عندما ننظر إلى الأحاديث النبوية الشريفة فيما يتعلق بليلة القدر وتحديد زمانها، نلاحظ أن الإرشاد النبوي جاء بلفظ التحري والالتماس، فقال ﷺ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ، مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». رواه البخاري
وفي رواية عند البخاري أيضًا قال ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وهنا - في الحقيقة - استوقفني سر التعبير بلفظ (تحروا - التمسوا)، وألقى في نفسي معنىً جديدًا لم أكن أَلْـتَفِتُ إليه من قبل ولم يذكره أمامي أحد !!.
وقبل الإفصاح عن هذه المعاني، أودُّ أن نفهم أولا معنى هذين اللفظين في لغة العرب.
إذا بحثنا عن معنى كلمة (تحروا) في قواميس اللغة العربية نجد أن النحاة والصرفيون يقولون:
تحرَّى، يَتحرَّى، تَحرَّ، تحرّيًا، فهو مُتحرٍّ، والمفعول مُتحرًّى، أي: تأنَّى في الطلب والبحث والتفتيش مع التدقيق.
يقال: تحرَّى الصواب أي: توخّاه وطلبه وقصده، وتحرَّى الحدثَ أو تحرَّى عن الحدث أي: اجتهد في طلبه ودقَّق وبحث عنه باهتمام، ويتحرَّى في الأمور أي: يَتَقَصَّاهَا بِالبَحْثِ وَالتَّنْقِيبِ وَالتَّفْتِيشِ لكي يصيب الأفضلَ.
قال تعالى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا}، أي: تأنوا وتوخوا في طلبه والبحث عنه.
وأما كلمة «الالتماس» فهي من (التمس، يلتمس، التماسًا، فهو مُلتمِس)، وتعني: الطلب.
يقال: التمس الشَّخْصُ الشَّيءَ أي: طلبه.
ولها معنى آخر وهو الإيجاد، يقال: التمسَ له عُذْرًا أي: أوجده.
أما عن المعاني التي تراءت لي حول لفظ (التحري) فهو المعنى العام لهذا اللفظ، وهو التوخي والتروي في طلب الحقيقة.
وكأني أشعر في هذا اللفظ النبوي أنه ينادينا أن تحرُّوا الأخبار الأكيدة ولا تصيغوا سمعا لكل شائع.
أن تحرُّوا الأعمال الصالحة وابحثوا عن كل ما يقربكم إلى الله.
أن تحرُّوا العلم النافع وابحثوا عنه في كل مكان واطلبوه من أهله أينما كانوا.
أن تحرُّوا اليقين في الله واطلبوه من مجالسة الصادقين المخلصين.
أن تحرُّوا وابحثوا عن كل عمل يرفع شأنكم في الدنيا والآخرة.
كأني بهذا اللفظ النبوي أنه ينادي كل عاطل أن ابحث عن فرص عمل وتحرى في طلبه ولا تيأس.
وكأني به ينادي كل إنسان أن تحرى المال الحلال في كسبك ولا تكن ممن لا يبالي أهو من الحلال أم من الحرام.
تنادينا هذه الألفاظ النبوية أن تحرُّوا الليالي المباركة والأوقات الطيبة واغتنموها لعلكم تنالوا نظرة من الله لا تروا بعدها شقاءً أبدًا.
أن تحرُّوا الصادقين من الناس واصحبوهم فإن مجالستهم دواء ومعرفتهم قرب وشفاء.
أن تحرُّوا الحلال في كل شيء وإياكم وما يغضب الله أو مما فيه شبهة على الأقل.
وأما عن لفظ (الالتماس) فإني سمعتُ فيه همسات رسول الله ﷺ وهو يأمرنا أن نلتمس لإخواننا العذر بعد العذر ولا نسيء بهم الظن.
وكأني أسمع في هذا اللفظ قول سيدنا جعفر بن محمد وهو يقول: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته، وإلا، قل: لعل له عذرًا لا أعرفه).
وكأني أشُمُّ في لفظ (التمسوا) الأمر بالعفو والصفح والتراحم.
ولم لا؟ وكيف لا؟
وشهر رمضان - وخاصة العشر الأواخر منه - هو موطن للصفح الإلهي والعفو الرباني عن عباده!.
ألم يرشدنا النبي ﷺ أن نكثر في هذه الأيام من الدعاء الشريف (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عنا).
وإذا كانت هذه الأيام موطنا للعفو الإلهي، أليس من الواجب أن يعفو بعضنا عن بعض وأن يشمل بعضنا بعضا بالمغفرة والتصافح والتصالح.
هذه بعض المعاني التي حسستُ بها وأنا أقرأ الحديث النبوي في تلك الأيام، فأحببتُ أن أشاركم بها، فإن كانت صحيحة فنرجو من الله الثواب وإن كانت غير ذلك فنرجوا منه المغفرة والإحسان.