في حياة المرء أحداث تكون بمثابة إشارة إلى شيء ما سيحدث! من أهم تلك الأحداث في حياتي أنني بعد تخرجي في جامعة الأزهر الشريف رأيت أنه لا مكان لي في مسقط رأسي بمحافظة بني سويف (120 كم جنوب القاهرة) وقد تلقيت عددا من العروض للعمل في أماكن مهمة بالمحافظة؛ غير أنني قررت أن أرحل نحو الشمال إلى القاهرة حيث الناس لا ينامون والمحال لا تغلق والشوارع لا تنفض من المارة، وبالفعل ذهبت وحاولت محاولات عديدة ومتكررة في أكثر من مؤسسة؛ لكني فشلت. نعم: فشلت في أن أجد لنفسي موطئ قدم في مؤسسة جيدة أستطيع من خلالها أن أعمل ما أحب، لا أن أعمل ما يراه بعض من أهلي جيدا وأكثر استقرارا.

بعد معاناة من السكن وحيدا بعيدا عن أهلي وأصدقائي، والعيش بعيدا عن محبوبتي بني سويف، انتابتني حالة من اليأس، يأس قادني إلى قرار العودة إلى بني سويف وقبول أي من الوظائف المكتبية الروتينية التي يحلم بها كل أقراني والتي عُرضت علي وركلتها.

عدت إلى بني سويف عصر الخميس؛ فنمت كما لم أنم في حياتي، نعم: نمت مطمئنا ساكنا آمنا، كمثل النومة التي نامها الرئيس السادات ليلة النصر، في السادس من أكتوبر عام 1973، واستيقظت مع آذان فجر الجمعة، فشعرت براحة روحية وكأني لم أنم منذ ألف عام. توضأت وذهبت إلى مسجد نور الإسلام المجاور لمنزلي، وأمام باب المسجد تصادف أن قابلت إمامه الموقر الذي يحبه جميع من في الحي ويجلونه، فاقترب مني وقال هامسا: "هتصلي بينا النهاردة بإذن الله يا أستاذ محمد" فقلت: "عفوا، مش هقدر".

وعندما أقام المؤذن للصلاة ابتعدت تماما عن القبلة ووقفت في آخر الصف عسى أن أبعد الفكرة عن ذهن الإمام، غير أن إلهامه تشبث بإغراء أن يكون الشاب الحاصل على درجة الإجازة العالية من الأزهر الشريف، والحافظ للقرآن الكريم، والعائد لتوه من العاصمة، والممسك بمسبحته الكريستالية الحمراء، هو إمام الحي لهذه الشعيرة المقدسة.

اقترب مني ودفعني دفعا إلى القبلة؛ ومع إصراره وإظهاره رغبة عارمة في الأمر؛ تقدمت لإمامة الحي، ورتلت كما لم أرتل في حياتي. 

خرجت من المسجد، فوجدت حفاوة من الناس بشكل بدا لي مبالغ فيه، وعندما عدت إلى المنزل بعد قليل من التريض، جاءني اتصال من طاقم إعداد المذيعة ريم عادل أنور في برنامج "صباح الخير يا مصر"، يطلب مداخلة عن "أهمية الجد والمثابرة في الحياة بمناسبة اليوم العالمي للشباب"، فشعرت بهاتف قوي وغير معتاد يتردد في أنحاء غرفتي الطويلة الفسيحة المطلة على الشارع، بينما ترفرف ستائر الدانتيل المخملية البيضاء الناصعة، من حولي، بأن أعود إلى القاهرة، وكأن إمامة الناس إشارة إلى أن الطريق بات مفتوحا إلى منتهاه، بعد أن كان موصدا عند مبتداه. وبالفعل عدت إلى القاهرة فورا، وكان ما كان!

اليوم جاءني هاتف مماثل وقت أن كنت أسند ظهري على الكرسي القطيفي الأزرق المهيب باستوديو الهواء العالمي والمشرف لقناة النيل للأخبار بينما أحلل مشهد التغيير الوزاري الجديد.

بقى أن أذكر أنني طوال تلك السنوات الحافلة بالدراما استعنت على قضاء حوائجي بالمثلث الذهبي الذي رسمته معلما واحدا لا بديل عنه لحياتي: عبادة الله ـ طاعة والديّ ـ خدمة الناس.

 

#تأملات_ليلية