إنَّ مما يُؤسَف له أنْ يتخذَ طلاب العلم من شهر رمضان عطلة وإجازة من القراءة والدراسة بحجة الصيام، وعلة الأسف في ذلك أنه لم يكن رمضان هكذا أبدا، وإنَّ من يقرأ في تاريخ الجامعات الإسلامية الأولى التي بناها المسلمون في الأندلس وفي الشام وفي العراق وفي مصر يجد أنها كانت تتخذ من رمضان فرصة وموسمًا للمزيد من الدورات العلمية وتكثيف الأنشطة الدراسية، ولِما لا ورمضانُ عند الله هو شهر القراءة والعلم والدراسة!!
نعم، شهر رمضان هو شهر القراءة، ألا تعلم أنَّ أول أية نزلت من القرآن على سيدنا النبي ﷺ كانت في رمضان وكانت تحثُّ على القراءة وتدعو إلى العلم والبحث، قال تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ۞ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ۞ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ۞ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ۞ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ﴾.
وفي "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، (أن جبريل عليه السلام كان يلقى النبي ﷺ في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن).
إذن هناك علاقة وثيقة بين شهر رمضان وبين القراءة ومدارسة العلم، وليس كما يتوهم الواهمون بأنَّ رمضان شهر الراحة والنوم والإجازة والتغيُّب من الدروس والمعاهد والجامعات.
وقد يتسائل البعض: لماذا هذه العلاقة بين رمضان وبين العلم؟
أقول والله أعلم: إذا كان رمضان هو موسم الطاعات؛ فإنَّ العلم - لا شك - هو أفضل ما يتقرب به المسلم إلى ربه؛ لأنه صفة من صفات الله العليم الخبيبر البديع.
كما أنَّ شهر رمضان هو شهر تربية النفوس وتهذيب السلوك وكبح جماح الشهوات؛ للوصول إلى مرتبة التقوى التي هي غاية الصيام كما قال ربنا: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة 183]
وإذا كانت وسائل التقوى كثيرة، منها الصيام والصلاة والصدقة والذكر .... فإنَّ القراءة أيضًا تحقق معنى التزكية والتربية التي هي أولى خطوات التقوى !!.
وحجتي في ذلك هو كتابُ الله، الذي أُحكمت أياته وتنوعت ثمراته، فإنك - أيها القارئ الكريم - إذا تأمَّلتَ في فواتيح سورة العلق وسيما قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ﴾، تجد أن التعبير جاء بلفظ الربوبية (باسم ربك) ولم يأتي بلفظ الألوهية (باسم الله)، كما هو معهود في سياق القرآن، الذين يربط التسمية بالألوهية، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾، وكذلك في آية سورة النمل: ﴿إِنَّهُۥ مِن سُلَیۡمَـٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱرۡكَبُوا۟ فِیهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا﴾ [هود 41]
لكنَّ مع القراءة آثرَ - الحقُ سبحانه - أن ترتبط القراءة بالربوبية، فقال ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ﴾، لماذا؟
لأنَّ الربوبية فيها معنى التربية والتزكية، وكأن الله يقول لنا: القراءة تُربِّي نفوس صاحبها ... اقرأ لتُربِّي نفسك وقلبك وسلوكك ... القراءة تُربِّي العقول والقلوب والأفكار والمهارات ... القراءة تربية.
ثم يؤكد القرآن هذا المعنى، فيقول: ﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ﴾ [العلق 3]، رابطا القراءة بالتربية مرة ثانية.
وليس هذا فقط، بل إن القرآن قَرَنَ التقوى بالعلم في كثير من الآيات، فقال تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة 282]
وجاءت خواتيم (ست) أيات من كتاب الله بقوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟﴾ رابطا العلم بالتقوى، وهذه الآيات هي:
﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾ [البقرة 194]
﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [البقرة 196]
﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [البقرة 203]
﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُم مُّلَـٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [البقرة 223]
﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة 231]
﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ﴾ [البقرة 233]
بل إنَّ الله - سبحانه وتعالى - قَرَنَ العلم بالخشية، وجعل الخشية ثمرة من ثمرات العلم، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟﴾ [فاطر 28]، والخشية من مقامات التقوى.
وهكذا نرى أنَّ العلم والتقوى لا ينفصلان، فالعلم سبيل إلى التقوى، والتقوى ثمرة وغاية للعلم.
ومما لا ريب فيه أنَّ القراءة هي اللبنة الأولى في بناء الشخصية والعقلية العلمية، فلا يمكن أن يتحقق العلم إلا بالقراءة والكتابة والبحث والمدارسة والمذاكرة.
والسؤال الآخر الذي يراود الفكر: ما نوع القراءة التي يريدها رمضان؟ هل يراد بها قراءة القرآن فقط أم ماذا؟
لا شك أنَّ القرآن وثيق الصلة برمضان، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن كما قال ربنا: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾ [البقرة 185]
وقراءة القرآن - عامة - لها أجر كبير وفضل عظيم، لكنَّ في رمضان الأجور كلها تتضاعف فضلا من الله ورحمة.
وبالرغم من ذلك ليس لك أن تقول بأن القراءة المقصودة في آية سورة العلق خاصة بالقرآن أو بالسنة أو بالعلم الشرعي فقط.
فهذا تشدد في غير موضعه، فالقراءة ليست حكرا على علم دون علم أو شيء دون شيء، بل هي كلمة جامعة لكل ما ينفع الإنسان والأوطان ويحقق العمران.
وحجتي في ذلك هو كتاب الله، الذي جاء فيه الأمر بالقراءة عاما، يشمل علوم الخلق وعلوم الأمر، فقال تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ ۞ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾ وهذا عالم الخلق الذي يشمل كل المخلوقات من سموات وأراضين ونباتات وحيوانات وأفلاك وكل العلوم الطبيعية التي هي من عالم الخلق.
وأما قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ۞ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ فيراد به علوم اللوح والقلم والوحي.
وما عالمُ الخلق بغريبٍ عن عالم القلم والوحي، فكلاهما خَلق الله، قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف 54]
فرمضان شهر القراءة ... شهر المدارسة ... شهر القرآن ... شهر العلم
ينبغي على المسلم - الحريص على تحصيل الأجر الجزيل - أن يكثر فيه من مدارسة العلم والقرآن، وأن يكثر من حضور مجالس العلم، لعله يحظى بحفِّ الملائكة ونيل الرحمات، كمال قال سيدنا رسول الله ﷺ: (لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ).
وهل يُذكر الله إلا بأسمائة وصفاته؟ وهل العلم إلا صفة العليم جل جلاله؟!