قراءة نقدية بقلم/ مها الخواجه
في رواية "مربعات أكاتشي"
✍️ للكاتب/ محمد سامي البوهي
📚 صادرة عن دار إبهار للنشر والتوزيع
---
أولًا: المعمار السردي والبنية الفنية
ليست "مربعات أكاتشي" رواية تسير على خطى البناء الكلاسيكي المعروف، بل تمثل تجربة سردية حداثية تنسج من التشظي والتركيب عالمًا متماسكًا على مستوى الرؤية. تنهض الرواية على بنية غير خطية، متحررة من التسلسل الزمني الصارم، لتقترب في نَفَسها من التجربة الصوفية التي تتخذ من التكرار والتجلي سُبلًا للمعنى.
كل "مربع" سردي يشبه عتبة تأمل أو محطة تأويلية، تُضاء بأنوار الذاكرة وتيار الوعي. تتنقل الرواية بسلاسة بين طبقات الزمن: الطفولة، الشباب، الحاضر، دون أن تبحث عن ذروة أو عقدة أو حل تقليدي، وإنما تصوغ حكاياتها من نبض الذات، فيكون السرد بمثابة ترتيب داخلي لأشلاء الروح.
منذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه أمام جسد مُسجّى، يُعيد عبر سرده المتدفق قراءة ماضيه، وسبر معاناته، والبحث عن علّة اغترابه عن الحياة. شخصيات الرواية تتداخل وتتوالد من رحم التجربة، لا بوصفها شخصيات نمطية، بل بوصفها تجليات لحالات إنسانية وروحية عميقة.
تمر الرواية بمحطات محورية تسائل فيها جدوى الحب، وآثار الحرمان العاطفي في الطفولة، وسطوة الدين حين يُفرض بالعنف، وغياب الأبوين بحجة "تأمين المستقبل"، وتتسع لتشمل قضايا كبرى حول الحلال والحرام، والبحث عن الله، وجدوى الدعوة إليه بالحب لا بالتعصب.
ومن خلال رحلة البطل إلى إفريقيا، والتي تتموضع على خطى الشيخ عبد الرحمن السميط، لا يقدم الكاتب مجرد تجربة دعوية، بل سعيًا وجوديًا لمعرفة الذات، وتجربة روحية يتجسد فيها الطفل "أكاتشي" كرمز للتجلي الإلهي ولبراءة الفطرة.
تتنوع المربعات السردية لتشمل الهروب من تسلّط الجد وتشدّد الجدة، ثم السفر إلى الكويت وما رافقه من صعوبات، ثم الزواج المفروض الذي أدى إلى إنجاب طفلة "داون" يرى فيها انعكاسًا لعدم وجود المحبة، قبل أن تتحول "ورد" إلى ضمير حيّ يواجهه بقوله: "أنا أشعر".
وفي الحبيبة "فريدة" يجد البطل مرآة ذاته، وتتحقق من خلالها المحبة الطاهرة التي تطهّر الروح دون أن تسقط في الإثم. أما النهاية المفتوحة، فتأتي بمثابة دائرة أخيرة في رقصة الوجود، إذ يعود نبض الجسد بينما تغيب الروح، ليبقى المحيطون به في مدار روحه المتسامية.
---
ثانيًا: اللغة والأسلوب
تتجلى لغة محمد سامي البوهي في "مربعات أكاتشي" بوصفها أكثر من أداة سرد، إنها كيان حيّ نابض، يتغلغل في النص كالموسيقى في الجسد. لغة مشبعة بالشعر، محمّلة بالرموز، تنساب برهافة وتلمس القلب قبل العقل.
تمتزج في هذه اللغة البساطة الشكلية بعمق دلالي كثيف، يتكئ على المجاز والاستعارة، دون أن يفقد صلته بالواقع أو يُغرق القارئ في التعقيد اللغوي. إنها لغة تهمس لا تصرخ، تضيء لا تفضح، تسقي لا تروي، وتدعو القارئ إلى التذوق والتأمل، لا إلى الاستهلاك السريع.
أسلوب الكاتب أقرب إلى "الوجد الصوفي"، حيث تتوالى الجمل كأمواج على شاطئ الروح، تطبطب تارة، وتهزّ تارة أخرى، لكنها في كل حال تنقل شحنة وجدانية عالية، تعيد للكتابة الأدبية ألقها الغنائي التأملي.
---
ثالثًا: الرؤية الفلسفية والتصوفية
تحمل الرواية بُعدًا تصوفيًّا عميقًا، لا باعتباره طقسًا دينيًا أو موروثًا ثقافيًا، بل كوعي وجودي شامل. "أكاتشي" – الاسم الذي يحمله الطفل الإفريقي – يتحول إلى رمز إلهي دال على "يد الله" التي تنسّق أقدارنا وتغذّي أرواحنا.
كل مربع سردي هو لحظة من لحظات الكشف: وجع، حب، فقد، رجاء، يأس، إشراق... وكأن الحياة نفسها ليست إلا لوحة فسيفساء، لا تكتمل إلا بتجاور المتناقضات وتآلف الأضداد.
ينتمي هذا العمل إلى ما يمكن أن نطلق عليه "أدب التجلّي"، حيث يقترب النص من أسلوب كبار المتصوفة كالحلاج، ابن عربي، والنفّري، ولكن بلغة معاصرة تُخاطب قارئ اليوم.
إنها رواية تسعى لأن تعيد الإنسان إلى جوهره، إلى حقيقته الأولى، وتحثه على تجاوز القشور الظاهرة نحو أعماق الروح.
---
ختامًا:
"مربعات أكاتشي" ليست مجرد رواية تُحكى بل تجربة تُعاش، هي رقصة مولوية في هيئة سرد، يدور فيها القارئ حول مركزه، ويخلع عن ذاته شوائب العالم ليعود إلى أصله النقي.
هي عمل أدبي متفرّد، يخطّ لمحمد سامي البوهي مكانة خاصة بين كتّاب السرد المعاصرين، ممن يكتبون لا لمجرّد الحكي، بل لمساءلة الوجود، واستبطان الروح، ومخاطبة القارئ الذي ما زال يبحث عن ضوء في قلب العتمة.
إنها رواية لا تُشبِع ولا تُرهق، بل تُذيبك بنعومتها، وتدفعك لتسأل نفسك: ما مربعي أنا في هذه الحياة؟ وأين تقع أكاتشي في خريطتي الروحية؟
بهذا المعنى، يمكن القول إن "مربعات أكاتشي" ليست عملًا أدبيًا فحسب، بل دعوة لتأمل وجودي طويل، قد يغيّرك أكثر مما يسلّيك.