استكمالا لحديثنا عن علماء الحضارة الإسلامية الذين تميزوا بموسوعية العلم وغزارة الفكر..
نعيشُ اليوم مع الإمام الكبير، فخر الدين، سلطان المتكلمين، شيخ المعقول والمنقول، مع العالم الموسوعي الذي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من العلوم الإنسانية واللغوية والعقلية إلى العلوم البحتة في الفيزياء والرياضيات والطب والفلك.
نعيشُ مع الإمام الفخر الرازي، أحد كواكب دولة الإسلام في القرن السادس الهجري.
وهو عالمٌ شهير، كثيرًا ما يتردد اسمه على منابر المساجد يوم الجمعة، وفي حلقات العلوم الشرعية؛ وخاصة في تفسير كتاب الله؛ لأنه أحد المفسرين الكبار، والذي اُشتهر بتفسيره الكبير «مفاتيح الغيب».
ويعتبر هذا التفسير من أهم تفاسير مدرسة «التفسير بالرأي»، بل وأفضلها على الإطلاق. كما يُعد موسوعة علمية متخصصة في مجال الدين الإسلامي عامة، وعلم التفسير على وجه الخصوص.
بالإضافة إلى ذلك، أنه عمدة التفاسير العقلية للقرآن الكريم، والذي يمثل ذروة المحاولة العقلية لفهم القرآن، بل هو مستودعٌ ضخم للتوجيهات العقلية والأقوال النظرية في التفسير.
وفي طيات هذا التفسير الضخم تستمتع بفقه الفخر الرازي ونفائس لغوياته ودقة تعبيراته وعظيم اجتهاداته.
ولو لم يصل إلينا من إرث الفخر الرازي إلا ذاك التفسير الضخم؛ لكان كافيًا للشهادة بموسوعية هذا الإمام الكبير.
لكنه ترك إرثًا جليلًا ورصيدًا ضخمًا من المؤلفات المتنوعة في كل مجال.
ففي علم الكلام ترك مؤلفات كثيرة منها:
المطالب العالية، ونهاية العقول، وكتاب الأربعين، والمحصل، ومعالم أصول الدين، وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وكتاب المباحث العمادية في المطالب المعادية، وكتاب تهذين الدلائل وعيون المسائل، وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار، وكتاب أجوبة المسائل التجارية، وكتاب تحصيل الحق، وكتاب الزبدة والمعالم، وأساس التقديس في علم الكلام، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ولوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفحات، وخلق القرآن بين المعتزلة وأهل السنة، وغير ذلك.
ومن مؤلفاته في الفلسفة والحكمة:
النفس والروح وشرح قواهما في علم الأخلاق، والإنارات في شرح الإشارات، ولباب الاشارات والتنبيهات (شَرْح الإشارات والتنبيهات لابن سينا)، وشَرْح كتاب عيون الحكمة لابن سينا، والمباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، وتعجيز الفلاسفة بالفارسية، ورسالة الجوهر الفرد... وله في المنطق: الآيات البينات.
وله في علم العقيدة: رسالة في القضاء والقدر، وكتاب النبوات وما يتعلق بها، ورسالة في عصمة الأنبياء، ورسالة في الخلق والبعث..
وله في الدراسات القرآنية: عجائب القرآن، ودرة التنزيل وغرة التأويل، ورسالة في التنبيه على بعض الأسرار المودعة في بعض سور القرآن العظيم، وقصة السحر والسحرة في القرآن الكريم.
وفي أصول الفقه له: المحصول، وشرح الوجيز للغزالي، غير اجتهاداته الفقهية المنتشرة في مؤلفاته الأخرى.
وله في المناقب: فضائل الصحابة، ومناقب الإمام الشافعي..
وكتبَ في البلاغة: كتاب نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، وابتدأ في شرح نهج البلاغة لكن لم يتمه.
وله في التصوف والأخلاق: رسالة في ذم الدنيا، وكتاب الأخلاق، وكتاب سراج القلوب.
وله في النحو: شرح كتاب المفصل للزمخشري في النحو.
وفي الأدب والشعر: شرح ديوان المتنبي، وشرح سقط الزند لأبي العلاء.
هذا، وبجانب علمه وموسوعيته في علوم الشريعة والحقيقة فقد كان له جهود رائعة في علوم الطبيعية والحياة.
ففي علم الطب: كان الفخر الرازي طبيبًا من أحذق أطباء زمانه وأشهرهم، قوي النظر في هذه الصناعة ومباحثها، شرح وهو في مقتبل العمر «قانون ابن سينا» وحظيت مؤلفاته في التشريح باهتمام أهل هذه الصناعة، كما تتلمذ على يديه تلاميذ اشتهروا بالمهارة في الطب مثل قطب الدين المصري.
ومن مؤلفاته في الطب: كتاب «الجامع الكبير»، ويعرف أَيْضًا بكتاب «الطب الكبير»، وله كتاب «التشريح من الرأس إلى الحلق»، وكتاب في «النبض».
كما أنه قد حرر «علم الفراسة» من الأفكار الدَجلية الشاذة، التي كانت تلتصق به، حتى جاء وميزه وأخرجه من هذه الدائرة ليدخله في دائرة العلوم كفرع من الطب، واعتبرهُ علمًا يقيني الأصول ظني الفروع، وقد ألَّف كتابه «الفراسة» بناءً على رسالة صغيرة لأرسطو، ولم يقف عند ما جاء فيها، بل وسعها وزاد عليها، مما جعل البعض يعتبرونه المعلم الأول في هذا الباب.
أما في الفلك فقد ألَّف «رسالة في علم الهيئة»، كما أَوْرَد الكثير من المسائل الفلكية في تفسيره؛ حيث كان كثير الاعتماد عليها في إثبات وجود الله تعالى، كما أنه كثيرًا ما يركن إليها في الرد على أقوال الفلاسفة وتفنيدها.
كذلك كتب مؤلفًا خاصًا في «الهندسة» إضافة إلى ما بثَّهُ من المسائل الهندسية في كتبه.!
بل إنَّ الإمام فخر الذين الرازي يُعتبر من علماء الحضارة الإسلامية، الذين اكتشفوا قوانين الحركة قبل نيوتن، حيث وصف الرازي في كتابه «المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات»:
القانون الأول للحركة فقال: «تُجدد مراتب السرعة والبطوء بحسب تَجدد مراتب المعاوقات - الخارجية والداخلية - كان كل زمان يحصل للحركة فإنما يحصل بسبب مقارنة أمور غريبة، وهي تلك المعاوقات الداخلية والخارجية، فلا تكون الحركة مستحقة في نفسها للزمان، وذلك محال، فإذا للسرعة والبطوء في طرفي الاشتداد والتنقص طرفان محدودان..».
وقال في القانون الثاني: «فإذا الجسمان لو اختلفا في قبول الحركة لم يكن ذلك الاختلاف بسبب المتحرك بل بسبب اختلاف حال القوة المحركة؛ فان القوة في الجسم الأكبر أكثر مما في الأصغر الذي هو جزؤه؛ لأن ما في الأصغر فهو في الأكبر موجود مع زيادة، وأما القوة القسرية فإنها يختلف تحريكها للجسم العظيم و الصغير لا لاختلاف المحرك بل لاختلاف حال المتحرك، فإن المعاوق في الكبير أكثر منه في الصغير».
وقال في القانون الثالث: «الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان حتى وقفت في الوسط، لا شك أن كل واحد منهما فعل فيها فعلاً معوَّقًا بفعل الآخر، ثم لا شك أن الذي فعله كل واحد منهما لو خلى عن المعارض لاقتضى انجذاب الحلقة إلى جانبه فثبت وجود شيء لو خلى عن المعاوق لاقتضى الدفع إلى جهة مخصوصة..».
ويُذكر أن موسوعته «حدائق الأنوار في حقائق الأسرار» تضم في جنباتها ستين علمًا من العلوم المختلفة.
هكذا كان الإمام الفخر الرازي موسوعيًا كبيرًا، لم يجميع بين فروع العلوم النظرية المتعددة فحسب، بل جمع بين علوم الشريعة وعلوم الطييعة!، وهذان مجالان متباعدان لا يجمع بينهما إلا النادرين، أمثال العلامة الفخر الرازي إمام الوقت ونادرة الدهر وأعجوبة الزمان.