1ــ بحلول فجر الإثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ كانت كل وسائل الإعلام الدولية تقول إن اتفاقا قد قاب قوسين أو أدنى بين الاحتلال الإسرائيلي ولبنان بعد عدوان دام أكثر من شهرين على هذا البلد وإن أمريكا تضغط على تل أبيب للموافقة على الاتفاق قبل قدوم عيد الشكر المقرر له الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤.

2ــ في تلك الأثناء شردت بذهني بعيدا وعدت 14 قرنا إلى الوراء وتذكرت قصة عائلة "ياسر" وهو صحابي جليل عذبه بنو مخزوم وهم أحد أعرق عشائر قبيلة قريش، وقتل أبو جهل زوجته السيدة سمية التي تعد أول شهيدة في الإسلام، ثم أكرِه عمارٌ على تعظيم الأصنام ففعل ذلك بلسانه من دون قلبه ونزلت فيه الآية الشهيرة رقم 106 من سورة النحل {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.

3ــ ولقد تذكرت أنني درست في كتب السيرة والتاريخ في الصف الأول الإعدادي بالأزهر الشريف أن الرسول محمد ﷺ كان يمر على هذه العائلة المؤمنة ويجدها في طور العذاب فيقول "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، ولم يقاتل بني مخزوم الذين تولوا تعذيب الأسرة المؤمنة المحتسبة وقتلوا الأب والأم وأكرهوا الولد على الكفر.

4ــ وعمار بن ياسر هذا صحابي جليل للغاية وهو من القلائل في تاريخ الإسلام الذين نالوا مكانة عظيمة لدينا نحن السنة ولدى الأخوة أتباع المذهب الشيعي، وهو أحد ثلاثة قال الرسول ﷺ عنهم "إن الجنة تشتاق إلى ثلاث، علي وعمار وسلمان"، وإن كان الحديث ضعيفا لكنه يوافق أقوالا أخرى للنبي عن الثلاثة الكبار.

5ــ الشاهد هنا أن الرسول وهو أفقه الناس بالدين وبالسياسة في هذا التوقيت لم يذهب لقتال بني مخزوم لعلمه صلى الله عليه وسلم بعدم تكافؤ موازين القوى ولعلمه أن الأولوية للرسالة لا للأشخاص، وإدراكه التام بالأمور التي ندرسها نحن الآن في العصر الحديث تحت مسمى الإستراتيجيات الكبرى والتي يجهلها بعض الأقدمين والمعاصرين على حد سواء.

6ــ كما أن هذه العائلة امتثلت إلى أمر الرسول بالصبر ولم تتهمه بالضعف أو التخاذل ولم تطالبه بقتال قوة أكبر من قوته في هذا الظرف صلى الله عليه وسلم، كما يفعل الآن من لم يتفقه في الدين أو في أمور السياسة أو في موازين القوى بين الأمم والجيوش.

7ــ الأسبوع الماضي في اليوم التالي لاغتيال محمد عفيف المسؤول الإعلامي في حزب الله استدعت جريدة "جام جم" الإيرانية الحكومية قصة عمار بن ياسر ووصفت عفيف على صدر صفحتها الأولى بأنه مثل عمار الذي قتلته الفئة الباغية (الصورة في أول تعليق).

8ــ ومن المعروف أن الرسول قال في حق عمار "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" (الحديث في البخاري ومسلم وهو متواتر رواه كل أصحاب السنن بأعلى إسناد متصل). وعندما وقعت الفتنة بعد استشهاد سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، اصطف عمار إلى جيش الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه وقتله جيش معاوية فاتضح وقتها لكل ذي عينين أن معاوية هو الباغي وأنه ما كان له أن ينازع عليا على إمامة المسلمين.

9ــ والآن ربما يعيد التاريخ نفسه، فالبعض يطالب بقتال إسرائيل وهي الفئة الباغية بل ويخوِّن من لا يقاتلها عن حماسة أو عدم إدراك لطبيعة الصراع الراهن بين إسرائيل ككيان وكيل للاستعمار الحديث بكل جيوشه ومصانع أسلحته وبين دول عالمنا العربي والإسلامي التي نهبت ثرواتها على مدى قرون وفعل هذا الاستعمار بعقول أبنائها وبدينهم الأفاعيل.

10ــ تذكرت عمار وأسرته وما حدث لهم ثم تذكرت لبنان وما حدث فيه من مذابح ولكم تمنيت أن يكون إدراك قادة أمتنا على مستوى إدراك الرسول وأن يكون صبر أبناء أمتنا على مستوى صبر آل ياسر.