كثيرًا ما تتردد على العقول فكرة عدم سماع الأموات، وكانت هذه حجة الماديين في إنكار عذاب القبر قديمًا، إذ قالوا كل موجود يُدرك بالحواس، وما لا تُدركهُ الحواس فهو غير موجود، وهذا طبعا جهل مُركَّب وحجة فارغة؛ لأننا جميعا على يقين بأن الهواء به أكسجين نتنفسه، وبالرغم من ذلك لا نراهُ ولا نَشُمُّ له رائحة ولا ندركه بحواسنا الطبيعية، لكن في العصور الأخيرة استطعنا إدراك جزيئاته وذراته بالمجهر.
على أية حال ليس هذا هو موضوعنا، ولكن السؤال الذي يجوز أن يطرحه أي إنسان وهو: لماذا هناك أشياء لا نراها ولا نسمعها رغم أنها موجودة؟
أقول: هذه من رحمة الله على الإنسان، أن جعل لأذنيه مدى محدود في السماع لا تقل عنه ولا تزيد، وجعل لعينيه مدى محدود أيضًا لا يتعداه ولا يقل عنه.
بمعنى: أنَّ أذن الإنسان الطبيعية تستطيع سماع الأصوات بترددات بين 20 إلى 20,000 هيرتز، أي أنها لا تسمع الأصوات التي لها ترددات أعلى من عشرين ألف هيرتز، ولا تسمع الأصوات الأقل من عشرين هيرتز.
وعلى هذا فإننا لا نسمع أصوات لغة النمل والحشرات والأسماك ولا نسمع تسبيح الجماد ولا نسمع الأصوات الناتجة عن حدوث التفاعلات الكيميائية داخل جسم الإنسان، لأن جميع هذه الأصوات يقل ترددها عن 20 هيرتز، لذلك تسمى بالموجات تحت السمعية.
وهذه من رحمة الله للإنسان؛ فماذا ستكون شكل حياته لو كان يسمع أصوات تدفق الدم في الأوعية الدموية، ويسمع صوت انقباض وانبساط العضلات، ويسمع صوت الخلايا العصبية والإشارات العصبية، ونسمع صوت عمليات الهضم والامتصاص في المعدة ...... ستكون حياة مُرعبة مخيفة للغاية، فالحمد لله أننا لا نسمع ذلك.
وكذلك لا نسمع أصوات إنفجارات النجوم ولا الأصوات الناتجة عن عملية التفاعل النووي بين ذرات الهيدروجين في الشمس، ولا نسمع أصوات المعذبين في قبورهم، لأن أصواتهم تفوق الحد المسموح لنا أن نسمعه، وهذه من رحمة الله أيضًا؛ فإننا لم نكن نستطيع العيش أبدًا لو كنا نسمع هذه الأصوات المُرعبة.
نفس الأمر في العين، التي خلقها الله لترى مدى معين، وحجم معين، لا ترى ما هو أقل منه، ولا ترى ما هو أكبر منه، لذلك لا نرى الجراثيم والميكروبات والذرات بأعيننا، فنلجأ إلى الميكروسكوبات لتكبير الأشياء الصغيرة، ونلجأ إلى التليسكوبات لتصغير الأشياء الكبيرة جدًا، ونلجأ إلى أجهزة الرصد لتقريب الشيء البعيد وهكذا.
وهذه من رحمة الله على الإنسان، إذ لو كان الإنسان يمتلك عينًا ترى كل دقيق ومتناهي؛ لتَعسَّرت عليه الحياة وما شَعَرَ بلذةٍ ولا راحة ولا سَكينة أبدًا، لأنه حينئذ يرى الميكروبات والطفيليات والجراثيم في الهواء والماء وعلى يدية وجسمه، وبالتالي لا يأكل ولا يشرب ولا يهنأ له عَيش... وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.