّج وراسها مايلة على كِتفها، عينها مقفولة وبوقها مقفول، زي ما تكون دخلت في غيبوبة، لكن الصريخ كان طالع منها، معرفش ازاي كانت بتُصرخ وهي في حالة السكون دي، وقفت مذهول، ولقيتني بفتِكر كلام "شاهين" وإحنا في الطيارة، الخوف بدأ يعمل عمايله معايا، لكن فجأة لقيت "آچارا" بتتنِفض، زي ما يكون في حاجة بتكهربها، وفجأة فَتَحِت عينها وبدأت تبرَّقلي، بقيت عامل زي الوَتَد اللي مَدقوق في الأرض، مش عارف أحرَّك رِجلي وأمشي، والخوف زاد جوايا؛ لما لقيتها قامِت من على الكرسي، وبدأت تقرَّب مني، إيدها كانت ممدودة قدامها وهي ماشية ببُطء، كانت حالتها بالظبط زي اللي بيمشوا وهما نايمين، لحد ما قرَّبِت منّي، وساعتها مسِكِتني من رقبتي، معرفش ازاي فَقَدت القدرة إني أبعِد إيدها عنّي، حسِّيت بألم رهيب وصوابِعها بتنغرِس في رقبتي، بعدها حسيت بحاجة دافية بتسيل على رقبتي، ومن غير ما أشوف إيه الحاجة دي؛ عرِفت إنها دَم مكان ضوافرها، كل ده كان بيحصل وأنا ماليش أي رد فِعل، كأن في حاجة مكتِّفاني، حسِّيت باختناق رهيب، عروق رقبتي بدأت تتنفخ، وحسيت بالرِّئة هاتنفجر، كنت متأكد إن خلاص؛ مفيش بيني وبين الموت غير لحظات، لكن في اللحظة الأخيرة، لقيت ضغط صوابعها على رقبتي بيقِل، بدأت آخد نَفَسي من تاني، وفي اللحظة دي؛ لقيتها وَقَعِت في الأرض فاقدة الوعي.
حسيت إن جِسمي اتحرَّر، أول حاجة عملتها؛ هي إني نزلت جنبها على الأرض، وبدأت أشوف هي جرالها إيه، كنت فاكر إنها ماتت، لكن لقيت فيها النَّبض، حاولت أفوَّقها، بدأت أضغط على إيدها وأهزِّها في كتفها، لكن كل ده مكانش لُه فايدة، سيبتها وجريت على أوضة "شاهين"، فضِلت أخبَّط على الباب، لكنه ما فَتَحش، قولت أكيد رايح في النوم ونومه تقيل، رجعت الصالة تاني، ولقيت "آچارا" بتتحرَّك، عرفت إنها بِتسترَد وعيها، استغلِّيت الفرصة وبدأت أفوَّقها، ولما فتحت عينها، لقيتها بتقولي كلام أنا مُش فاهمه، لكن عمَلت اللي عليا، ساعدتها تقوم من الأرض وتقعد على الكرسي، وبعدها لقيتها بتحط إيدها في جيبها، وبتطلع التليفون، وبتمِد إيدها ناحيتي، مكنتش عارف هي عايزة تعطيني التليفون ليه، رجعت تاني عند أوضة "شاهين" وخبَّطت على الباب، مرَّة واتنين، وبرضو ما فَتَحش، قرَّرت أفتح باب الأوضة، ولما فَتحته لقيت الأوضة مفيهاش حد، وساعتها عرفت إنه مش موجود في البيت، رجعت جبت تليفوني ورنِيت عليه، ولما رد عليا؛ عرفت إنه خرج مع مسيو "سينزو"، عشان في تاجر كان عاوز يتقابل معاه، لكن حكيتله عن اللي حصل مع "آچارا" باختصار، وقولتله إنها فاقِت من الغيبوبة؛ لكن قاعدة على الكرسي وبتحاول تقولي على حاجة، لكني مُش فاهمها، ساعتها طلب منّي أروح عندها وأعطيها التليفون، وفعلًا روحت، ولما أخدِت التليفون، بدأت تحكي معاه، ولما خلَّصت، لقيتها بترجَّعلي التليفون تاني، واتكلِّمت مع "شاهين"، اللي لقيته بيقولي حاجة غريبة جدًا:
-بُص يا "علاء"، هاقولَّك على حاجة، بس عاوزك تمسِك أعصابك شوية.
كلامه كان غريب، مُقلِق، مُخيف، لكن على كل حال، انتظرت يقولي الحاجة اللي عشانها هامسِك أعصابي، ولقيته بيكمِّل كلامه:
-دلوقت "آچارا" بتقول إنها إنسانة شفَّافة، من صُغرها وهي عنده القُدرة على إنها تشوف أي حاجة غريبة في المكان، جِن وعفاريت والكلام اللي أنت عارفه دَه، دا غير إنها بتعرَف الإنسان اللي نِجمُه خفيف، واللي ممكن يتعرَّض لأذى لو المكان فيه حاجة.
كُنت بسمعه وأنا مِتنَّح، مُش مستوعب اللي بيقوله، ولا عارف إيه علاقة اللي بسمعه باللي حصل مع "آچارا"، ولقيتني برُد عليه بتلقائية وبقولّه:
-أيون يعني أفهم من كلامَك ده إيه دلوقت؟
فِضِل ساكِت شوية وبعدها قالّي:
-"آچارا" بتقول إنها شافِت شيطان معدِّي من قدَّامها في الصالة.
بلعت ريقي كده وأنا بقولّه:
-نعم يا خويا؟ شافت شيطان معدّي! ليه؟ العيش عنده خلصان ونازِل يجيب من السوبر ماركت؟ إيه اللي بتقوله ده يا "شاهين"؟
-يابني افهم، أنا بقولَّك اللي هي قالتهولي، سواء بقى هي صادقة ولا مش صادقة، ولا بتخرَّف حتى، حاول تتعامل بشكل طبيعي، أنا كلها ساعة وجايلك، ومتنساش إني قولتلك وإحنا في الطيارة، الحاجات دي عادية عند الناس دي.
وقفل معايا المكالمة، وبقيت واقِف زي واحد مَبلول في عِز البرد، مُش عارف أسيطر على أعصابي، مُش قادر أتجاوز الخوف اللي جوايا، خصوصًا لما لقيتها بتبُصِّلي وعينها متثبِّتة عليا، معرفش إيه اللي ورا نظراتها المُخيفة دي، لكن بدأت أقرَّب منها، وكان كل تفكيري إننا نخرج من البيت، أنا أصلًا معرفش إن كانت المُشكلة في البيت ولا فيها، لكن حسِّيت إني خايف، خصوصًا إننا من ساعة ما جينا البيت، ما شوفناش فيه حد غيرنا، يعني غالبًا أنا وهي اللي موجودين هنا دلوقت، عشان كده قرَّرت نطلع برَّه، ولما قرَّبت منها بدأت أقولها:
-بُصِّي، أنا مُش عارف إن كنتي فهماني ولا لأ، بَس تعالي نطلع برًّه لحد ما "شاهين" ييجي.
حاولت بكل الطُّرق إني أخلِّيها تفهم، شاوِرت بإيدي على برَّه، وحاولت أشرحلها كلامي بتعبيرات راسي، لحد ما لقيتها بتهِز راسها إنها موافقة، قولت في نفسي: يا فَرَج الله، مسِكتها من إيدها، وخلِّيتها تِسند عليا، ومشينا عشان نوصل لباب البيت، كانت خطوتها تقيلة، مكانِتش قادرة تُصلُب طولها، وفي نُص الصالة، الكهربا قَطَعِت فجأة، الدُّنيا بقت ضلمة من حوالينا، ماكنتش شايف صوابع إيدي، ولا شايف "آچارا" اللي كانت مكلبِشة في دراعي، وفجأة؛ لقيتها بتُصرخ تاني، صرختها كانت أصعب من اللي فاتت، ولقيتها بدأت تتكلم كلام أنا مُش فاهمه، لكن لاحظت إنها بتحاول تقول كلمة بالعربي، يمكن عشان أفهم، لكن لغتها كانت عربي مِكسَّر، وبعد ما كرَّرتها كذا مرَّة ورا بعض، عرفت إنها بتقول:
-شيطان.. شيطان.
حسِّيت إن نُصِّي التحتاني سابني ومِشي، كنت هاقَع من طولي، ورجلي مكانِتش قادرة تشيلني، ولولا إنها كانت مكلبِشَة في إيدي كنت سيبتها وجريت، لكن لقيتها بتضغط على إيدي أكتر، وكان عندي إحساس، مش عارف إن كان صح ولا غلط، إن ضوافرها بتطوَل، وبتغرِز في إيدي، ساعتها حسِّيت بألم، بصِّيت للناحية اللي واقفة جنبي فيها، لقيت عينها منوَّرة في الضلمة، كان لونها أحمر، وفيها نِن أسود بيضاوي، حاولت أجري لكن مَسكِة إيدها كانت أقوى من قُدرِتي، وفي الضلمة، حسّيت إن عينها بتقرَّب منّي، في اللحظة دي؛ حسيت بخطوات كتير بتتحرَّك حوالينا، معرفش دي خطوات مين، لكني كنت سامعها ومتأكِّد منها، دا غير إني سمعت ناس بتُصرخ، أو مُش صراخ بالظبط، دا كان خليط بين الصرخات والزغاريد، حاجة كِدَه ميكس مش مفهومة، ومعاها صوت طَبل، وصوت طقطقة خشب بيتحرِق، وساعتها حسِّيت إن في صَهد طالع من وِش "آچارا"، غمَّضت عيني عشان مشوفش عينها اللي مكنش في غيرها ظاهر في الضلمة، وساعتها كل الأصوات وقفِت، إلا ضِحكة واحدة، ضِحكة بسمعها لأول مرَّة، والصوت بسمعه برضو لأوِّل مرة، مكانش صوت "آچارا"، لكن الضحكة كانت كفيلة بإن كل حواسي تُقف.
فوقت من اللي أنا فيه على إيد بتمسِكني من ضَهري، غير إيد "آچارا" اللي كانت لسَّه مِكلبِشة فيَّا، أعصابي سابِت وكُنت هَقَع في الأرض، لكن لقيت اللي بيسنِدني، في اللخبطة دي، مكنتش واخِد بالي إن في نور كشَّاف منوَّر في الضلمة، في اللحظة دي سمِعت صوت "شاهين"، وهو بيقولي:
-ما تخافش يا "علاء"، دي الكهربا قاطعة وكلها دقايق وتيجي.
أول ما سمِعت صوته، حسيت إن الرُّوح ردَّت في جسمي، قدِرت أخيرًا أقَف على رِجلي، ويادوب دقيقتين؛ لقيت الكهربا راجعة والبيت بينوَّر، واتفاجئت بإن "آچارا" مَرمية في الأرض جنب رجلي، وساعتها لقيت "شاهين" بيقولي:
-إيدك معايا نشيل البنت دي.
أخدت نَفَس عميق؛ عشان أتلَم على أعصابي، وبعدها شيلت البنت معاه، حطينها على كنبة من اللي في الصالة، وبعدها قولتله:
-بُص بقى، من ساعة ما قولتلي كلامك الغريب في الطيارة، وأنا جاي هنا وقلبي مقبوض، وفجأة سيبتني وخرجت، رغم إن المفروض إنك هاتُخرج بُكره، وحصلت معايا حاجات هنا ما كُنتش أتصوَّر إني أشوفها، بُص يا عم "شاهين"، أنا رِجلي على رِجلك لحد ما نخلَّص الشغلانة المنيِّلة دي ونمشي، مُش هقعد في البيت ده لوحدي، ولا مع "آچارا" دي.
-اهدى بس يا عم، مالك، متكبَّرش الموضوع.
-مكبَّرش الموضوع؟ هو ها يكبر أكتر من كده يروح فين؟ واحدة بتقولك إنها شافِت شيطان معدِّي قدامها في الصالة، وحصل معاها حاجات غريبة، ولما الكهربا فصلِت، شوفت عينها لونها أحمر، ونِن عينها كان بيضاوي، دا إذا ما كانتش بعينها دي هي الشيطان نفسه.
-يابني مسيو "سينزو" قالي إن البنت دي هي اللي قايمة على الخدمة في البيت، وإن الحكاية كلها إن البنت شفَّافة مش أكتر.
-شفَّافة إيه يا عم "شاهين"، دي سودة، حتة فحمة.
-يابني بطَّل التنمُّر اللي أنت فيه ده.
-أنا يا سيدي لا بتنمَّر ولا حاجة، إحنا الأسبوع اللي قاعدين فيه هِنا، رِجلي على رِجلك، آمين يابا الحاج؟
-مفيش مشكلة يا "علاء"، بس أنا مش عارف أنت قلبك خفيف أوي كده ليه.
-ياعم خفيف ولا تقيل أنا مُش هابيعه بالكيلو، أنت واحد بقالك سنين بتيجي هنا، ومتعوِّد على الكلام اللي قولتلي عليه، السِّحر والفودو وكل الحاجات دي، أنا يا عم ماليش في الحكايات دي، أنا واحد شارِكتك وجاي أشتغل، نخلَّص المصلحة دي ونطير من هنا.
-خلاص يابني ما تاكلش دماغي بقى.
أوِّل ما خلَّصنا كلام، لقينا "آچارا" بتتحرَّك، بعد شوية لقيتها بتفوق من الغيبوبة اللي كانت فيها، وبدأت تقوم من على الكنبة، الغريبة إنها كانت طبيعية جدًا، ومكانش فيها أي حاجة مُخيفة، واتكلِّمت عادي مع "شاهين"، ولقيته بيقولي:
-بتقولك تشرب شاي ولا قهوة؟
بصِّيتلها شوية كده، ورجعت بصِّيت لـ "شاهين" وقولتله:
-أنت بتهزر؟ هو بعد اللي شوفته ده هاشرب من إيدها؟ دا مُش بعيد تعملّي حاجة في السِّم الهاري اللي هاتِعمله وتِسحرلي.
معرفش "شاهين" كان بيضحك على إيه، لكن حسِّيت إنه شايف كلامي عبارة عن سذاجة، وفي الآخر طلب منها تعمل قهوة، والبنت سابِتنا وراحت على المطبخ، ولقيته بيبُصِّلها وهي ماشية وبعدها قالّي:
-غريبة.
-هي إيه اللي غريبة بالظبط؟
-في العادة البنات اللي بتخدِّم على البيوت بتكون جسمها خفيف، دي جسمها مليان، بس باين عليها رشيقة برضو.
كلام "شاهين" كان غريب، البنت لا جِسمها مليان ولا في حاجة من اللي بيقول عليها، أنا شايف البنت كويسة، صغيَّرة في السن بس عود فرنساوي، أي نعم تغور بشياطينها، لكن اتأكدت دلوقت إنه أَحوَل.
لكن قعدنا نتكلِّم، وسألته هو كان مع مين بالظبط، وساعتها قالّي:
-مسيو "سينزو" اتصل بيا، وقالي إن في تاجر محتاج البضاعة كلها، وطلب منّي أجهَز عشان نروحله؛ لأنه كان منتظرنا، وتقريبًا كده خلَّصنا معاه في السِّعر، لو اتصل علينا وأكِّد السِّعر؛ هايشيل البضاعة بكره آخر النهار، وها نبقى قاعدين الأسبوع هِنا مافيش ورانا حاجة.
ولقيتني برُد عليه وبقوله:
-نُقعد الأسبوع؟ أنا مش هاقعُد في البيت ده ساعة بعد ما البضاعة تتباع.
-ليه يابني؟ إيه اللي مخوِّفك كده، وبعدين دا أنت وشَّك حلو، لقينا تاجر يشيل البضاعة كلها، قبل كده كنت بقعد أسبوع واتنين وتلاتة، وكانت الحاجة بتتباع بالعافية.
-هو كده يا "شاهين"، نخلَّص شُغلنا ونفُك من هنا.
في اللحظة دي؛ لقيت "آچارا" بتحط صينية عليها فنجانين قهوة قدامنا، بصِّيت لها وأنا متوتَّر، ولقيتها بتبُصلي، في الوقت ده "شاهين" حَب يحُط البُهارات بتاعته وقالّي:
-إيه، أبعت أجيب مأذون أفريقي؟ بَس خلِّي بالك أنت اللي ضهرك ها ينكِسر، البنت جسمها مليان.
للمرة التانية ألاقيه بيعيد الكلام في حاجة مُش شايفها، البنت لا جِسمها مليان ولا حاجة، هي بس لو طبيعية، وبعيد عن الشفافية والشياطين اللي راكبينها دي، كانت هتبقى مُزَّة من كل حاجة، ومعرفش ليه هو بيقول إنها مليانة، لكن قولت في سرّي: جتك نيلة في عينك يا أحوَل.
بعدها قعدنا ساكتين، و "شاهين" خلَّص فنجان القهوة بتاعه، لكن أنا ما مدِّيتش إيدي على فنجاني، بعدها قولتله إني داخل أنام، وإنه ما يخرجش ولا يروح في حتة؛ غير لما يقولي عشان أروح معاه، وفعلًا دخلت أوضتي وقفلت الباب عليا، ومددت على السرير، ويادوب ثواني، وعيني بدأت تغمَّض، ساعتها سمعت صريخ من تاني، وأصوات تانية، أو عشان أكون دقيق، الأصوات كانت عبارة عن الميكس اللي سمعته والكهربا مقطوعة، صريخ وزغاريد، وضحكة مُخيفة بصوت مختلف وملحوظ بين كل الأصوات دي، اتفزَعت وفتَحت عيني، لكن لقيت إني مش في الأوضة، أنا كنت في مكان غريب، الدنيا ليل وفي خِيَم كتير حواليا، ولقيت ناس كتير، كان نُصهم اللي فوق عريان، ومن تحت لابسين حاجة زي ما تكون چيبات، لكن كانت مليانة ريش ملوِّن، ووشوشهم كانت عليها ألوان كتير، كانوا بيصرخوا وبيلفّوا حوالين راكية نار، والأغرب، إني لقيت كومة قَش، كانت عاملة زي القُرطاس المقلوب، كانت بتتحرَك وبترقُص من نفسها، أنا اتأكدت من ده، لأنها كانت من وقت للتاني بتتقلب، وكانت من جوَّه مجوَّفة ومفيش فيها حد، ساعتها حسِّيت إن جسمي بيشوِّكني من الخوف، وخوفت أكتر؛ لما لقيت "آچارا"، كانت قاعدة جنب راكية النار، وفي إيدها حاجة زي العروسة القماش، وكانت بتغرز فيها دبابيس، وبتقرَّبها من النار وهي بتبُصِّلي وبتضحك.
لقيت نفسي بتنِفض من مكاني، فتحت عيني ولقيت إني لسه على السرير، لكن حالتي كانت حالة، جسمي بيرتعش والعَرَق نازل من كل حتة فيا، حاولت أستجمع أنفاسي، لكن لقيتها بتتحبس في صدري تاني، لما لقيت باب الأوضة بيتهز، وساعتها بدأت أشوف خيال، ومع الوقت، اتضح إن في حاجة بتعدِّي من الباب، كان لونها أسود، ويادوب ثواني وشوفت "آچارا"، كانت بتفوت من خشب الباب وكأنه مش موجود، وبتدخل الأوضة بطريقة غريبة ومش مفهومة، لدرجة حسيت إنها شيطانة ولا جِنِّيَّة، ماهي هاتفوت ازّاي من الباب بالشكل ده، بدأت أزحف بضهري لحد ما لزقت في شبّاك السرير، ومعادش في مجال إني أهرب، ولقيتها بتمِد إيدها ناحيتي، واتفاتجئت إن كان فيها العروسة القماش، والدبابيس مغروسة فيها، والأغرب من كده، إني لقيت راس العروسة القماش متغيَّرة، وكانت مكانها راسي أنا! وكانت بتضحك نفس الضحكة اللي بتضحكها جنب النار، واللي اتضحلي إنها الضحكة المخيفة اللي سمعتها والكهربا مقطوعة.
صرخت، ولو كان في حاجة أكتر من الصراخ كنت عملتها، قومت من السرير وبدأت أجري في الأوضة، حاولت أفتح الشباك عشان أنُط منه، لكن الشباك ماتفَتَحش، لكن فجأة سمعت خطوات برًّه الأوضة، في اللحظة دي لقيت "آچارا" اختفت، بعدها باب الأوضة اتفتح، ولقيت "شاهين" ومعاه "آچارا" داخلين، كنت في حالة صعبة، مش فاهم هي اختفت في إيه، وفي إيه جاية معاه من برَّه، ومن الصدمة، قعدت في الأرض، وأنا مِبحلَق فيهم وساكت.
"شاهين" كان بيقرَّب مني وهو مستغرب، وساعتها قالي:
-"آچارا" قالتلي إن نجمك خفيف، واللي زيك بيشوف حاجات محدش يقدر يشوفها، أصل هي شفَّافة وبتشوف برضو أي حاجة غريبة في المكان، بس في فرق بين الإنسان الشَّفاف، والإنسان اللي نجمه خفيف زيَك، الشَّفاف بيقاوم، واللي نجمه خَفيف الخوف بيسيطر عليه.
حاولت أجمَّع أعصابي وقولتله:
-أنا لازم أمشي من هنا يا "شاهين".
في اللحظة دي "شاهين" ما جادلش معايا وقالي:
-خلاص التاجر هياخد البضاعة، هايشليها بكره، مسيو "سينزو" لسه مكلِّمني من شوية، نقدر بعدها نسافر علطول، أنا برضو مقدَّر إن دي أول مرة تيجي فيها أفريقيا.
تاني يوم بالليل، كان التاجر واخد البضاعة، وبعدها كنا واقفين قدام البيت، وكان مسيو "سينزو" موجود، كنا منتظرين الشُّنط بتاعتنا تنزل، وطبعًا "آچارا" هي اللي طلعت تجيبها، لكن لما جابتها ونزِلِت حصلت حاجة غريبة، "آچارا" لما طلعت تجيب الشُّنط، نزلت وهي واحدة تانية خالص، جسمها مليان، واحدة تانية غير اللي كانت موجودة من أول ما جيت، ولاحظت إن "شاهين" ومسيو "سينزو" بيتعاملوا معاها عادي، ولا كأنها اتغيَّرت، كلهم كانوا طبيعيين وأنا اللي واقف مُش فاهم حاجة، لدرجة إنها لمَّا مدَت إيدها تسلِّم عليا، رفضت أسلِّم عليها من الخوف.
ركبنا العربية وطلعنا على المطار، خلَّصنا إجراءاتنا وركبنا الطيارة، وفي الطريق، لقيت "شاهين" بيقولي:
-كسِفتِنا والله.
بصيتله كده وأنا مستغرب البرود اللي هو فيه وقولتله:
-ما أنت ما حصلش معاك زي ما حصل معايا.
-يابني آدم، كل الحكاية إن "آچارا" دي شفَّافة، لو في حاجة غريبة بتشوفها، أنت بس اللي نجمك خفيف، وبتتأثر بسرعة، وهي قالت عنك كده.
-طيب بس خلاص اقفِل سيرتها، ولما نيجي أفريقيا تاني، نشوف بيت تاني غير ده.
-ماشي ياسيدي، رغم إن محلصش حاجة يعني، أومال بقى لو كنت جيت معايا من خمس سنين، وشوفت اللي حصل، وفي نفس البيت برضو.
الكلام لَفَت انتباهي، وحسيت إن عندي فضول أعرف إيه اللي حصل، فقولتله:
-وإيه بقى اللي حصل؟
-ولا حاجة يا سيدي، كان في بنت بتخدم في البيت قبل البنت دي، واسمها "آچارا" برضو، البنت دي كان عندها رشاقة مش على حد، عود فرنساوي، بس طلعت في الآخر ملعونة، بتعمل سِحر أسود وبتشتغل فيه، وكانت بتعمل سِحر لواحد مُقيم في البيت، سِحر أسود من اللي بيقولوا عليه الفودو ده، اللي بيتعمل على عروسة قماش وبينغرس فيها دبابيس، وكانت بتروح تعمله عند قبيلة مشهورة بالسحر، بس بيقولوا وهي بتعمل السِّحر، الشيطان اللي حضر لبسها، وفضل وراها لحد ما انتحرت في البيت، أنا حضرت الحادثة دي على فكرة وكان عندي شغل هناك، ومن بعدها جت البنت اللي موجودة دي، اسمها "آچارا" برضو، لكن طيِّبة، مابتعملش حاجة، بس ممكن تقولك إن المكان مش كويس لو شافت فيه حاجة، دا أنا حتّى كان ليا صورة مع البنت "آچارا" التانية الملعونة دي، قبل ما أعرف إنها بتاعت سِحر أسود.
بلعت ريقي بعد كلامه، والفضول أخدني تاني وقولتله:
-ممكن أشوف الصورة؟
وساعتها فتح تليفونه، وفضل يدوَّر في الاستوديو، رجع لصور قديمة جدًا لحد ما وصل للصورة، ولما فتحها، حسّيت بصدمة، لأن "آچارا" اللي بتشتغل في السِّحر الأسود، وكانت معاه في الصورة وانتحرت، كانت هي "آچارا" اللي شوفتها من أول ما وصلت، لحد ما سيبت البيت.
فضِلت ساكت وأنا مصدوم، لدرجة إن "شاهين" قالي:
-"علاء".. مالك يابني؟ ساكت ليه؟
ماكنتش لاقي حاجة أقولها، ولا كنت عايز أقول على اللي عرفته، ولا كنت عايز أتكلِّم في الموضوع أصلًا، عشان كده قولتله:
-مافيش يا "شاهين"، أنا هاحُط المَنَامة على عيني وهنام شوية، وابقى صحِّيني على وجبة الطيارة.
تمَّت...