أما عن العلم الذي تميز به العلامة الكبير موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي عن بقية علماء عصره وتخصصه فهو «علم الآثار المصرية».
لقد انبهر عبد اللطيف البغدادي بالأهرام وبالآثار المصرية القديمة منذ اللحظة الأولى التي وفد فيها على مصر.
فوقف يتأمل في تلك الحضارة الفريدة العجيبة التي هي ثمرة مجموعة من العلوم والمعارف الهندسية والفلكية المدهشة ... مما دفعه هذا الانبهار المصحوب بالإعجاب والمُتوَّج بالدهشة إلى تدوين كلِّ ما وقعت عليه عينية من تلك الآثار.
فألَّف كتابه الكبير المسمى «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر من الآثار» ليكون شاهدًا على خلاصة رحلته وأيامه التي عاشها في مصر.
في هذا الكتاب تحدث الموفق عبد اللطيف البغدادي عن مصر وخواصها وما تتميز به من ثروة نباتية وحيوانية وبحرية، ووصف مبانيها القديمة، وتحدث عن الأحداث التي جرت فيها أثناء الفترة التي أقامها بمصر.
كما أنه تحدث باستفاضة عن الآثار المصرية القديمة في منطقة الجيزة ومنف وبوصير، ووصفها وصفًا دقيقًا كما شاهدها، وكان يسعى لذلك بكل الوسائل، لدرجة أنه كلف رجلًا كي يقيس له ارتفاع الهرم.!
فوصف شكل الأهرام، وحجارتها من حيث حجمها وكيفية رصِّها ولونها وتركيبها، وتحدث عمن بناها وشيدها، وذكر جملةً من الروايات الشعبية التي سمعها من المصريين حول أسرار الأهرام.
وكانت لكتاباته هذه أهمية كبرى في دراسة التاريخ المصري، حيث تبين لنا - من خلاله - أنَّ الأهرام كانت تُطلى بمادة جيرية بيضاء، وكان عليها كتابات كثيرة، وكان ارتفاعها أكبر من الارتفاع الحالي...
ولعلَّ أحدًا يتسائل: وما سر الانبهار بكتابات الموفق عبد اللطيف عن الأهرام رغم أن هناك كتابات كثيرة لغيره؟!
أقولُ: لأنه لم يكن رجل آثار من البداية، بل هو عالم شريعة كما ذكرنا في مؤلفاته، لكنه حين يكتب في الآثار بهذه الدقة بجانب تخصصه الآخر فهذا أمر أدعى للانبهار والإعجاب.
ومن جهة أخرى فإنَّ سر الاهتمام بما كتبه الموفق عبد اللطيف البغدادي يرجع إلى مشاهدته الحقيقية لتلك المَعَالم، فلم يكُ حديثُه حديث من روى وسمع، بل كان حديثُه حديث مَنْ رأى وعاينَ وشاهد بنفسه وبحواسه.
كما أن الانبهار بهذا الرجل يرجع بنا إلى موسوعيته المدهشة التي شملت علوم الشريعة وعلوم الحياة والطبيعة وعلوم الآثار والتاريخ، فهذه تركيبة عقلية قلَّما تجدها في الحضارات الأخرى.
فرحمةُ الله عليه وبركاته وصلاته وعلى كل الذين شاركوا في خدمة العلم والعمران والإنسانية.