قلبُ أمّ
بعد تَخَرُّجي بفترة قصيرة، تسلمتُ عملي كأخصائية اجتماعية مقيمة بدار المسنين تلك، لم يكن منبع سعادتي هو أن تلك الوظيفة ستأمن لي دخلًا أيًا ما كان، لكن لأنها ستمنحني دفئًا قضيت طفولتي وصباي أبحث عنه .
تسلمتُ ملفات نزيلات الدار؛ فقضيت الليل أقرأها، كلهن متشابهات في الظروف ومتقاربات في السن، لكن كان لأغلبهن أبناء، إما شغلتهم الحياة، أو أبعدتهم الغربة.
في الصباح .. استيقظت متحفزة لمباشرة أولى مهامي في متابعة الحالات عن قرب .. قضيت معظم ساعات النهار في المرور على الغرف، والتعرف على ساكنيها، كنت أطرق الباب برفق، فإذا ما سمعت التصريح بالدخول، دفعته ودخلت مبتسمة، مر اليوم على خير، عدا هذا الباب طرقته ولا مجيب، سألت العاملة :
- هي الأوضة دي فاضية؟
= لأ يا أستاذة... تلاقي الحاجة فاطمة في الجنينة زي عادتها.
توجهت لحديقة الدار أبحث عن الحاجة فاطمة، رأيتها من بعيد، جالسة بهدوء مرسلة بصرها للسماء، وعلى وجهها ابتسامة باهتة، لا أعلم ما حدث لي عند اقترابي منها، لماذا تأثرت كثيرًا بملامحها التي تركت السنوات علامات قاسية عليه، كانت عيناها جميلتين، إلا أن نظراتها تنطقُ بالحزنِ العميق، وكأنّها بئرٌ لا قرار لها، منحنيةُ الظهر؛ كأنّها تحملُ جبالَ العالمِ على عاتقها.
جلست بجانبها، ومددت يدي لأصافحها، أخذت يدي ووضعتها بين يديها، ثم رفعت وجهها نحوي، وبابتسامة أمومية سألتني:
- إنتي مين يا بنتي؟
أخبرتها أنني الإحصائية الاجتماعية المقيمة بالدار، ربتت على ظهر يدي وقالت:
- أهلا وسهلا يابنتي نورتي ..
ثم أعادت عينيها مثلما كانتا صاعدتين تجاه السماء .. فجلسنا صامتتين! حتى جاءت العاملة واصطحبتها لغرفتها.
كان نهار اليوم الأول لي بالدار قد انقضى، وأغلقت علي باب حجرتي وقد هدأت الدار إلا من صوت مذياع أو تلفاز، أو من صوت أنين يأتي من إحدى تلك الغرفات المغلقة.
لم تفارقني ليلتها ملامح وجه تلك المرأة، فابتسامتها ونظرة عينيها تركتا بداخلي حزناً، قمت وأحضرت الملفات، لم أكن أعرف اسمها كاملا، كان بين يدي ثلاث ملفات باسم فاطمة، فبحثت عن صورتها داخل كل ملف حتى عثرت عليها، حاولت البحث عن معلومات عنها، لكن كانت معلومات الملف محدودة.
في صباح اليوم التالي قررت أن أعرف عنها كل شيء، سألت العاملات عنها، وعلمت أن لها ولدين يزورانها ويقضيان معها بعض الوقت، انتظرت يوم الزيارة بشغف، استيقظت مبكرا وأنهيت ما علَيّ من عمل، ثم توجهت إلى الحديقة، وقفت من بعيد فرأيتهما يجلسان معها، شابان يشبهانها كثيرًا، لكن وعلى عكسها، كانت القسوة والجدية تبدوان على وجهيهما، ويبدوا من ملابسهما - ذات الماركة الغالية -أنهما ذوي مراكز مرموقة، كنت أحرك بصري بينها وبينهما، لاحظت أن حزنها لم يتبدل لرؤيتهما، نفس النظرة الحزينة والابتسامة الباهتة! استدرتُ عائدة إلى مبنى الدار، وطلبت من العاملة أن تبلغهما برغبتي في لقائهما.
كنت أجلس بمكتبي وأنا مازلت أراقبهم عبر نافذتي .. حتى رأيتهما يقفان ويقبلانها، ثم يسيران خلف العاملة نحو المبني، وضعتُ ملفها أمامي وانتظرت دخولهما.
عرَّفتُهما بنفسي، بادرني أحدهما وعرفني بنفسه ..
- حسام، ثم أشار إلى أخيه الجالس أمامه
- أخي الأصغر مازن ..
سألتهما عنها، وعن سبب وجودها بالدار وما لاحظته من حالتها النفسية، وسبب الحزن الدائم المرسوم على وجهها؟!
أخبرني ابنها الأكبر: أنّها هي من طلبت الدخولَ إلى الدّار، وأصرّت عليه، وأنها هنا في أمان، وأنهما مطمئنان عليها ، استغربت لرده ..
- ازاي تكونوا مطمنين وهي بالحالة النفسية دي؟!
= حالة إيه يا أستاذة؟!
- الست فاطمة حالتها النفسية سيئة، ده واضح جدًا، أنا لاحظت ده رغم إني بقالي هنا أسبوع
- أشاح ابنها الأصغر بيده وهو ينظر لي، ثم لأخيه ..
= أنا شايف إنها بخير، متكبريش الموضوع .. ولا إيه يا حسام؟!
أزعجني كثيرًا رده ولا مبالاته، حتى أنني انتفضت من خلف مكتبي وكاد صوتي أن يرتفع .. تمالكت نفسي حتى لا يظهر انفعالي الزائد .. ترقرقت الدموع في عيني، فاتجهت بنظري للشباك أحدث نفسي:
- آهٍ من جحودكما، فأنتما لم تجربا حياة اليتم مثلي، ليت لي أم مثلها كنت جلست عند قدميها أخدمها... لكنني أمسكت لساني، ثم انتبهت على صوتيهما يستأذنان للانصراف.. فبادرتهما:
- لكن كلامنا مخلصش ..
لكنهما انصرفا، على وعد بلقاء آخر .
كنت أقف خلف النافذة أتابعهما، فرأيتهما يتجاذبان أطراف الحديث وكأنهما يتجادلان فيما بينهما، كانت المسافة ما بيننا تحول دون سماع كلامهما جيداً، غير أن ما وصل سمعي هو اتهام كل منهما للآخر، وأنه هو وزوجته السبب في حالة أمهما وما وصلت إليه.
في المساء أثناء مروري اليومي للاطمئنان على النزلاء، مررتُ من أمام باب غرفتها، سمعت صوت أنينها، وعرفت أن هذا هو الصوت الذي كنت أسمعه ليلًا وأنا في غرفتي، طرقت بابها برفق، ثم دفعته ودخلت، وجدتها جالسة على سريرها تمسكُ بصورة بين يديها وكأنها تحتضنها، لاحظت أن (الزيارة) التي أحضرها ولداها، مازالت موضوعة على المنضدة كما هي لم تمسسها يدها، كانت تتمتم بكلمات مختلطة بالبكاء، حين اقتربت عرفت أن الصورة لابنيها، فجلست بجانبها، كنت أشعر باحتياجي لاحتضانها، لكنني خجلت وقمت بالتربيت على كتفها..
- اوعي تزعلي منهم، ادعي ربنا يهديهم، ده دعاء الأم مستجاب؟!
رفعت رأسها ونظرت إليّ وابتسمت والدموع في عينيها ..
- لا يابنتي، انتي فاكرة إني زعلانة ؟! أنا بس خايفة عليهم من سداد الدين..
سحبت يدي من على كتفها لأخفي الدموع التي غلبتني، فبادرت باحتضاني وبكينا