أيظن أني لعبةٌ في يديه؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه.
تُغنّي بينما تمرّر الشماعات واحدةً تلو الأخرى. بأصابعها الطويلة الرقيقة
— أيُّ الفساتين سيسعد بصحبتي اليوم؟
تتأملهم، تفكر، تتردد، ثم تختار الفستان الأزرق، اللون الذي كان يعشقه.
أمام المرآة ترفع شعرها، تبتسم وكأنها تشجع ملامحها على الصمود، تخطط عينيها، بالكحل، لا تضع على وجهها سواه، إتفاق قديم غير ملزم الآن، لكنها اختارت الوفاء، ترتدي ساعة بإطار سماوي أهداها إياها صباح خطبتهما، ثم تنتعل الحذاء الأبيض ذي الكعب العالي.
تعرف أنه يحب هذا المزيج: الأزرق الهادئ والبياض المترف.
في السيارة، تدير المحرك ثم الراديو، مثبت كعادتها على إذاعة الأغاني، القيثارة تغني،
اليوم عاد....وكأن شيئا لم يكن
صدفة أراقت دمعها وأفسدت كحل عينيها، بهدوء انحرفت يمينا، أطفأت السيارة واشتعلت ذاكرتها، لقائهما الأول، صوته، قميصه الأزرق، لمسة يده، مصافحته، ابتسامته.
في المرآة الأمامية، أزالت آثار الأسود حول عينيها.
ما عدت أذكر والحرائق في دمي
تبتسم.
أحبت الشعر، لأجله أحبته.
كان يقول دائمًا:
أبي الشعر… الشعر أبي.
كيف، بعد كل هذا العشق له، لا تُحب أباه؟
وصلت وجهتها، مسرح الأوبرا الصغير، بدت في تلك الأمسية كنجمة هوليوودية، أنيقة، واثقة، مضيئة،تلقي قصيدتها ثم تنحني لتحية تصفيقٍ طال أكثر مما توقعت.
من الكواليس غادرت بخفةٍ من يعرف أن الحنين لا يليق بالمنصّات.
مساء الأمس كتبت على حائطها:
أنا في وسط البلد بكرة من ٩ إلى ١١ بليل مين متاح يشاركني فنجان قهوة؟
المنشور للجميع، والمقصود شخصٌ واحد.
كم قالت لنفسها: لن أعود إليه… ثم عادت.
مرة أخرى، في سيارتها متجهة إلى شارع ٢٣ يوليو، تختار أيظن من قائمة الأغاني المثبتة على جهازها المحمول
لم تلتقه منذ عامين. حاول كثيرًا، لكنها أقسمت أن لا رجوع.
واليوم، في قلبها، وميضٌ يخبرها أنه سيأتي.
تهزّ رأسها كأنها تُسقط الفكرة من عقلها، ولو سقط الحنين معها لربحت.
تتذكر حرائق البدايات، وجنون الخصام،تراخيه، اهداره لموهبته، محاولاتها المتكررة لحثه على الكتابة ومرّات الرحيل والعودة.
سنينَ عاشت فيها بين أصابعه كحبرٍ على ورقةٍ لا يريد أن يجف.
عرفت من منشوراته —التي تتابعها خفيةً— أنه يعيش خارج مصر منذ أكثر من عام.
عبث.
كل ما يخطر ببالها الآن محض عبثٍ جميل.
كان يقول دائمًا وهو يضحك:
أنا محض عبثٍ يا حبيبتي.
تذكرت كم مرة نهرته بعد مشاجرة وكم مرة خبأت رأسها في صدره، كطفلٍ أعيد إلى أبويه، بعد المصالحة.
تمرّ أمام حلواني العبد، تتوقف للحظة.تتذكر
كم مرةً اشترى لها الكوكيز من هناك، وقال إن طعمها أكثر لذّةً من شفتيها، فخبطته بقبضتها ضاحكة، فقبّل يدها وأمسك بإصبعها، مرّره على شفتيه وهو يهمس:
وصبايا مرسوم على شفتيه
قصيدته الأثيرة، لشاعره المفضل نزار.
سامحته وسألت عن أخباره، وبكيت ساعاتٍ على كتفيه.
شاعرٌ مجنون، هكذا كانت تصفه.
أحبها حدًّا أرعبها، حدًّا جعل الفراق يبدو كنجاةٍ مؤقتة.
واليوم، عاد.
وكأن شيئًا لم يكن.
وبراءة الأطفال في عينيه.
في كازينو بوسط البلد، كانت تفتح علبة الكوكيز.
التقطت واحدة، وضعتها بين أسنانها، قضمت نصفها، رفعت رأسها... فوجدته أمامها.
لم تُفكّر، لم تتراجع، وقفت، اقترب، اقتربت
خبأت رأسها عنده كما تفعل طفلةٌ ضلّت الطريق طويلًا ثم وجدته.
أمامها، صامتًا.
عيونهما تتكلمان، ترتجفان، يصمتان.
مدّ يده إليها،
فتركت له يدي ..لتنام كالعصفور بين يديه
نسيت كل حقدي في لحظة.
من قال إني قد حقدت عليه؟
بعد وقتٍ لا يُقاس بالساعات، تحدّثا، تعاتبا،
ثم أهدى إليها ديوانه المحمّل بعامين من الغياب ووعدٍ جديدٍ بالحياة.
كتب الإهداء بخطه المرتبك:
إلى رفيقة دربي،إلى الحب الوحيد،
إلى أملي الأخير،أهدي ديواني الأول.
في يده اليمنى يمسك ديوانه التاسع وجائزته عنه،بعد أعوامٍ
وفي يده اليسرى فتاةٌ في التاسعة عشرة تحمل باقة زهورٍ بنفسجية، تمامًا كما كانت أمها تحب.
تسير مزهوة و يدها في كفِّ أبيها الشاعر الكبير، الذي يعرفه الجميع.
غادرا المقابر.
في سيارته الحديثة، يضغط على الشاشة،
يختار نجاة:
أيظن...
يغنيان معًا:
حمل الزهور إليا كيف أرده
وصبايا مرسوم على شفتيه
استيقظ على صوت مضيفة الطيران وهي تهمس برقةٍ إن الرحلة إلى القاهرة ستهبط بعد دقائق.
نظر من النافذة… كانت الأضواء تتلألأ أسفل الغيوم كنجومٍ مقلوبة.
شعر للحظةٍ أن الأغنية لم تتوقف بعد، كأنها تتسرب من حلمه إلى قلبه.
لمس جيب معطفه فوجد الكوكيز التي لم يشترها بعد، وورقة مطوية كُتب عليها بخطه القديم:
أنا في وسط البلد بكرة من ٧ إلى ٩... مين متاح يشاركني فنجان قهوة؟
بعد يومين، قصد بيتها القديم.
الجيران قالوا إنها عزلت من شهور، وإن عنوانها الجديد لا يعرفه أحد.
وقف طويلًا أمام الشرفة الخالية، لمح الستارة تتحرك بفعل الريح، كأنها تُلوّح له مودّعةً.
أدار ظهره ببطء، وسار في الشارع نفسه الذي حلم أنه التقاها فيه.
كل تفصيلةٍ كانت كما رآها: الكافيه، الشارع، الأغنية الخارجة من مقهى بعيد، وحتى رائحة الكوكيز.
ابتسم وهو يتمتم:
"حتى أحلامي تعرف الطريق إليها أكثر مني."
رفع رأسه نحو السماء — كانت الغيوم تتفتح كصفحات ديوانٍ قديم، والمطر البنفسجي يهمي بخفة.
مدّ يده ليلتقط قطرة،
فيها رأى وجهها يبتسم للحظةٍ ثم يتلاشى.
يسير متجها إلى كازينو وسط البلد ويغني
ما أحلى الرجوعَ إليه… ما أحلى الرجوعَ إليه.





































