إنَّ مما أدركه الناس بتجارب حواسهم أنَّ للروائح الطيبة أثرًا إيجابيا على النفس البشرية، إذ يشعر الإنسانُ عند استنشاقها بالطمأنينة والراحة الوجدانية، وهو شعور جميل، ربما لا تستطيع العبارات أن تصفهُ بدقة، وليس مَنْ عَرَفَ كمن ذاق واغترف !!
ولذلك كان من عادة البشر منذ القديم أنهم يتهادون فيما بينهم بالعطور والورود والروائح الطيبة، وذلك لكونها ثمثل أمرًا مهما في إدخال البهجة والسرور على النفس.
ولقد أثبت علماء النفس أن الروائح لها دور مهم في تغير الأمزجة، وأن الروائح الحسنة تشرح الصدور وترسم البهجة في النفوس، أما الروائح الخبيثة المنتنة فإنها تدخل الإشمئزاز والتضجر على النفوس، لذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «من نظَّفَ ثوبه قَلَّ همُّه ومن طاب ريحه زاد عقله».
ولأن العطر والرائحة الطيبة جزء مهم من متاع الدنيا، نرى السيدة أمامة بنت الحارث الشيباني توصي ابنتها أم إياس عند زفافها إلى عمرو بن حجر أمير كندة قائلة: «فلا تقع عينه منك علي قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح».
ولطالما كان رسول الله ﷺ - من قبل - وهو الأسوة الحسنة - يحب الروائح الطيبة، بدرجة عالية جدًا، فيقول في حديثه الشريف: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ؛ وذكر منها الطِّيبُ». أي العطور والروائح الطيبة.
وسَنَّ لأمته التطيب يوم الجمعة ويوم العيدين وعند الخروج للصلاة وعند حضور مجالس الذكر، وسائر الأوقات، ليربط بذلك الإنسان المسلم على الدوام بالرائحة الطيبة.
وهكذا نرى أن الروائح الطيبة كما أنها جزء مهم من متاع الدنيا، فإنها أمر مطلوب في باب الشرع الشريف.
⬅️ بل من العجيب أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد ربط متاع الآخرة ونعيم الجنة (بالروائح الطيبة) كما جعلها من متاع الدنيا ونعيمها !!
ففي القرآن الكريم نجد أنَّ الله قد ربط ينابيع الجنة بالروائح الطيبة في كثير من الآيات مثل:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان ٥] والكافور نبات عطري ذو رائحة نفاذة وزكية جدا.
وقوله تعالى: ﴿وَیُسۡقَوۡنَ فِیهَا كَأۡسࣰا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلًا﴾ [الإنسان ١٧] والزنجبيل أيضا نبات ذو رائحة زكية.
وقوله تعالى: ﴿یُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِیقࣲ مَّخۡتُومٍ ۞ خِتَـٰمُهُۥ مِسۡكࣱۚ وَفِی ذَ ٰلِكَ فَلۡیَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَـٰفِسُونَ﴾ [المطففين ٢٦]
ووصف الشراب بالرحيق وبالمسك إشارة إلى رائحة الشراب الزكية.
⬅️ وكذلك وصف ربنا ثمار الجنة وفواكهها بالرائحة الطيبة، فقال تعالى: ﴿فِیهَا فَـٰكِهَةࣱ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ۞ وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّیۡحَانُ﴾ [الرحمن ١١- ١٢] والريحان معروف برائحته الزكية النفاذة.
⬅️ بل وصف ربنا عموم النعيم في الجنة بالرائحة الطيبة، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِین ۞ فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ﴾ [الواقعة ٨٨- ٨٩]
⬅️ وفي السنة النبوية نجد رسول الله ﷺ كثيرًا ما يثبت في صريح كلامه الشريف أنَّ للجنة رائحة طيبة ومميزة، لا يشمها إلا أهل الصفوة من المؤمنين الصادقين.
فقال ﷺ: «من ادعى إلى غير أبيه فلن يرح رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاما».
وقال ﷺ: «من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة توجد من مسيرة مائة عام».
وفي حديث آخر: «أَيمَا امْرَأَةِ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ لَمْ تَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».
إلى غير ذلك من الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تفيد أنَّ للجنة رائحة، وأن هذه الرائحة تنفذ وتخترق المسافات الشاسعة التي تقدر بمسيرة السنين.
وفي حديث مسلم الصحيح والصريح، قال رسول الله ﷺ: «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».
وقَال ﷺ في وصف حوضه الشريف: «وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ».
ولله در سيدنا علي بن أبي طالب حين قال:
واعمل لدار البقاء رضوانُ خازنها
والجارُ أحمدُ والرحمنُ بانيها
أرضها ذهبٌ والمسكُ طينتها
والزعفرانُ حشيش نابتٌ فيها
أنهارها لبنٌ محض ومن عسلٍ
والخمر يجري رحيقًا في مجاريها
فاللهم يا ربنا نسألك كما أشممتنا روائح الدنيا الزكية أن تمنن علينا بروائح الجنة العلية، بكرمك وإحسانك يا كريم.